نقد الأداء المسرحي الكتابة الحية كإبداع فينومينولوجى(1)

نقد الأداء المسرحي  الكتابة الحية كإبداع فينومينولوجى(1)

العدد 951 صدر بتاريخ 17نوفمبر2025

يتناول هذا الفصل مواجهة مزدوجة بين الأداء ونظيره الرقمى، وبين النقد وعملياته الفكرية. إذ يبدأ فى أواخر شتاء نوفمبر، فى نزوحٍ غريب، ويتبع ضجيج النصوص الرقمية على الإنترنت. وهنا أسأل: ما الذى قد يكون واضحًا فى شرح ظاهرة المعنى فى النقد فى لحظة الأداء؟ ما هو الرهان فى بنية الإدراك المعاصرة، عندما يكون هذا الإدراك موجهًا نحو استجابة فاعلة؟ وأى نوع من التجربة الحسية قد يتشكل بين الجسد والافتراضى، على حافة تبلور اللغة؟ 
 وبالاعتماد على التأملات الفينومينولوجية للفيلسوفة هانا أرندت حول الفعل والتفكير كعملية مُزعزعة، ونظرية الأداء عند إريكا فيشر-ليشته حول جمالية الأداء المعاصر، أستكشف الكتابة النقدية المباشرة كتدخل رقمى فى بيئات المعنى المتعددة. أتوجه إلى مشروع كتابة متعدد المؤلفين وممتد، أشرفت عليه بالتعاون مع فرقة المسرح البريطانية «فورسد إنترتينمنت»، لعرضهم «كيزولا Quizoola!»، وهو عبارة عن لعبة أسئلة وأجوبة بين الفنانين فى آن واحد، وقد بُثّ مباشرةً من معرض ميلينيوم فى شيفيلد فى 21 نوفمبر/تشرين الثانى 2014، ابتداءً من الساعة 11:45 مساءً، لمدة أربع وعشرين ساعة.
 استضاف «كيزولا!» تسعة كتّاب،() تفاعلوا مع العرض الذى بثوه مباشرةً عبر الكتابة المباشرة - نصوص نقدية لمختلف أنواع العدوى الشكلية، رُفعت على موقع مُخصص تستضيفه مجلة اكسينت Exeunt. وركز مشروع الكتابة على عملية التفاعل والانقطاع، واستفزاز الوساطة الرقمية، والمقاطعة، والمدة الزمنية، واستمدّ إلهامه من بنية العرض. وفى «كيزولا»، يُجرى مُؤدّيان جلسة أسئلة وأجوبة لمدة ساعة، تتضمن مُشاركات من الجمهور الذى جُمِع قبل العرض؛ وفى «كيزولا!»، نُفّذت تحولات مُماثلة من قِبل كاتبَين فى كل مرة، دائمًا من مواقع مُختلفة فى المملكة المتحدة وخارجها. تناولت المنشورات أنواعًا مختلفة من العدوى الشكلية، وكانت من تأليف شخص واحد، ولكن فى بعض الأحيان كانت مُتقاطعة؛ وشملت تحليل لحظات مُحددة من العرض، ومعلومات سياقية، والتفكير الترابطى، والتوثيق المُضلّل، والروابط المُضمّنة، وتجارب مادية مُقدّمة عبر الإنترنت. المُؤدّون المُشاركون فى «كيزولا!» انشغلوا بسيل المنشورات فى فترات الراحة، وفى بعض الأحيان، ظهرت إشارة ضمن الإجابة. 
 وربما كانت برودة ذلك اليوم من نوفمبر، أو اقتراب منتصف الليل، هو ما أدى إلى ضوضاء رقمية على حاسوبى بسبب بدء البث المباشر لـ»كيزولا!»؛ فبينما كنت أكتب ردى الأول، لاحظتُ انقطاعًا، لا مفر من تكراره. غمر الصوت المتواصل الصورة الثابتة المُبكسلة pixellated - لم يكن الانقطاع سوى حركة المؤدين، لا أصواتهم. فى الصمت الجمالى، وجدتُ تعليقًا غريبًا: تعليقًا لفترات زمنية متوازية ومتزامنة، حيث كانت استراتيجيات الكتابة فى صياغة المعنى تتنافس وتُكمّل استراتيجيات الأداء. وبينما لم يكن هذا السكون المُتقطع ليحدث إلا من خلال الوساطة الرقمية، فقد تذكرتُ شعورًا مشابهًا فى حالات انقطاع الانتباه القصيرة أثناء لقاءات الأداء. فى هذه اللحظات التى تأخذ الناقد إلى مكان آخر، يصبح التفكير بمثابة نوع من التوقف، أمام شيء لا يمكن أن يقف ساكنًا - ما تشير إليه أرندت بأنه شيء «غير ملائم»، يقاطع المفكر ويصرفه عن اللحظة الحالية. 
على علامة الترقيم الصغيرة الأخرى التى يمكن أن يكون لدينا مشاعر بشأنها، وهى علامة الاقتباس للملكية.
