الطليعة والابتكار.. فى السينوغرافيا الرقمية(3)

الطليعة والابتكار.. فى السينوغرافيا الرقمية(3)

العدد 937 صدر بتاريخ 11أغسطس2025

الميزانسين
يبدأ العمل بممثلين يجلسان على كرسيين عتيقين على طاولة مقهى رخيصة مغلفة أمام بيانو قديم (انظر الشكل 2-1 ). وبصرف النظر عن الأرضية الخرسانية، فإن المشهد أشبه بغرفة معيشة عند ريتشارد فورمان: مزدحمة، وضيقة، ودافئة، وخشنة، وجاهزة. وهناك العديد من أجهزة التليفزيون ذات أنبوب أشعة مهبطية cathode ray موضوعة حول منطقة الأداء، والتي تعد ركنًا من المقهى. توجد أجهزة التليفزيون على حوامل بدائية، ورفوف، ووحدات أدراج، وأكوام مؤقتة من المنصات. يستضيف أحد الجدران جهاز عرض فيديو كبيرًا، بينما تغطي الجدران الأخرى صورًا بالأبيض والأسود، تبدو وكأنها صور ملتقطة من عروض فيديو أخرى بطيئة المسح، قدمها هناك رابينوفيتش وجالواى. وتتساقط كابلات الطاقة ولوحات التوصيل وكابلات الصوت والفيديو من الجدران والسقف، مثبتة بشريط لاصق أو مثبتة بمسامير على عجل مع القليل من الاهتمام بالتكتم.
يقوم المؤدون بتدوين ملاحظاتهم على قصاصات من الورق، وتبادلها وفحص كتابات بعضهم البعض. وفي الوقت نفسه، تتكون الموسيقى التصويرية في الخلفية بشكل أساسى من هدير إلكترونى منذر ومحيط تتخلله أصوات تشبه القيثارة يتم توليدها إلكترونيًا بنغمة شرقية. ويحيط بهم مصور الفيديو (جالواي)، باستخدام هاتف الفيديو بطيء المسح slow scan videophone، ويلتقط صورًا لهم وملاحظاتهم. فتظهر صور هاتف الفيديو على بعض الشاشات المحلية وتُرسل إلى مكان بعيد في نيويورك. وهناك مصورو فيديو آخرون يلتقطون موجزات فيديو قياسية، لا تُعرض إلا في المساحة الداخلية. وعلى أحد جانبي مساحة الأداء يوجد عازفا أوتار (عازف كمان وعازف تشيلو) يرتديان ملابس أوركسترالية رسمية. بعد حوالي خمس دقائق يأخذا زمام المبادرة من الأصوات الإلكترونية المحيطة. تبدأ آلة التشيلو بنغمة رتيبة طويلة ومنذرة وعميقة، ثم يقاطعه الكمان فجأة بسلسلة محمومة من الصرير والخدش عالي النبرة، ما يجلب صفات متنافرة وغير متناغمة وطليعية بشكل واضح إلى المشهد الصوتي. هذه هي الإشارة للراقصين للانخراط في تصميم رقصة تتكون من تحولات متناقضة ونقل للوزن تزداد شدتها، وتتفجر أخيرًا في كريشندو تعبيري من الضرب وسحب الكراسي وتبادل المواضع، مما يثير الصراع. يُظهر كلا الراقصين مهارة ممتازة، ونظرًا للمساحة الضيقة التي يتعين عليهما التحرك فيها، فإن تصميم الرقصة محمّل بالدينامية. وفي الإثارة، تنتشر النوت الموسيقية المكتوبة في جميع أنحاء منطقة المسرح، ما يؤدى إلى تقدم الموضوعات إلى موضوع البحث والاسترجاع وإعادة مشاركة الآثار المكتوبة. ويؤدي إعادة التركيز على قصاصات الورق إلى تحويل الإيقاع من الدينامية إلى السكون والموضوع من الصراع إلى الحل، مما يوفر تناقضًا دراميًا للجنون السابق.
