تعريف المخرج أنه مؤلف العرض المسرحى ..

تعريف المخرج أنه مؤلف العرض المسرحى ..

العدد 951 صدر بتاريخ 17نوفمبر2025

يأتى كتاب «تأليف الأداء المسرحى: المخرج فى المسرح المعاصر» للباحثة اليونانية أفرا سيديروبولو، بترجمة دقيقة وواعية من أحمد عبدالفتاح، ضمن إصدارات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الثانية والثلاثين لعام 2025، بوصفه إضافة نوعية إلى المكتبة المسرحية العربية، ومحاولة فكرية وجمالية جادة لإعادة النظر فى سلطة المخرج داخل المنظومة المسرحية الحديثة. يطرح الكتاب سؤالًا تأسيسيًا حول معنى أن يكون المخرج «مؤلفًا» للعمل المسرحى، وأن يتحول المسرح من فضاء للنص إلى مختبر للكتابة البصرية والسمعية والجسدية. إنه كتاب يشتبك مع جوهر التحولات التى أصابت المسرح فى القرن العشرين وما بعده، متتبعًا جذور «المخرج المؤلف» فى فكر التجريبيين الكبار مثل كريج، وأرتو، وبيكيت، وبروك، وويلسون، وسيلارز، وغيرهم، وصولًا إلى طيف واسع من الممارسين المعاصرين الذين جعلوا من الإخراج كتابة ثانية، أو بالأحرى «تأليفًا للأداء».
منذ الصفحات الأولى، يتضح أن سيديروبولو تكتب من موقع مزدوج: موقع المخرجة والمفكرة، فهى لا تكتفى بوصف الظاهرة بل تسعى إلى تفكيكها من الداخل، مُحمّلةً المسرح بأسئلته الخاصة حول اللغة والمعنى والتلقى. فى مقدمتها التى جاءت بعنوان «التأليف: المسرح الجديد لعوالم جريئة جديدة» (ص. 11)، تصف المخرجة الفرنسية يوجين يونسكو الفنان الطليعى بأنه «عدو داخل المدينة» يسعى إلى هدم أنظمتها المألوفة وتدمير أشكالها الجمالية الجامدة. ومن هذه النقطة، تبنى سيديروبولو أطروحتها الرئيسة: أن المخرج المعاصر لم يعد ناقلًا لنص الكاتب، بل مؤلفًا جديدًا لعالمٍ متخيل، يستبدل سلطة اللغة بسلطة الصورة، وسلطة الدلالة الجاهزة بإنتاج المعنى عبر الجسد والحركة والضوء والصوت.
تتخذ الكاتبة من مفهوم «المؤلف» فى السينما الفرنسية (auteur) منطلقًا لتأملها. فهى تشير إلى أن هذا المصطلح وُلد فى خمسينيات القرن الماضى على يد نقاد مجلة Cahiers du cinéma مثل فرانسوا تروفو وأندريه بازان (ص. 12)، حيث اعتُبر المخرج فى السينما هو «المؤلف الحقيقي» للفيلم، لأن توقيعه الفنى يطبع العمل كله برؤيته الخاصة. من هنا، تنتقل سيديروبولو إلى المسرح لتؤكد أن المخرج المسرحى حين يترك بصمته على العرض - بصريًا وجماليًا وموضوعيًا - يصبح هو الآخر «مؤلفًا» للأداء. ولعل هذا التمدد لمفهوم «الكتابة» من الورق إلى الفضاء المسرحى هو ما يشكّل جوهر الكتاب، إذ تسعى الباحثة إلى إعادة تعريف النص بوصفه نصًا أدائيًا لا يكتمل إلا فى الفعل، فى الصورة، فى الجسد، فى التجربة المشتركة بين الخشبة والمتفرج.
وفى قراءتها للتاريخ الجمالى للمسرح الحديث، تضع سيديروبولو يدها على المفاصل الفكرية التى مهّدت لظهور هذا المفهوم، تشير إلى أن القرن العشرين كان لحظة انقلاب على «التراتبية الأرسطية» التى ميّزت بين عناصر العمل المسرحى، وجعلت النص فى قمة الهرم (ص. 5). ومع المسرح ما بعد الدرامى، كما يصفه هانس تيس ليمان، تمّ تفكيك هذه البنية لمصلحة أداء مفتوح ومتعدد الوسائط، تختفى فيه المركزية لصالح التشظى والتوازى بين الصورة والصوت والجسد. فى هذا المسرح الجديد، لا يعود المعنى يُمنح للمشاهد جاهزًا، بل يُنتزع من الفوضى والاختلاف. وهذا ما تسميه سيديروبولو بـ«سرقة الواقع» (ص. 5)، أى استبدال الواقع التمثيلى بواقع جمالى ذاتيّ، يعكس تشظى الذات الحديثة نفسها.