فى وقت متأخر من الليل، وإن لم يكن متأخرًا جدًا، إلا أن الصوت الجديد أثقل، والأجساد مختلفة عندما تكون هناك غموض مستمر وتوقعات مرتبطة.
إنه مثل هذا: تذبذب، سلسلة من القرارات، التى نشعر بثقلها أو نشهدها: يتم تبديد الفعل، وتتراكم المراجع (أقل من الصفر، نيورومانسر) الملاحظات (رأنى اثنان من الغرباء أدخل المبنى، كنت هناك قبل أن آتى إلى هنا) التأملات (كنت بالخارج قبل أن أولد) التهديدات (هل أنت تتصرف بشكل سيئ) التأملات الدرامية (ما الذى يحدث بسبب السخرية الدرامية عندما يضع شخص ما بعض الحديد فيها) التكرار (ما هى دولتك الأفريقية المفضلة؟)
أو
هنا 
أو 
هنا 
أو 
هنا 
السيدة تاتشر المفقودة/غواصة
•  ديانا. 
(الشكل 1-11. لقطة الشاشة. عرض «كيزولا!» ديانا داميان مارتن) 
لقد جعلنى الضجيج الرقمى أدرك بوضوح ظواهر النقد، والنقد كظواهر أيضًا، كاشفًا عن شبكة معقدة من الأحداث تبدأ فى لحظة لقاء الأداء وفى اتجاهات الاهتمام الكتابى المتعددة. بدا لى أن ما كنا ننخرط فيه لم يكن سوى متابعة الاستنتاجات المحتملة لمثل هذا التفكير الفينومينولوجى فى النقد. اذ تكشف لحظات التوقف عن العمل عن التكوين وسياسة اللقاء بين الإدراك والفكر وتعدد أشكال صنع المعنى. أعتبر أن النقد هو ذلك التكوين الذى لم يسبق له مثيل، وكشكل من أشكال التقديم الإبداعى، القائم على الفعل (فعل الصنع). هنا، أقترح أن النقد هو مثل هذا التكوين، الذى يتميز بظواهر التقاء متعددة، على الحدود بين الفكر والفعل.
لاستكشاف هذا «التكوين الفنينومينولوجى”، أضع الكتابة الحية أولاً كجزء من حركة ناشئة لنقد الأداء، لتُعنى بالتجريب الشكلى، وأُفصّل فى كيفية ارتباطه بمسائل المظهر. وبدراسة تفاعل الفكر والمظهر عند أرندت، أضع نقد الأداء باعتباره منخرطًا فى عمليات المظهر. وأُحدد ذلك بالاستعانة بأعمال فيشر-ليشته حول تعددية صنع المعنى وعدم استقرارها فى الأداء المعاصر. الاستراتيجيات الشكلية التى يبنى عليها عرض «كيزولا!» مُدمجة فى عمليات المظهر، وهى لا تمنح بعدا سياسيا لكيفية تصورنا للنقد كنشاط تفكير فحسب، بل أيضًا كنشاط حسّى.

•  بيئات النقد المتغيرة 
 فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، اندلع نقاش عام حول الحدود المهنية للنقد فى المسرح والأداء. وتعلق هذا النقاش بترسيخ النقد الإلكترونى كبديل صوتى وواضح لوسائل الإعلام السائدة. وفى ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، وتغير أولويات التقييم الثقافى على المستويين المؤسسى والحكومى، فمثّلت هذه النقاشات العامة تحولاً فى ثقافة النقد، اتسم بتنافس ادعاءات الشرعية: الشك فى قلة تنوع نقاد الصحف، والتخفيضات المتلاحقة التى أدت إلى طرد عدد من النقاد دون إيجاد بديل، وتنامى مجتمع المدونات الذى يتعارض مع الصورة المتجانسة للناقد فى وسائل الإعلام السائدة.() 
فى مجموعة مقالاتها المحررة حديثًا، «نقد المسرح: تغيرات المشهد»، تُحدد المحررة دوشكا رادوسافليفيتش ثلاثة مشاهد متنافسة كجزء من هذا التحول: النقد الأكاديمى، بصراعه بين التقييم والتفسير، ونقد الصحف، الذى يتميز بتناقص الموارد المخصصة لنقد الفنون، والمجلات (ولاسيما «خشبة المسرح» و»الوقت المستقطع»)، والنقد الإلكترونى. وتمييزًا بين الوسائط السائدة وعالم النقد الإلكترونى، تُقارب رادوسافليفيتش هذا الأخير من خلال التزامه بمجال تكنولوجى واجتماعي-اقتصادى مُميز.() وبينما يرتبط المشهد المتغير الذى تُجسده رادوسافليفيتش ارتباطًا واضحًا بمسائل الشكل، والقدرة الخطابية، والطموحات المفاهيمية للنقد، فإنه يرتبط أيضًا بالضغوط المتغيرة للسوق الثقافى، وموقف تأملى ذاتى تجاه الإشارة إلى القيمة الثقافية والدفاع عنها ووضع علامات عليها. فى معظم الأحيان، تظل أشكال النقد الموضحة فى الدراسة ملتزمة بالمراجعة باعتبارها النموذج الرئيسى الذى يتم من خلاله التعامل مع الكتابة.()