إن السرد منظم على هيئة دراما إذاعية تعبيرية expressionistic station drama، بمعنى وجود عدة مشاهد منفصلة (في هذه الحالة، ثلاثة) ومترابطة بشكل فضفاض. ويتألف المشهد الثاني بشكل أساسي من نص، يتألف من ممثل جالس، يدون ملاحظات مرة أخرى، وجوقة (من ثلاثة مطربين)، يكررون حوارًا متقطعًا من كلمات مفككة، بنبرة مبالغ فيها صوتيًا، مما يستحضر نوعًا من الروبوت أو الآلة التي تعاني من خلل. ويتم الحفاظ على إيقاعهم من خلال دقات مكبرة لمسّرع إيقاع، جالس على طاولة مستديرة مغلفة. وتؤدي الجوقة المتكررة والمربكة إلى مونولوج يتكون من فحص ذاتي وداخلي وعصبي لظاهرة الأيدي.
المشهد الأخير هو الأكثر صلة بالموضوع السينوغرافي لهذا الكتاب. هنا، ترتدي ستوبييلو جهاز MidiDancer وتؤثر حركيًا على التكوين الموسيقي الإلكتروني، بينما تقوم أيضًا بتشغيل أحد أجهزة الفيديو فون videophone لمسح الصور، التي تُعرض في الفضاء الداخلي وإرسالها إلى جمهور مدينة نيويورك البعيد. وكانت التقنية الحركية محدودة بالمشهد الأخير من العرض لأن ترويكا رانش أكدت أنه لا ينبغي أن تكون هناك “تكنولوجيا قبل الحاجة اليها”؛ أي أنه يجب إعطاء كل عنصر أدائي مساحته الخاصة، والسماح له “بالتنفس” ككيان مستقل. إن تصميم الرقص الخاص بها بطيء وثابت وآلى، وعند مقارنته بالثنائي، يفتقر إلى الدينامية. ومع ذلك، فإنه يقدم أيضًا راحة ضرورية من شدة المشهد النصي السابق، حيث تعرض الجمهور لقصف من العبارات المتكررة والمتقطعة والمكونة من مقطع واحد يليها المونولوج المزعج. وينقل جهاز MidiDancer ومشهده الصوتي الموسيقي الإلكتروني نوعًا من الهدوء، على الرغم من تعقيده التقني والموضوعات الأساسية لراقص آلي (حرفيًا) متصل بأقصى سرعة. ويتم فرض صفات الحركة البطيئة على تصميم الرقصات من خلال تقنيات MidiDancer والفيديو فون لأنها تتطلب «تصميم رقص آلي محدد.. لتشغيل النظام» ، وتغذي هذا في المشهد السمعي البصري. ونظرًا لأن مقاطع الفيديو «ستكون التمثيل الوحيد للرقص الذي سيراه جمهور نيويورك»، فقد اضطرت ستوبيلو إلى تعديل تصميم الرقصات مع مراعاة القيود التكنولوجية؛ وهكذا، فإن السرد (الداخلى) والميزانسين يتحددان من خلال التكنولوجيا والجمهور البعيد. وتشكل القيود والإمكانات التي توفرها التكنولوجيا موضوعًا مهيمنًا ومتكررًا في هذا الأصل.

الوصف التقنى
كان جهاز الفيديو فون بطىء المسح يعمل مثل جهاز الفاكس؛ حيث كان يقوم بمسح الصورة تدريجيًا. وكانت وحدات البكسل تُكتب على الشاشة سطرًا تلو الآخر، مثل الطابعة. وعندما يتم تشغيل وظيفة الإرسال، فإنها تمحو الصورة الحالية، وتعيد ضبط الشاشة إلى اللون الأسود وتبدأ الصورة التالية. وكان الأمر يستغرق خمس ثوانٍ لمسح صورة واحدة وإرسالها إلى الموقع البعيد(1). ومع ذلك، كان لا بد من تركها على الشاشة لفترة أطول بكثير، لأن الجمهور البعيد كان يحتاج إلى الوقت لاستيعاب وتأمل ما كان يشاهده. وبالتالي، كانت مشكلة الإخراج تتلخص في نوع من الميزان الثنائي، حيث يرى الجمهور الداخلي (المتجسد) في لوس أنجلوس شيئًا واحدًا ويرى الجمهور البعيد (غير المتجسد) في مدينة نيويورك شيئًا آخر. وكان الأخير ينظر إلى سلسلة من الصور الفريدة والزائلة التي يتم عرضها ثم يتم استبدالها بالصورة التالية. وقد أرادت ستوبييلو تصميم رقصة لجهاز الفيديو فون تختلف عن ما شاهده الجمهور الحي في لوس أنجلوس. وتقول:
لقد أصبحت مهتمًة جدًا باختى ار أشكال الجسم التى من شأنها أن تخلق، عند رؤيتها فى تسلسل فى نيويورك، تجربة سردية مختلفة عن تلك التى قد يختبرها الجمهور المباشر فى لوس أنجلوس. فبدا من الضرورى إيجاد طريقة لجعل الفيديو المتقطع والمنخفض النطاق الترددي يعبر عن شىء مختلف عما يمكن للراقص ذى النطاق الترددى الكامل (المباشر) تقديمه. كان الأمر المهم فى هذا المنهج هو أنه أكد ما هو مميز فى التكنولوجيا وقدم طريقة مختلفة لرؤية الرقصة.
