العدد 951 صدر بتاريخ 17نوفمبر2025
كاتب يمتلك رصيدًا ثريًا ومتنوعًا من الأعمال. منذ انطلاق مسيرته الأدبية عام 1988، وهو يكتب بحس إنسانى ووعى ثقافى عميق، ليقدم أعمالًا شكلت إضافة إلى المكتبة العربية، سواء فى القصة القصيرة أو الرواية أو المسرح. صدر له العديد من الإصدارات على سبيل المثال لا الحصر: رواية الأطفال “سارة تقابل القمر”، والمجموعتان القصصيتان “بلا ثمن” و»أصحابي”، ورواية الفتيان “حكايات أميرة”، و“حارس الذاكرة، وغيرها من الأعمال. حصل على عدة جوائز أدبية، أبرزها جائزة سوزان مبارك لأدب الطفل لعام 2004،2005 بالإضافة إلى جوائز من الهيئة العامة لقصور الثقافة، مجلة النصر، أخبار الأدب «جائزة أدب الحرب»، ونادى القصة، كما حصل على جائزة عبدالحميد شومان عن روايته فى أدب الرحلات «مغامرة فى وادى القمر»، كذلك نالت مسرحيته للفتيان «محاكاة سيرة الزير» المركز الأول فى مسابقة تأليف النص المسرحى الموجه للطفل من سن 3 إلى 18 عامًا، التى تقيمها الهيئة العربية للمسرح، تحت شعار «أطفالنا أبطال جدد فى حكايتنا الشعبية». الكاتب عبدالحكيم محمود، وحوار نقترب فيه من رؤيته الإبداعية والفكرية، ونتعرف إلى رحلته مع الكتابة للطفل والمسرح، وإلى فلسفته فى التعامل مع الموروث الشعبى، ورأيه فى الجوائز ودورها، وتحديات الكتابة فى زمن التحولات السريعة.
حوار: روفيدة خليفة
فى البداية.. ما الذى تمثله لك الجائزة على الصعيدين الشخصى والإبداعي؟ وما أهمية الجوائز عمومًا للمبدع؟
- دعينى أعبر عن شكرى وامتنانى لاهتمامكم بإجراء هذا الحوار معى وأرجو أن يكون لدى ما أقوله ويمثل أى قدر من الإضافة للقراء الأعزاء من المهتمين بأدب الطفل عموما والمسرح خصوصا. أما بخصوص سؤالك فعلى الصعيد الشخصى، الجائزة هى تقدير يمنح الكاتب شعورا عميقا بالامتنان، وبأن سنوات العمل والعزلة فى حضرة الكلمات لم تذهب سدى. هى دفعة معنوية هائلة لمواصلة الطريق. أما على الصعيد الإبداعى، فهى بمثابة مصادقة على المنهج. الفوز بجائزة مرموقة من الهيئة العربية للمسرح عن نص يخوض فى منطقة شائكة ويحاور التراث بشكل نقدى، هو تأكيد على أن هناك ترحيبا وقبولا لهذا النوع من المسرح الجاد الموجه للفتيان.
أما أهمية الجوائز عموما، فأراها تتجاوز الكاتب نفسه. هى تضيء عملا معينا وتضعه تحت أنظار القراء والنقاد والمنتجين، وتفتح له أبوابًا ربما كانت ستظل مغلقة، كفرص الترجمة أو الإنتاج المسرحى. الأهم من ذلك، أنها تثير نقاشا ثقافيا حول القضايا التى يطرحها العمل الفائز، وهذا فى حد ذاته مكسب للمشهد الثقافى بأكمله.
وصلت أعمالك إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد وجائزة خليفة التربوية، ما الأثر الذى تتركه هذه الترشيحات العربية الكبرى على مسيرة الكاتب؟ وهل تراها مسئولية إضافية؟
الوصول إلى القوائم القصيرة لجوائز كبرى مثل جائزة الشيخ زايد أو خليفة التربوية هو فى حد ذاته تكريم كبير. إنه يضعك ويضع عملك ضمن نخبة من أفضل ما كُتب فى مجالك على مستوى العالم العربى. هذا الأثر إيجابى للغاية، فهو يمنح الكاتب ثقة أكبر فى مشروعه، ويجعله مرئيًا على نطاق أوسع.