إن مقدمة الكتاب تشكّل بيانًا فكريًا للدفاع عن المسرح بوصفه فنًّا لا يزال حيًّا فى عصر الهيمنة الرقمية، وترى سيديروبولو أن «فن التأليف المسرحى لا يزال حيًا جدًا فى عصرنا» (ص. 17)، لأنه قادر على استيعاب التحديات الجديدة للميديا والتقنيات والسرعة. المسرح هنا ليس بقايا ماضٍ كلاسيكى، بل مختبر دائم لاكتشاف المعنى عبر أشكال جديدة من الحضور والتفاعل. ويبدو أن الكاتبة، عبر هذا الإصرار، تنقذ المسرح من «نبوءة موته» التى رافقت النقد المعاصر، مؤكدةً أن طاقة الخلق فى الفعل المسرحى تكمن تحديدًا فى إعادة اختراعه لذاته.
فى الفصل الأول من الكتاب «صعود المخرج المؤلف الحديث» (ص. 21)، تبدأ سيديروبولو بتأصيل المفهوم تاريخيًا، مشيرة إلى أن مصطلح «المخرج» نفسه حديث نسبيًا لا يتجاوز القرن ونصف القرن. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، ظهر المخرج بوصفه منسقًا للعرض، وصاحب رؤية فنية شاملة تجمع عناصر المشهد المختلفة. وتعود الكاتبة إلى تجربة الدوق جورج ساكس-مينينجن (ص. 23) الذى يُعد أول من أسس لمفهوم «الميزانسين» بالمعنى الحديث، حيث فرض النظام والدقة والتكامل بين الممثلين والديكور والإضاءة، مؤسسًا لما عُرف لاحقًا بمسرح الإخراج.
ثم تنتقل إلى إدوارد جوردون كريج الذى وصف المخرج بأنه «الفنان الأعلى» (super artist) القادر على توحيد الفعل والكلمة والإيقاع والخط واللون (ص. 22). لقد أراد كريج أن يجعل المسرح فنًا مستقلًا عن الأدب، وأن يحرره من هيمنة النص. وكان يرى أن المخرج لا ينبغى أن يكون مفسرًا لمسرحية الكاتب، بل مبدعًا لنظامه الجمالى الخاص، وبذلك يكون المؤسس الحقيقى لفكرة «المخرج المؤلف». ومن كريج تنتقل الكاتبة إلى رموز الواقعية مثل ستانسلافسكى وأنطوان، مشيرة إلى أن الأول منح الممثل دورًا مركزيًا فى بناء المعنى، بينما أرسى الثانى فكرة «الحائط الرابع» التى كانت لاحقًا موضوعًا للنقد عند بريخت (ص. 25).
وترى سيديروبولو أن القرن العشرين شهد جدلًا خصبًا بين الواقعية والرمزية، بين النزعة إلى تمثيل الواقع والنزعة إلى تجاوزه نحو الميتافيزيقى والروحانى. من هنا، يصبح المسرح عند أرتو — كما فى فصله المخصص له بعنوان «دخول أرتو» (ص. 45) — حدثًا كونيًا يتجاوز اللغة، ويعيد المسرح إلى طقسيته الأولى. أرتو، فى رأيها، هو أول من نقل وظيفة المخرج من التأويل إلى الخلق، حين دعا إلى «مسرح القسوة» الذى لا يخاطب العقل بل الحواس، والذى يتعامل مع الجسد بوصفه لغة بديلة لا تقل شأنًا عن الكلمة. تكتب الكاتبة: «كان أرتو أول من يُنسب إليه الفضل فى الترويج الرسمى للوظيفة الجديدة للمسرح» (ص. 15)، وهو ما جعل تأثيره يمتد إلى تلامذة كثيرين مثل بروك وغروتوفسكى وباربا.