منذ البداية، كان هناك اعتراف بأن الجمهور البعيد لم يشاهد العرض المباشر ولا يشاهد تسجيلًا؛ بل كانوا يشاهدون شيئًا آخر. تصفه ستوبييلو بأنه «عرض حى مخصص بتقنية إيقاف الحركة»، تم تصميمه خصيصًا لسكان نيويورك.
كان الفيديوفون videophone عملا تقنيا مبتكرا في حد ذاته. ولكي ينجح المفهوم الهجين، كان على كونيجليو اختراق الجهاز حتى يتمكنوا من دمج مشغل التحكم عن بعد. “كان جالواي شجاعًا وكريمًا بما يكفي” للسماح لكونيجليو بقطع أحد الهواتف المرئية المصممة خصيصًا وتعديله لتحقيق هذه الغاية . لقد دمج  مفتاح إغلاق مخصص، ما سمح له باستخدام رسائل MIDI لتشغيل الفيديوفون. ومن أجل أن تعمل التكنولوجيا، صممت ستوبييلو رقصة منفردًا تحتوي على مفردات رقص محددة قابلة للقراءة آليا. عندما تقوم بالوضع الصحيح، فإن جهاز MidiDancer سوف يستشعر ذلك ويرسل رسالة إلى الفيديوفون لالتقاط صورة؛ يتحكم الوضع المحدد مسبقًا رمزيًا في الفيديوفون. لذلك، كان لابد من تأليف الرقصة بدقة شديدة لأن التكنولوجيا كانت تستمع إلى بيانات بيومترية كمية محددة للغاية.
لم تعد كلمة MIDI مجرد اختصار لواجهة الآلة الموسى قى ة الرقمى ة musical instrument digital interface أو مجرد كلمة فى اسم جهازنا، بل أصبحت يمثل بالنسبة لى الآن مسارًا يسمح لإيماءاتى بالتحكم فى أى جهاز وسائط بشكل أساسى.
لقد عمل برنامج MidiDancer من خلال تحليل تدفق البيانات الحيوية (البيومترية) الكمية التي كانت تُرسلها أجهزة استشعار الانحناء. وكان البرنامج يستمع إلى مجموعة معينة من الأرقام الإحصائية التي تشير إلى أن ستوبييلو قدمت المفردات الحركية المتفق عليها (شكل الجسم)، والتي من شأنها أن تنشط المشغل وترسل المحتوى السمعي والبصري  videogram إلى نيويورك. وكان لا بد أن تكون تصميم الرقصات (الكوريجرافيا) بطيئًا ومحسوبًا حتى يتمكن البرنامج من التعرف على مجموعات البيانات؛ وكانت سلسلة من الحركات السريعة من شأنها أن تنتج بيانات مفرطة وزائفة، ما يربك النظام ويمنع التعرف على الأنماط الرقمية. وكانت هذه الحاجة إلى مفردات كوريجرافية (كمية) قابلة للقراءة آليًا تعنى نشوء توتر بين المنهجين الشكلي والارتجالي للمشهد المزيف. من ناحية، كانت هناك حاجة إلى تحديد لغة فيزيائية حيوية واضحة تسمح للبرمجيات بالتعرف على الإيماءات المنشطة، ومن ناحية أخرى، كانت هناك إرادة للحفاظ على الرقص مفتوحًا وعفويًا بما يكفي للإشارة إلى خصائص المحادثة، والتي من شأنها أن تكمل الحيوية في قلب البث القائم على الفيديو.