وبالتأكيد، أراها مسئولية إضافية، لكنها مسئولية محفزة وليست عبئًا. عندما تضعك هذه المنصات المرموقة فى دائرة الضوء، يصبح عليك واجب تجاه القارئ وتجاه نفسك بأن تحافظ على المستوى الفنى والفكرى الذى وصلت إليه، بل وأن تسعى لتجاوزه. المسئولية هى ألا تخذل الثقة التى مُنحت لك، وأن تواصل تقديم أعمال تليق بهذا التقدير.
متى بدأت علاقتك بمسرح الطفل.. وكيف تطورت تجربتك فى هذا المجال عبر السنوات؟
بدأت علاقتى بمسرح الطفل فى وقت مبكر، كمتفرج أولًا ثم كهاوٍ فى المسرح المدرسى والجامعى. لكن الكتابة الاحترافية له جاءت لاحقًا. فى البداية، كانت التجربة ترتكز على تقديم الحكايات الممتعة ذات الرسائل الأخلاقية المباشرة. مع مرور السنوات، تطورت نظرتى بشكل جذرى. أدركت أن مسرح الطفل والناشئة ليس مجرد منصة للتسلية أو التلقين، بل هو أخطر أنواع المسرح، لأنه يشارك فى تشكيل وعى الإنسان فى أهم مراحله. تحولت تجربتى من كتابة مسرحيات للأطفال إلى كتابة مسرحيات تفكر مع الأطفال، أعمال تطرح الأسئلة، تحفز الخيال، وتنمى التفكير النقدى، وتحترم ذكاء المتلقى الصغير وقدرته على فهم الأفكار المعقدة.
ما الذى يجذبك فى عالم الطفل ويحفزك على الكتابة له؟
ما يجذبنى مفهوم البراءة ليس «براءة» الطفل بمفهومها الساذج بل «أصالة» نظرته للعالم. الطفل فيلسوف صغير، يطرح الأسئلة الأولى والوجودية دون خوف أو خجل. عالمه هو عالم التكوين، حيث كل شىء ممكن، وحيث تتشكل المفاهيم والقيم للمرة الأولى. الكتابة له هى فرصة نادرة للمشاركة فى هذه اللحظة التأسيسية. إنها حوار مع عقل منفتح لم يتلوث بعد بالأحكام المسبقة. أن أكتب للطفل يعنى أن أعود بنفسى إلى جوهر الأشياء، وأن أبحث عن الحقيقة فى أبسط صورها وأكثرها عمقًا. إنه تحدٍ فنى وذهنى هائل، ومسئولية أخلاقية عظيمة.
حدثنا عن مسرحيتك الفائزة «محاكاة سيرة الزير».. ما الفكرة الرئيسية التى انطلقت منها؟ ومن وجهة نظرك، ما العناصر التى منحت النص تميزه وجعلته يلفت انتباه لجنة التحكيم؟
الفكرة الرئيسية التى انطلقت منها هى «محاورة الموروث لا إعادة إنتاجه». انطلقت من سؤال: كيف يمكن لجيل اليوم أن يتفاعل مع حكاية أسطورية مثل سيرة الزير سالم بكل ما تحمله من قيم الشرف والثأر والبطولة، والتى قد تبدو متناقضة مع قيم عصرنا؟
أعتقد أن ما منح النص تميزه عدة عناصر وهى البنية المسرحية المبتكرة، ففكرة «المسرحية داخل مسرحية» خلقت حوارًا مباشرًا بين زمنين، وسمحت للطلاب على الخشبة بأن يكونوا صوت العقل الناقد للجمهور.