يتضح من تحليل سيديروبولو أن جوهر «تأليف الأداء» لا يقوم فقط على سيطرة المخرج على عناصر العرض، بل على تحويل المسرح إلى نص جديد يولد فى كل عرض. ولهذا، فإن تجربة بيكيت التى تدرسها فى الفصل الثالث «اضطراب بيكيت» (ص. 65) تمثل لحظة حاسمة فى فهم العلاقة بين الكاتب والمخرج. فبيكيت، كما تقول (ص. 19)، جمع بين هويتى المؤلف والمخرج، وسعى إلى ضبط تفاصيل الإخراج بدقة تكاد تُلغى حرية الممثل، ما جعل من عروضه أمثلة قصوى على فكرة «النص المغلق». لكنها فى الوقت ذاته تُبرز كيف أن دمج الصورة والصوت والتكنولوجيا فى أعمال بيكيت المتأخرة قد فتح المسرح على تجربة جمالية جديدة، يكون فيها النص الأدبى مجرد طبقة من طبقات الأداء.
ومن خلال مقارنة دقيقة بين بيكيت وأرتو، توضح الكاتبة أن الأول جسّد اضطراب المعنى وقلق اللغة، بينما مثّل الثانى قطيعة مع اللغة ذاتها. وفى كلا الحالين، نحن أمام مسرح يتخلى عن الطمأنينة الأرسطية وعن حبكة المعنى المغلق. هذه الجدلية بين الكتابة والإخراج، بين اللغة والجسد، هى ما تسميه سيديروبولو «تأليف الأداء»، حيث يتحول المخرج إلى كاتب يكتب بعناصر العرض لا بالكلمات.
فى الفصل الرابع «المخرج المؤلف فى الطريق» (ص. 89)، تتجه الكاتبة نحو الميدان التطبيقى، محللةً أعمال مخرجين بارزين مثل بيتر بروك وروبرت ويلسون وسيمون ماكبيرنى وأريان منوشكين، معتبرةً أنهم ورثة الشرارة التى أشعلها أرتو وكريج. تقول: «المخرجون المؤلفون يعرضون مسرحية موجودة بالفعل أو يعيدون صياغتها أو يبتكرون عملاً جديدًا من الصفر» (ص. 12). إنها إعادة كتابة مستمرة للنصوص عبر الجسد والفضاء، فى حركة دائمة بين الهدم والبناء. وفى هذا السياق، يظهر المسرح كمختبر مشترك بين المخرج والجمهور، حيث تتعدد مستويات التلقى، ويتحول المتفرج من متلقٍ سلبى إلى مشارك فى إنتاج الدلالة (ص. 16).
وإذا كان هذا الفهم الجمالى قد شكّل أحد أعمدة المسرح المعاصر، فإن سيديروبولو ترى فى الفصل الخامس «الوسيلة كغاية» (ص. 121) أن التكنولوجيا والوسائط الرقمية أصبحت مكونًا جوهريًا فى عملية التأليف المسرحى. فالمخرج المعاصر يكتب بالصورة الرقمية كما يكتب بالجسد، ويعيد صياغة الزمن والمكان من خلال الفيديو والإضاءة والوسائط المتعددة. تستعرض الكاتبة تجارب مثل بروك وويلسون وليكومت وسيلارز ومارثالر (ص. 21) لتُظهر كيف باتت الوسائط لا تُستخدم لتزيين المشهد، بل لتفكيك واقعه وإنتاج معنى جديد. إنها مرحلة يصبح فيها الشكل ذاته محتوى، والوسيلة غاية.
وتُحذّر سيديروبولو فى الوقت نفسه من خطر الوقوع فى «الشكلية الفارغة» التى قد تُفرغ التجريب من مضمونه، مشددةً على ضرورة الموازنة بين المحتوى والشكل، بين الدهشة البصرية والعمق الفكرى. إن الإخراج المؤلف لا ينبغى أن يتحول إلى استعراض تقنى، بل عليه أن يظل بحثًا عن المعنى عبر الجمال. وفى هذا، تستعيد الكاتبة روح المسرح الطليعى الأول الذى كان يرى فى التجريب وسيلة لتحرير الإنسان من الاغتراب لا لمجرد الإبهار.