خلفية المشروع وميول الطليعة
في ذلك الوقت، كانت ستوبييلو وكونيجليو يتلقيان دروسًا في الأداء، مع المتخصص  في المسرح سكوت كيلمان، في مجمع فنون الشارع 18the Street Arts Complex في سانتامونيكا، الذي يضم اليكترونيك كافيه انترناشيونال ECI. تعلم كيلمان حرفته في مشهد المسرح في نيويورك في الستينيات حيث تأثر بشكل خاص بجوزيف تشاكين (المسرح المفتوح (2)) وبيكس (المسرح الحي(3))، والذين مارسوا جميعًا أساليب تجريبية وارتجالية وكانوا مناصرين أقوياء لعقلية الطليعة النشطة، التي تعتبر “المسرح قوة للكشف وترياقًا للوجود البرجوازي”. وقد أثرت دروس كيلمان على ترويكا رانش لتبني نهج تجريبي مفتوح لممارستهم. وقد تم تشجيعهم على الثقة في حدسهم وعدم الانغماس في صياغة المسرح الرسمى. فكان نموذج تطوير الأداء يقوم على العيش في نوع من صندوق الرمل - مكان آمن حيث يمكن إجراء التجارب في سماء زرقاء. وبالنسبة لترويكا رانش، كان هذا قفزة منهجية لأنهم قادمون من معهد كاليفورنيا للفنون، وقد تم تدريبهم على عقلية أكثر تقليدية تتمثل في تأليف شديدة الدقة. وأدى تحولهم المنهجي نحو نهج درامي تجريبي إلى إعادة تنظيمهم مع العقيدة الجمالية للطليعة، والتي تعتز بالتجريب والارتجال. كان جالواي ورابينوفيتش أيضًا من كبار المؤيدين للتلقائية، ونظرًا لوساطتهما التعاونية، فقد اكتسب عرض “مذكرات لمسية “ خصائص درامية وسينوغرافية قوية للطليعة. يلاحظ كونيجليو: “من المؤكد أنهم كانوا على حق، فهذا النوع من العمل لا يعني أي شيء إذا كان مكتوبًا مسبقًا ومسجلًا، لأنك إذا فعلت ذلك، فلن يكون هناك سبب حقيقي يجعل الاتصال منطقيًا”. إن تأليفه مسبقًا من شأنه أن يجرد العمل من معناه وصفاته الحية والحوارية لأنه يمكن للمرء، بدلاً من ذلك، تسجيل فيديو رقص مسبقًا والحصول على نفس النتيجة. هذا يطرح السؤال: ما الخطأ في استخدام الفيديو المسجل مسبقًا؟ كان الفنانون يفعلون ذلك بالفعل لعقود من الزمن، مع شهرة ونجاح نسبيين. كان نام جون بايك وولف فوستيل يجربان تقنيات أداء الفيديو منذ الستينيات، و»أدى تقديم نظام تسجيل الفيديو التماثلي portapack من سوني في 1965 إلى انتشار ممارسة فن الفيديو على نطاق واسع”. وفي الوقت نفسه، كان مبدعو المسرح مثل فرقة ووستر جروب، وفرقة جورج كوتس “أعمال الأداء”  وفرقة روبرت ليباج “اكس ماكينا” قد أسسوا ممارسات سينوغرافية راسخة تتضمن شاشات عرض الفيديو. ونظرًا لأن التلفزيون كان بالفعل جهازًا مسرحيًا مهيمنًا إلى الحد الذي أشار فيه ببساطة إلى معاصرة العمل، فما الذي ميز استخدامه في عرض “ مذكرات لمسية Tactile Diaries” عن النشر الإبداعي السابق والمعاصر للتكنولوجيا؟ والأمر الأكثر أهمية هو ما الذي يميز هذا الاستخدام المحدد للفيديو والذي يجعله رقميًا على وجه التحديد، وبالتالي تجنب فخ استخدام التقنيات الجديدة لقدرة التقنيات القديمة؟ تمثل عمليات نقل الفيديو عبر القارات في الوقت الفعلي، على أساس البث غير المنظم واللا مركزى، استكشافًا رائدًا للمؤتمرات عن بعد teleconferencing والتمثيل عن بعد teleacting. لذلك، فهو يقوض النظام الهرمي الذي تسيطر عليه الحكومة في النشر الرمزي، ومن خلال عرض تمثيل وسائطي للذات في مكان بعيد ماديا، فإنه يساعد في تمهيد الطريق نحو فكرة التواجد عن بعد.