بالإضافة إلى أنسنة الشخصيات؛ فالنص يسعى لتقديم الزير وجساس وغيرهم ليس كأيقونات أسطورية، بل كبشر محاصرين فى مآسٍ، لهم دوافعهم وصراعاتهم. والمواجهة الفلسفية، فمشهد «محاكمة الطيف» الذى يظهر فيه الزير وجساس للدفاع عن نفسيهما، ينقل المسرحية من مجرد سرد إلى مواجهة فكرية عميقة حول العدالة والتاريخ والحكم الأخلاقى. أيضا النهاية الرمزية حيث الابتعاد عن النهاية الدموية المعروفة واختيار نهاية تزرع الأمل (فسيلة النخل) هو خيار فنى يمنح العمل بعدًا معاصرًا ورسالة للمستقبل.
بدا واضحا أنك لا تريد إعادة الحكاية كما هى، بل محاورتها. فماذا يعنى لك مفهوم محاورة التراث؟ وكيف يمكن للمسرح أن يعيد كتابة الموروث دون أن يُلغيه، لكن بصيغة معاصرة تناسب الفئة العمرية المقدمة لها؟
محاورة التراث تعنى بالنسبة لى التعامل معه ككائن حى، لا كنص مقدس جامد. التراث ليس قطعة أثرية فى متحف نكتفى بالنظر إليها بإعجاب، بل هو جدٌ حكيم نجلس معه، نسمع قصصه، ونتجرأ على أن نسأله ونناقشه. المحاورة هى أن نضيء الزوايا المظلمة فى الحكاية، وأن نكبر ما تم تهميشه (مثل شخصية الضباع أو الحارث بن عباد)، وأن نطرح أسئلة جديدة لم تُطرح من قبل. المسرح هو الأداة المثلى لذلك، لأنه فن الحوار بالأساس. يمكنه أن يعيد كتابة الموروث عبر خلق إطار معاصر كما حدث فى المسرحية من خلال الطلاب الذين يمثلون جيل اليوم. ومن خلال التركيز على الصراع الإنسانى الخالد بدلًا من التركيز على تفاصيل المعارك، نركز على الصراع الداخلى للشخصيات، وهو ما يتجاوز الزمن. أيضا طرح نهايات بديلة أو رمزية لا لتغيير التاريخ، ولكن لفتح باب التساؤل حول «ماذا لو؟»، وهذا هو جوهر التفكير النقدى.
الزير سالم فى الوعى العربى رمز للبطولة، لكنك طرحت سؤالًا عميقًا ماذا لو تحولت البطولة والشرف إلى عبء؟ كيف قرأت هذه الإشكالية الإنسانية فى نصك؟
هذه هى الإشكالية المحورية فى النص. قرأتها من خلال إظهار كيف أن القسم الذى أقسمه الزير، والذى كان فى بدايته فعل شرف وبطولة، تحول مع مرور الزمن إلى سجن حديدى حَبَسَ فيه نفسه وأمته لأربعين عامًا. الشرف هنا أصبح آلة مدمرة، والبطولة تحولت إلى عبء يجبره على ارتكاب أفعال تتنافى مع إنسانيته، مثل مواجهته لأخته. النص يطرح فكرة أن البطولة الحقيقية قد لا تكون فى الوفاء الأعمى للقسم، بل فى امتلاك الشجاعة لمراجعته عندما يقود إلى دمار شامل. إنها دعوة للتفريق بين البطولة كقيمة إنسانية، وبين تجلياتها الجامدة التى قد تصبح كارثية.
فى رأيك، هل يمكن للمسرح أن يكون فعل مقاومة فكرية فى مواجهة الموروث الجامد أو القراءات النمطية للتاريخ؟
نعم، بكل تأكيد. المسرح بطبيعته هو فن «وجهة النظر». التاريخ غالبا ما يُكتب من وجهة نظر المنتصر، والموروث قد يصل إلينا فى قوالب نمطية ثابتة. المسرح هو الساحة التى يمكننا فيها أن نعيد تمثيل التاريخ من وجهات نظر متعددة: وجهة نظر المهزوم، المهمش، المرأة، الطفل. عندما نقدم شخصية مثل جساس ليدافع عن نفسه، أو الضباع لتصرخ بألمها، فنحن نقاوم القراءة الأحادية للتاريخ. المسرح هو فعل مقاومة فكرية لأنه لا يعطى إجابات جاهزة، بل يطرح الأسئلة المزعجة، ويجبرنا على التفكير، ويشكك فى المسلمات، وهذا هو دور الفن فى أسمى تجلياته.