إن الفصل السادس من كتاب «تأليف الأداء المسرحى»، المعنون بـ«غزو النصوص» (ص. 149)، يمثل ذروة التأمل النظرى عند أفرا سيديروبولو، إذ تطرح فيه رؤيتها المتكاملة للعلاقة المعقدة بين النص الأدبى والنص الأدائى، وتعيد النظر فيما يُعرف بـ«نص الأداء» بوصفه كيانًا متغيرًا يولد من التفاعل بين المخرج والممثل والجمهور. ترى سيديروبولو أن المسرح المعاصر لم يعد يقوم على نصٍّ ثابتٍ يُقدَّم كما هو، بل على نص مفتوح يتجدد فى كل عرض، ويُعاد كتابته فى كل ميزانسين، بحيث يصبح كل عرض «تأليفًا جديدًا» فى ذاته. فى هذا السياق، تقول: «يُدعى القارئ إلى النظر فى موقف النص اللفظى كشريكٍ قيمٍ فى أداء المؤلف» (ص. 20). فالنص، فى نظرها، ليس خصمًا للمخرج، بل شريكًا له فى بناء المعنى؛ غير أن سلطة الكاتب المسرحى لم تعد مطلقة كما كانت فى الماضى، إذ بات المخرج مؤلفًا يشارك النص سلطته، ويحوّله من بنية مغلقة إلى فضاء دلالى مفتوح.
تستعين سيديروبولو فى هذا الفصل بعدد من المفاهيم النقدية الحديثة لتدعيم رؤيتها، فتستند إلى جاك دريدا فى مفهوم «الاختلاف» (différance) ورولان بارت فى فكرة «موت المؤلف»، لتشير إلى أن المسرح الجديد لم يعد يسعى إلى تثبيت المعنى، بل إلى تفكيكه وإعادة إنتاجه فى فضاء مرئى وسمعى مفتوح. إنها تتعامل مع النص كـ«جسد حى» يتنفس من خلال الأداء، وليس كوثيقة لغوية جامدة. ومن خلال هذا المنظور، يصبح المتفرج جزءًا من عملية التأليف، إذ يتفاعل مع العلامات والإشارات ليصنع نصَّه الخاص داخل العرض. هذا التحول من النص إلى الأداء، ومن الكاتب إلى المخرج، ومن التلقى السلبى إلى المشاركة النشطة، هو ما تصفه سيديروبولو بـ«دراماتورجيا جديدة مستنيرة بالأداء» (ص. 20).
وتستشهد الكاتبة بمجموعة من الأسماء التى تمثل هذا الاتجاه الجديد، مثل كاريل تشرشل، وتشارلز مى، ومارتن كريـمب، وأدريان كينيدى، ومارك رافينهيل، وسوزان لورى باركس، وغيرهم، لتبيّن أن كتاباتهم أصبحت تنبثق من منطق الأداء أكثر من انبثاقها من منطق الأدب. فالنصوص الحديثة – كما ترى – لم تعد تسعى إلى بناء الحبكة أو تطوير الشخصية، بل إلى خلق فضاء للحركة والتعدد، فضاء يُكتب ليُؤدّى لا ليُقرأ. وبذلك يتحول النص إلى نقطة انطلاق لتجربة أدائية جماعية، يتشارك فيها الجميع: الكاتب، المخرج، الممثل، والجمهور.
ويكشف هذا الفهم أن المسرح ما بعد الحداثة - الذى تنتمى إليه سيديروبولو فكريًا - قد نجح فى تجاوز فكرة «المسرح الأدبي» إلى «مسرح الأداء»، حيث يصبح الإخراج كتابة ثانية لا تقل شرعية عن الكتابة الأولى. إن «غزو النصوص» هنا ليس تدميرًا لها، بل تحريرها من انغلاقها، وإطلاق طاقتها فى الفعل الحيّ. فكل عرض، فى رأيها، هو اقتراح جديد للقراءة، وكل مخرج هو كاتب يكتب بلغات متعددة: الصورة، الضوء، الإيقاع، الحركة، الصمت، والمكان.
وفى خاتمة الكتاب (ص. 173)، تعود سيديروبولو لتضع النقاط على الحروف، مؤكدّة أن فن «تأليف الأداء» هو استجابة فنية وفكرية للعصر الرقمى الذى نعيشه، عصر تتقاطع فيه الوسائط وتتعدد فيه اللغات. المسرح، بالنسبة إليها، لا يستطيع أن ينافس السينما أو التلفزيون فى الإبهار البصرى، لكنه يمتلك شيئًا لا تملكه تلك الوسائط: الحضور الحيّ. هذا الحضور هو جوهر المسرح، وهو الذى يمنح المخرج المؤلف سلطة فريدة، لأنه يكتب أمام الجمهور، لا فى غيابه. تقول: «طالما كانت هناك معارك تُخاض فى المجتمع وداخل الذات، فسيكون هناك دائمًا مسرح» (ص. 19). فالمسرح، فى نظرها، هو ساحة الصراع الدائم بين الإنسان والعالم، بين الشكل والمضمون، بين الحضور والغياب.