التمثيل عن بعد وإضفاء الطابع الديمقراطى على بث الفيديو
يقوم مفهوم عقد المؤتمرات عن بعد على أساس نقل تمثيل سمعي بصري للمتحاورين في الوقت الحقيقي. إنها ليست ظاهرة فريدة من نوعها في التقنيات الرقمية؛ بل إنها شىء نشأ ببطء أثناء تطوير التقنيات التناظرية. إن كتاب والتر بنجامين «العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكيThe Work of Art in the Age of Mechnical Reproducibility” هو النص المفضل لهذا العصر، وتركيزه على العلاقات بين البصريات والمسافة وثيق الصلة بعقد المؤتمرات عن طريق الفيديو.
بالنسبة لبنيامين، فإن الفيلم القابل للاستنساخ ميكانيكيًا يمثل قطعة أثرية ثقافية جديدة تمامًا تعطل “أنماط الإدراك البشري المألوفة”، وتحول الطريقة التي يتفاعل بها البشر مع العالم. يقترح أن هناك «هالة» كامنة في الفن والطبيعة تعزز التجربة الجمالية، ويؤكد أنها تنشأ من «الظاهرة الفريدة للمسافة»، والتي يقارنها بالنظر إلى «سلسلة جبال في الأفق». وبالنسبة لبنيامين، فإن ظروف الهالة يتم تحديها بشكل كبير من خلال التقنيات الميكانيكية لأن إعادة إنتاج الصور والنشر العام يؤسسان نوعًا جديدًا من المسافة الوسيطة التي تقوض «المسافة الطبيعية». ومع ذلك، فهو لا يجادل لصالح أو ضد أي من السلالتين؛ فهو أكثر اهتماما بتحول العلاقة بين الفنان والموضوع الفني والجمهور.
إن احترام المسافة، الذي تراعيه أساليب التمثيل التقليدية (مثل الرسم)، قد قُوِّض بواسطة تقنيات النقش الجديدة لأن الفنان والموضوع يمكن أن يكونا في أي مكان وفي أي وقت. ويمكن استبدال الأشياء بشكل خاطئ بسياقات مكانية وزمانية مختلفة من خلال المونتاج ولغته القائمة على الزمن من التجاور الرمزي، مما يسهل بشكل أساسي بناء الواقع بشكل مضلل. وبالتالي، يجب التخلص من فكرة المسافة الطبيعية وكذلك الموقع المكاني والزماني الفريد للشيء.
ومن الأهمية بمكان، بالنسبة لبنيامين، “رغبة الجماهير المعاصرة في تقريب الأشياء مكانيًا وإنسانيًا”. فهو لا يرتبك إزاء هذا الميل؛ فهو غريزة طبيعية تتشكل من فضول أساسي، وهو سمة طيبة تولد التقدم المعرفي، وتوفر التكنولوجيا الميكانيكية البصرية هذه الرغبة بفعالية. إن ما يشغل باله هو “الميل المتحمس” للجماهير “نحو التغلب على تفرد كل واقع من خلال قبول إعادة إنتاجه” ، أي استعدادهم لقبول الرسائل المنقولة عبر وسيط يغير الحقيقة بشكل أساسي. إن تقنيات إعادة إنتاج الرمزية الميكانيكية والتوزيع الجماهيري تجبر الجماهير في نهاية المطاف على التخلي عن تفرد اللقاءات المجسدة ــ والحقيقة التي يمكن أن تنشأ ــ من الحوار الحقيقي ــ لصالح تمثيل معدل للواقع. وحتى العصر الرقمي، كانت هذه التقنيات دائما نتاجا لنظام أحادي الاتجاه من أعلى إلى أسفل للاتصالات من قِبَل المؤسسات الغنية، ذات المصالح المالية أو السياسية الراسخة، نحو الأفراد الضعفاء والمعزولين. وفيما يتصل بأداء جالواي ورابينوفيتش عبر الفيديوفون، فقد كانا يشكلان تحديا لتسلسل الوصول إلى وسائل التوزيع الرمزي والسيطرة عليها.