وكيف يمكن للمبدع المعاصر أن يتعامل مع الموروث الشعبى بوصفه مادة حية قابلة للحوار، وليس مجرد إرث محفوظ؟
المبدع المعاصر يجب أن يكون باحثًا وفنانًا فى آن واحد. عليه أولا أن يغوص فى أعماق الموروث، يفهمه ويحترمه. ثم عليه أن يجد «النبض» الإنسانى الحى فيه، تلك الأسئلة الخالدة التى لا تزال تلامسنا اليوم. بعد ذلك، يأتى دوره كفنان ليخلق جسرًا بين عالم الحكاية وعالمنا. يمكنه استخدام تقنيات معاصرة، لغة حديثة، أو بنية درامية مبتكرة (كما فى «محاكاة سيرة الزير»). التعامل مع الموروث كمادة حية يعنى ألا تخاف من طرح أسئلتك عليه، وألا تتردد فى مزجه بهمومك وقضاياك المعاصرة. هكذا فقط، يتحول الموروث من إرث محفوظ إلى حوار ممتد.
الكتابة للطفل ليست مهمة سهلة، فما أبرز التحديات التى تواجهك أثناء الكتابة؟ وهل تراها فعلا أصعب من الكتابة للكبار؟
نعم، أراها أصعب بكثير. التحدى الأبرز هو المسئولية الأخلاقية. أنت تكتب لعقل وروح فى طور التكوين، كل كلمة تزرعها قد تنبت وتؤثر على مسار إنسان.
تحدٍ آخر هو المعادلة الصعبة بين تبسيط اللغة دون تبسيط الفكرة، وتقديم العمق الفلسفى دون الوقوع فى فخ الوعظ المباشر. عليك أن تحترم ذكاء الطفل، وأن تتجنب تمامًا أى شكل من أشكال الاستعلاء أو التلقين.
التحدى الثالث هو إيجاد «الصوت» الأصيل الذى يصدقه الطفل ويتفاعل معه. الكتابة للكبار تسمح بدرجات من الغموض والتعقيد قد لا تكون مناسبة للطفل. عليك أن تكون واضحًا وعميقًا فى آن واحد، وهذه قمة الصعوبة الفنية.
كيف توازن فى أعمالك بين المتعة الفنية والرسالة التربوية؟ وبين الخيال والواقع؟
أنا لا أؤمن بالرسالة التربوية المباشرة أو «الدرس المستفاد» الذى يُلصق فى نهاية الحكاية. أؤمن بأن القيمة الحقيقية تكمن فى التجربة الجمالية والأخلاقية التى يعيشها الطفل أثناء القراءة أو المشاهدة. التوازن يأتى من خلال جعل القيمة تنبع من نسيج الحكاية نفسها، من خلال صراع الشخصيات واختياراتها. المتعة الفنية (الحبكة المشوقة، الشخصيات الجذابة) هى الوعاء الذى يحمل القيمة. أما الخيال والواقع، فهما ليسا ضدين. الخيال هو أداتنا الأهم لفهم الواقع. فى «مغامرة فى وادى القمر» مثلًا، الخيال والمغامرة هما الطريق الذى يتعلم به الأبطال عن الشجاعة والصداقة ومعرفة مخاوفهم ومواجهتها. الخيال لا يعد هروبا من الواقع، بل هو تدريب على فهمه ومواجهته.
وكيف ترى دور المسرح التربوى فى تنمية التفكير النقدى لدى الطفل أو اليافع؟
المسرح التربوى، حين يُقدم بشكل صحيح، هو مختبر للتفكير النقدى. على عكس التلقين فى الفصول، المسرح يقدم «قضية» فى شكل صراع حى. هو لا يقول للطفل «الثأر خطأ»، بل يضع أمامه شخصية الزير ويجعله يرى بعينيه إلى أين يقود طريق الثأر. هو لا يعطى إجابات، بل يولد أسئلة. وعندما يخرج الطفل من المسرح وهو يتساءل: «هل كان جساس محقًا؟»، «ماذا لو كنت مكان الجليلة؟»، فى هذه اللحظة بالذات، يكون المسرح قد نجح فى تحفيز عقله النقدى. إنه يعلمه أن يفهم الدوافع، ويقيم العواقب، ويرى القضية من وجهات نظر متعددة، وهذه هى أساسيات المفكر الناقد.