ومن خلال تتبعها الدقيق لتاريخ المخرج المؤلف، تقدم سيديروبولو رؤية شاملة لمراحل تطور هذا المفهوم. فهى تبدأ من كريج وأبيا وستانسلافسكى، مرورًا بأرتو وبروك وغروتوفسكى، وصولًا إلى مخرجى ما بعد الحداثة مثل روبرت ويلسون، بيتر سيلارز، سيمون ماكبيرنى، وإيفو فان هوف. جميع هؤلاء، برأيها، جسّدوا التحول من النص إلى الصورة، من الكلمة إلى الفعل، من الكتابة إلى الأداء. وهم يشتركون فى رؤية جمالية تعتبر المسرح لغة بصرية حسية متعددة الطبقات. هذا الامتداد الزمنى من مطلع القرن العشرين حتى اليوم يثبت أن فكرة «المخرج المؤلف» لم تعد مجرد اتجاه عابر، بل أصبحت جوهر الممارسة المسرحية المعاصرة.
ومما يميز الكتاب أنه لا يكتفى بالسرد التاريخى، بل يقدّم تحليلاً نقديًا متعمقًا لطبيعة العلاقة بين المخرج والممثل والجمهور، وهى علاقة تعاد صياغتها مع كل جيل جديد. فالمخرج المؤلف، فى تصوّر سيديروبولو، لا يمارس سلطة استبدادية على ممثليه أو نصه، بل يخلق معهم شبكة من التعاون الإبداعى. تقول فى المقدمة: «إن الالتزام بمسرح مفاجئ وصادق وعميق سيبقى هذا الشكل الفنى حيًا دائمًا» (ص. 9). بهذا المعنى، يتحول المسرح إلى تجربة أخلاقية بقدر ما هو جمالية، تجربة تحاور الذات والعالم فى آن.
فى هذا الإطار، يلتقى فكر سيديروبولو مع توجهات نظرية ما بعد البنيوية فى اعتبار النص بنية مفتوحة، ومع توجهات الجماليات المعاصرة التى ترى الفن ممارسة نقدية لا مجرد تمثيل للواقع. ولعل القيمة الحقيقية للكتاب تكمن فى قدرته على الربط بين النظرية والممارسة، بين الفكر والفعل. فالمؤلفة ليست باحثة أكاديمية فحسب، بل مخرجة مسرحية لها خبرة عملية واسعة، مما يجعل قراءتها أكثر حيوية وواقعية. فهى تكتب من داخل التجربة، لا من برجٍ نظريٍّ معزول.
وفى مقارنة ضمنية بين المسرح والسينما، ترى سيديروبولو أن المخرج المؤلف فى المسرح يتميز بخصوصية لا يملكها نظيره فى السينما، إذ إن الوسيط المسرحى بطبيعته حيّ ومتغير وغير قابل للاستنساخ. فبينما يمكن للمخرج السينمائى أن يفرض رؤيته النهائية من خلال المونتاج والإنتاج المغلق، يظل المخرج المسرحى فى مواجهة مباشرة مع الجمهور، فى فضاء حيّ يستحيل تثبيته. هنا تكمن جمالية التأليف المسرحي: فى هشاشته، فى تكراره المختلف، فى قابليته للتحول الدائم.
يتضح من الكتاب أن سيديروبولو تؤمن بأن مستقبل المسرح يعتمد على قدرته فى الاحتفاظ بفرادته فى زمن الصور. فالتكنولوجيا ليست عدوًا للمسرح، بل فرصة لإعادة اكتشافه. ومع ذلك، فهى تحذّر من أن الإفراط فى الوسائط قد يفقد المسرح جوهره الإنسانى. فالرهان الحقيقى ليس فى عدد الشاشات أو قوة المؤثرات، بل فى عمق التجربة الإنسانية التى يقدمها العرض. تقول فى أحد المواضع: «إن السرّ فى إنجاز وتأثير بعض العروض يكمن فى الطرق التى يقبل بها المخرجون التوتر بين سيميولوجيا الميزانسين وفينومينولوجيا الأداء» (ص. 18). فالمخرج الناجح هو من يستطيع أن يوظف العلامات البصرية دون أن يفقد حرارة الحضور الإنسانى.