ويعرب ليف مانوفيتش عن تقديره لبول فيريليو لجهوده في تعزيز أطروحة بنيامين والتفكير في إعادة تنظيم الإدراك الحسي البشري في العصر الرقمي. ويشكل تأكيد بنيامين على أن التكنولوجيا تتسبب في ذبول المسافة المحرك الرئيسي لتركيبة فيريليو، التي تؤكد أن طفرة الإدراك تزداد سوءًا في ظل التقنيات الرقمية. ويزعم أن هذا نتيجة للخضوع التام للمسافة المادية “لسرعة الضوء في الموجات حاملة المعلومات” وهو ما يؤدي إلى مزيد من زعزعة استقرار السياسة والثقافة. وهو يستخدم مصطلحي “البصريات على نطاق صغيرsmall scale optics” و”البصريات على نطاق واسع large scale optics” لتحديد حجم هذا التغيير. يصف الأول كل ما يمكن للعين البشرية تمييزه في الفضاء “الهندسي”، “الذي لا يغطي في النهاية إلا القرب المباشر للإنسان”؛(4)  ويصف الثاني “البصريات النشطة”، والتي هي النقل في الزمن الحقيقي للمعلومات عبر الشبكات الإلكترونية العالمية، وهي عملية تحدث بسرعة الضوء و”تتجاهل المفهوم التقليدي للأفق”.
وعلى الرغم من بعض التأخير، فإن البصريات النشطة تسهل نظريًا نقل المعلومات السمعية والبصرية في الوقت الفعلي من أي موقع عالمي معين إلى آخر، دون انخفاض كبير في الجودة. ويهدم العالم الرقمي المواقع المنفصلة في الفضاء المفرد لرسالة في الدائرة، ويلغي المفاهيم المنظورية للمسافة ومرجعياتها من القرب أو البعد، والوقت اللازم لسد الفجوة. وهذه هي الشروط التي تشكل أساس مؤتمرات الفيديو ومفهومها المرتبط: التواجد عن بعد. وعلى الرغم من وجود تعريفات مختلفة للتواجد عن بعد، فإنه يُفهم على نطاق واسع على أنه “ إدراك الحضور داخل موقع بعيد ماديًا أو محاكى” ويتطلب تغذية استرجاعية حسية (بصرية أو لمسية). يشير هذا البيان إلى الفاعل في النظام. ومن حيث المذكرات اللمسية، ويعد وصف تجربة ستوبييلو عبر الفيديوفون كحضور عن بعد أمرًا مبالغًا فيه؛ ومع ذلك، فإنها تقوم بنوع من التمثيل عن بعد. ويحدث هذا على المستوى البعيد، بمعنى التمثيل لجمهور عبر العالم، وعلى المستوى المحلي؛ لأنها تقوم بتشغيل الفيديوفون حركيًا، فتقوم بتنفيذ أفعال عن بعد ضمن نطاق قريب. ويثير الجانب الأخير الحجة القائلة بأن راقصة Midi توفر إيماءات لمسية عن بعد، أي القدرة على اللمس عن بعد. ويرتبط هذا ارتباطًا وثيقًا بالإمكانات الاصطناعية للتكنولوجيا الرقمية (التي سوف نناقشها بالتفصيل في الفصل التالي).

الهوامش
1-  لا يتضمن ذلك زمن الوصول المطلوب لنقل الصورة عبر شبكة الهاتف وفك تشفيرها وإعادة عرضها على شاشة الفيديو عن بعد.
2- تأسس المسرح المفتوح على يد ميجان تيري، وسام شيبرد، وبيتر فيلدمان، وجوزيف تشايكين في عام 1963.
3- كان المسرح الحي، الذي أسسته جوديث مالينا وجوليان بيك في عام 1947، أحد أولى فرق المسرح التجريبي في الولايات المتحدة.
4-  يمكن أن يتضمن هذا المفهوم موضوع الفيلم


ترجمة أحمد عبد الفتاح