هناك انتقال واضح فى مسيرتك بين الأجناس الأدبية؛ فقد كتبت أدب الأطفال واليافعين، والقصة القصيرة، والرواية، والمسرح. أين تجد روحك الإبداعية مكانها المفضل؟
هذا سؤال صعب. لا أرى الأجناس الأدبية كبيوت منفصلة، بل كغرف مختلفة فى بيت واحد كبير هو بيت الكتابة. روحى الإبداعية لا تفضل غرفة على أخرى، بل تختار الغرفة الأنسب للفكرة التى تريد أن تعبر عنها. هناك أفكار تحتاج إلى المساحة التأملية والسرد الداخلى الذى توفره الرواية. وهناك لحظات مكثفة لا يمكن التعبير عنها إلا فى ومضة القصة القصيرة. وهناك صراعات إنسانية لا يمكن أن تتجسد إلا فى حوار حى ومباشر على خشبة المسرح. روحى تجد مكانها المفضل فى «المشروع» نفسه، فى الفكرة التى تؤرقنى، ثم أبحث لها عن أفضل شكل فنى ممكن.
كيف تختلف طريقتك فى الكتابة لكل نوع؟ وما الذى يميز الكتابة المسرحية عن السردية فى رأيك؟
طريقتى تختلف جذريا. فى الرواية والقصة، أنا أمتلك العالم كله، أصف الأماكن، وأغوص فى أعماق وعى الشخصيات، وأتحكم فى إيقاع الزمن. الكاتب السردى هو «سيد» عالمه الصغير. أما فى الكتابة المسرحية، فالأمر مختلف تمامًا. أنت لا تملك إلا الحوار والفعل. عليك أن تكثف كل شيء فى كلمات منطوقة وحركات مرئية. الكاتب المسرحى يبنى «هيكلًا عظميًا» قويا، ويترك للمخرج والممثلين والسينوغرافيا أن يكسوه باللحم والدم. ما يميز المسرح هو طاقته الحية، فهو فن «اللحظة الحاضرة»، فن المواجهة المباشرة بين الممثل والجمهور، وهذا غير موجود فى الفن السردى الذى هو علاقة فردية وصامتة بين الكاتب والقارئ.
وما الذى يضيفه كل جنس أدبى إلى الآخر فى تجربتك؟
هى عملية إثراء متبادل مستمرة. كتابة الرواية علمتنى الصبر على بناء الشخصيات وتطويرها بعمق، وهذا ما أستفيد منه فى المسرح. وكتابة المسرح علمتنى قوة الاقتصاد فى اللغة، وكيف يمكن لجملة حوار واحدة أن تكشف عالمًا كاملًا، وهذا ما أستفيد منه فى جعل سردى أكثر حيوية وإيجازًا. القصة القصيرة تعلمك فن التقاط اللحظة وبناء الذروة. هذا التنوع يجعل صندوق أدواتى ككاتب أكثر ثراءً ومرونة.
بدأت الكتابة منذ عام 1988، أى فى زمن مختلف عن واقع اليوم. كيف ترى تطور أدب الطفل المصرى والعربى خلال هذه العقود؟ وما الذى ينقصه ليصبح أكثر تأثيرًا وحضورًا فى حياتنا الثقافية؟
التطور هائل ولا يمكن إنكاره. انتقلنا من مرحلة كانت فيها كتب الأطفال تعتمد بشكل كبير على الوعظ المباشر والإنتاج المتواضع، إلى مرحلة نرى فيها اليوم دور نشر متخصصة، ورسوما على مستوى عالمى، وموضوعات أكثر جرأة وعمقا تتناول قضايا نفسية واجتماعية معقدة.