إن ما يجعل «تأليف الأداء المسرحى» عملًا متميزًا هو طموحه النظرى وسعته المرجعية. فهو لا يقتصر على تحليل الأعمال الغربية فحسب، بل يفتح الباب أمام القارئ العربى لتأمل موقعه ضمن هذا الحقل العالمى. وإصدار الكتاب ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى يمنحه بعدًا ثقافيًا إضافيًا، إذ يأتى فى لحظة يسعى فيها المسرح العربى إلى إعادة تعريف ذاته وسط التحولات التكنولوجية والاجتماعية المتسارعة. من هنا، يمكن القول إن هذا الكتاب ليس مجرد ترجمة أكاديمية، بل مساهمة فكرية فى مشروع التجريب العربى الذى جعل من القاهرة منصة للحوار بين لغات المسرح العالمية.
وبالنظر إلى لغته التحليلية الرفيعة، يظهر أن سيديروبولو تكتب بروح المبدع الذى يرى المسرح كفعل مقاومة ضد السكون. فهى تعتبر المخرج المؤلف وريثًا للطليعة الأولى، وحارسًا لذاكرة التجريب. لكنه فى الوقت نفسه، مهدد بأن يتحول إلى «مدير إنتاج فاخر» إن لم يحافظ على جوهر المغامرة. من هنا تأتى أهمية الكتاب كتحذير فلسفى بقدر ما هو دراسة جمالية: تحذير من أن يتحول التجريب إلى تقليد، وأن تنطفئ شعلة الخلق خلف الزخرفة البصرية.
وفى ضوء هذه القراءة، يمكن اعتبار الكتاب دعوة مفتوحة للمخرجين العرب إلى إعادة التفكير فى علاقتهم بالنص وبالممثل وبالمتفرج، وإلى التحرر من الثنائية الزائفة بين الأدب والإخراج. فالمسرح العربى، الذى طالما oscillated بين التبعية للنص الأدبى وبين التجريب البصرى غير المنضبط، يمكن أن يجد فى مفهوم «تأليف الأداء» مخرجًا نحو توازن جديد. إن تطبيق أفكار سيديروبولو فى السياق العربى يعنى البحث عن كتابة جديدة على الخشبة، كتابة تستلهم الجسد والفضاء والصوت والذاكرة الجمعية، دون أن تتنكر للبعد الدرامى أو للإنسان.
وإذا ما تأملنا نبرة الكتاب الأخيرة، نجدها أقرب إلى بيان للمستقبل: فالمسرح، كما تؤكد سيديروبولو، سيظل قائمًا طالما بقى الإنسان بحاجة إلى أن يرى نفسه على الخشبة، لا فى الشاشة. إن «المخرج المؤلف» هو آخر المدافعين عن هذا الحضور، لأنه يكتب من لحم الواقع وروح الخيال. ومن هنا، فإن الكتاب لا يتحدث فقط عن تقنية إخراجية، بل عن موقف وجودى من العالم، عن الإيمان بأن الفن فعل مقاومة ضد التلاشى.
فى الختام، يمكن القول إن كتاب «تأليف الأداء المسرحى: المخرج فى المسرح المعاصر» هو بمثابة خارطة فكرية دقيقة لتحولات المسرح خلال قرن من الزمن، من مسرح النص إلى مسرح الأداء، من سلطة الكاتب إلى سلطة المخرج، ومن الدلالة إلى الحضور. إنه عمل يجمع بين العمق النظرى والثراء الجمالى، بين التحليل الدقيق واللغة الشعرية، ويضع القارئ أمام سؤال دائم: من يكتب المسرح اليوم؟ أهو الكاتب أم المخرج أم الجمهور؟ ربما يكون الجواب، كما تقول سيديروبولو بين السطور، أن المسرح لا يُكتب إلا عندما يلتقى الجميع فى فضاء واحد من الخلق الحى.
إن هذا الكتاب، الصادر عن مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى – الدورة الثانية والثلاثون لعام 2025، بترجمة أحمد عبد الفتاح، هو وثيقة فكرية رفيعة تضعنا فى قلب السؤال الجوهرى للمسرح المعاصر: كيف نعيد اكتشاف الكتابة فوق الخشبة؟ إنه ليس مجرد درس فى تاريخ الإخراج، بل هو تأمل فى معنى التأليف ذاته حين يتحرر من الورق ليصبح فعلًا حيًّا على المسرح. ومن هنا تأتى أهميته كمرجع نقدى يثرى الفكر المسرحى العربى، ويفتح آفاقًا جديدة للمبدعين الذين يؤمنون بأن المسرح لا يُقرأ بل يُؤدّى، وأن الكتابة الحقيقية تبدأ حين تضاء الخشبة ويولد الضوء الأول فى عيون الجمهور.


حسن عبد الهادي