لكن ما زال ينقصنا الكثير. ينقصنا بناء ما يمكن أن نسميه «نظام بيئي» متكامل لأدب الطفل. هذا النظام يشمل حركة نقدية جادة تفرز الجيد من الرديء وتضع معايير فنية، وتوزيع فعال يصل بالكتاب إلى كل طفل فى كل قرية ومدينة، بالإضافة لدمج أكبر فى التعليم بحيث لا يكون الكتاب الثقافى مجرد نشاط ترفيهى، بل جزء من العملية التعليمية، وإيمان مؤسسى أعمق بأن الاستثمار فى أدب الطفل هو استثمار مباشر فى مستقبل الوطن.فى ظل التطور التكنولوجى الهائل، كيف ترى تأثير الوسائط الحديثة على تجربة مسرح الطفل؟ وهل يمكن أن تكون التكنولوجيا عنصرا مساعدا فى جذب الأطفال إلى المسرح؟
التكنولوجيا سيف ذو حدين. هى بلا شك منافس شرس على وقت الطفل واهتمامه، لكنها فى نفس الوقت أداة فنية جبارة يمكن أن تثرى تجربة المسرح بشكل لم يسبق له مثيل. يمكن أن تكون عنصرًا مساعدًا قويًا إذا استخدمت بذكاء ففى السينوغرافيا استخدام الإسقاط الضوئى لخلق عوالم خيالية مدهشة على المسرح.
وفى التفاعل، تصميم تطبيقات تسمح للجمهور بالتصويت على مسار الأحداث فى بعض المسرحيات التفاعلية. أما فى الترويج، فاستخدام وسائل التواصل الاجتماعى لخلق حملات جذابة والوصول إلى شرائح جديدة من الجمهور. المفتاح هو أن تظل التكنولوجيا فى خدمة القصة والإنسان، لا أن تتحول إلى استعراض بصرى فارغ يطغى على جوهر المسرح.
ما رأيك فى واقع النشر لأدب الطفل فى مصر اليوم؟ وهل ما زال الكاتب يعانى من ضعف التوزيع أو من النظرة التهميشية لهذا النوع الأدبي؟
هناك تحسن ملحوظ. ظهرت دور نشر شابة ومتحمسة تتخصص فى أدب الطفل وتقدم أعمالًا ذات جودة عالية جدًا فى الطباعة والرسم والمحتوى. لم يعد أدب الطفل درجة ثانية فى نظر الكثيرين. لكن التحديات ما زالت قائمة. ضعف التوزيع هو العقبة الأكبر؛ فالكتاب الممتاز الذى يُطبع فى القاهرة قد لا يصل أبدًا إلى طفل فى صعيد مصر أو فى واحة نائية. كذلك، ما زالت النظرة التهميشية موجودة فى بعض الدوائر الإعلامية والثقافية التى لا تولى أدب الطفل نفس الاهتمام الذى توليه لأدب الكبار، حيث أن الكاتب لا يزال يناضل ليحصل على التقدير المادى والمعنوى الذى يستحقه.
شاركت بفاعلية فى المشهد الأدبى المصرى منذ التسعينيات من خلال المؤتمرات والأبحاث. ما أبرز التغيرات التى لمستها فى هذا المشهد خلال مسيرتك الطويلة؟
أبرز التغيرات تعدد الأصوات وتكسير المركزية. فى التسعينيات، كان المشهد الأدبى يتركز حول أسماء كبيرة ومؤسسات ثقافية رسمية. اليوم، بفضل دور النشر المستقلة ووسائل التواصل الاجتماعى، ظهرت أجيال جديدة من الكتاب بأصوات مختلفة ومن خلفيات متنوعة، وأصبح هناك مساحة أكبر للتجريب.
تغير آخر هو صعود الرواية لتصبح الجنس الأدبى المهيمن. كما أن الجوائز الأدبية أصبح لها دور أكبر بكثير فى تشكيل الخريطة الأدبية وصناعة النجومية. المشهد أصبح أكثر ديناميكية وحيوية، ولكنه ربما أقل تجانسًا مما كان عليه فى الماضى.
«حكايات أميرة» و«مغامرة فى وادى القمر» تعكسان اهتمامًا بالخيال والمغامرة، حدثنا عنهما، وعن أهمية الخيال فى أدب الطفل بالنسبة لك.
«حكايات أميرة» كانت رحلة تربوية لمعلمة أمنت برسالتها وخاضت مغامرة تغيير الواقع ومشاهدة أثرها فى نفوس تلاميذها الصغار،كانت نوعا ما تجربة مثالية لما نود أن تكونه مؤسساتنا التعليمية وطرحت أفكارها بطريقة عملية دون تنظير. أما «مغامرة فى وادى القمر» فهى مغامرة طفل خجول يخاف من كل شىء يضطر لخوض تجربة سفر ومغامرة حقيقية فيكتشف شجاعته الداخلية، هى معالجة لقضية الخوف تربط المغامرة بالمعرفة والانفتاح الثقافى بأسلوب سردى عميق وانفعالات متدرجة وتفاصيل انسانية دقيقة، العملان ينطلقان من إيمانى بأن الخيال ليس ترفًا، بل هو ضرورة إنسانية، وهو بالنسبة للطفل ليس مجرد هروب من الواقع، لكن هو أداته الأساسية لفهمه. من خلال الخيال، يتدرب الطفل على حل المشكلات، ويتعلم التعاطف (عندما يتخيل نفسه مكان البطل)، ويستكشف مخاوفه ورغباته فى مساحة آمنة. الخيال هو الذى يمنحنا القدرة على تصور مستقبل أفضل والسعى لتحقيقه. الطفل الذى يقرأ عن المغامرات الخيالية اليوم، قد يصبح هو العالم أو الفنان أو القائد الذى سيصنع مغامرات حقيقية تغير الواقع غدًا.
ما مشروعك الأدبى القادم الذى تعمل عليه حاليًا.. وهل سنرى قريبا أعمالك الفائزة على خشبة المسرح؟
حاليًا، أعمل على رواية لليافعين تدور أحداثها فى حقبة تاريخية غير مطروقة كثيرا فى أدبنا، وتحاول أن تمزج بين الواقع التاريخى والفانتازيا.
أما بالنسبة لرؤية الأعمال الفائزة على خشبة المسرح، فهذا هو حلمى الأكبر. النص المسرحى لا تكتمل حياته إلا عندما يتنفس على الخشبة ويلتقى بجمهوره. الفوز بجائزة الهيئة العربية للمسرح يفتح بالتأكيد أبوابًا مهمة لفرص الإنتاج، وأنا متفائل جدًا بأن «محاكاة سيرة الزير» سترى النور قريبا وتلتقى بالشباب الذين كُتبت من أجلهم.
أخيرا، ما الرسالة التى تود توجيهها إلى كتّاب الطفل الجدد، وإلى المؤسسات التى تُعنى بدعم هذا الفن؟
إلى كتّاب الطفل الجدد أقول تعاملوا مع الكتابة للطفل بالجدية والاحترام الذى يستحقه. اقرأوا كثيرا، ليس فقط فى أدب الطفل، بل فى كل شيء. لا تستعلوا على قارئكم الصغير ولا تستهينوا بذكائه. اكتبوا بصدق عن الأشياء التى تهمكم وتؤرقكم، فالصدق هو أقصر طريق إلى قلب الطفل. تذكروا دائمًا أنكم لا تكتبون مجرد قصة، بل تشاركون فى بناء إنسان.
وإلى المؤسسات الثقافية أقول إيمانكم بأدب ومسرح الطفل يجب أن يترجم إلى دعم حقيقى ومستدام. دعموا الكاتب، الرسام، الناشر، والمخرج. ابنوا المكتبات فى كل مكان. اجعلوا عروض المسرح جزءًا أساسيًا من الحياة المدرسية. الاستثمار فى خيال أطفالنا وعقولهم ليس رفاهية ثقافية، بل هو حجر الزاوية لبناء مستقبل أكثر إشراقا ووعيًا وإنسانية.