 بالتزامن مع ظهور النقد الإلكترونى فى أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، نمت ثقافة بديلة، متداخلة فى نسيجه، ولكنها منفصلة عنه أيضًا، ثقافة معنية شكليا بحدود النقد، ومتجاوزةً للتقييم، وخارجةً عن الجذور الصحفية للمراجعة. ففى عام 2012، نشر أنتونى هورويتز، المقيم فى الولايات المتحدة، مقالًا لموقع روبوت الثقافة Culturebot بعنوان «إعادة صياغة الناقد للقرن الحادى والعشرين: الدراماتورجيا، والدعوة، والمشاركة»، والذى جسّد وعبّر عن تركيز عدد متزايد من النقاد العاملين داخل الوسائط الرئيسية وعلى هامشها، وفى عالم المدونات والمنشورات الإلكترونية. عبّر مقال هورويتز عن قلق متزايد تجاه المراجعة كشكل نقدى شامل وفريد، يتردد صداه خارج المحيط الأطلسى. دافع المقال عن إعادة صياغة علاقة النقد بالأداء، بعيدًا عن التقييم الذى يُعدّ جوهر المراجعة. تتصور «الأفقية» علاقة حوارية بين الأداء والنقد، مرتبطة بالتفسير والتقييم.
 يتحدث هورويتز عن «المعلومات والفحص والتفسير» و»خلق السياق من خلال ربط العمل المطروح بأفكار أوسع، وبالسوابق التاريخية والجمالية، وبالعالم الذى نعيش فيه». ويرتبط الأسلوب الأفقى أيضًا بالنقد المُدمج، حيث يُشجع الكاتب على الانخراط فى العملية الفنية ومراقبتها بفاعلية، متخذًا «الدور المزدوج للكاتب المسرحى والشارح». فى مساهمتها فى كتاب رادوسافلجيفيتش، تتحدث الناقدة مادى كوستا صراحةً عن تأثير فكر هورويتز على ممارستها، حيث انتقلت من ناقدة صحفية إلى كاتبة تعمل على هامش النقد، ولكن فى خضم الأداء ومساراته. 
 يُعدّ هذا التموضع الجديد علامةً على التميز الذى لطالما حافظت عليه الممارسة السائدة: فعمليات النقد فى التقييم الثقافى، كخدمةٍ للأداء، تنطوى على رفضٍ واضحٍ للمشاركة الثقافية أو تنطوى على مفاوضاتٍ أخلاقية. ويتجلى هذا فى المناقشات التقليدية حول النقد التى تُبرز الموضوعية كضرورةٍ للحفاظ على الدقة النقدية، فى حوارٍ مع التحولات فى مفاهيم النقد التى كشفت عنها ما بعد الحداثة.() وقد مثّلت الأفقية، وما تلاها من أعمالٍ نقديةٍ مُدمجةٍ غذّتها، نقطةَ تحولٍ فى النقد من خلال التعامل مع الذاتية ليس كنموذجٍ، بل كجزءٍ لا يتجزأ من العملية النقدية. وإذا كانت المراجعة تُؤيّد صورة الناقد كموقعٍ تمثيليٍّ فريدٍ للخبرة، فإن الأفقية تجذب اهتمامًا متزايدًا بتفاعلٍ أكثر مفاهيميةً وحواريةً يُراعى دور الذاتية فى النقد. 
مع ذلك، سبقت النزعة الأفقية مجموعةٌ مهمة من الأعمال النقدية التجريبية والمفاهيمية المنبثقة من مجالَى الأداء والفن الحى live art. نشأ مشروع «الحوارات المفتوحة»، وهو مشروع تعاونى بين مارى باترسون وراشيل لويس-كلافام، «يُنتج الكتابة عن الأداء وكأداء»، نتيجةً لبرنامج «الكتابة من الفن الحي»، وهو برنامجٌ للكتاب النقاد أدارته وكالة تطوير الفن الحى عام 2006. دعا مشروع «الحوارات المفتوحة» إلى الاهتمام بالحوار وإحداث تغيير جذرى فى «مجال النقد من حيث الشكل والوظيفة وإمكانية الوصول»، وعمل على نموذج النشر الذاتى، فى وقتٍ كانت فيه المدونات الإلكترونية قد بدأت للتو فى اكتساب زخمٍ فى مجال النقد الأوسع.
 إلى جانب هذا الاهتمام الرسمى بحدث النقد، نشأ ما سيصبح نموذجًا تعاونيًا طويل الأمد بين المهرجانات والكتاب، مع تأسيس مهرجان سبيل للأداء الفنى من قِبل فرقة باسيتى. مُكرّسًا لعرض الأعمال فى مجالات الفن الحى والمسرح التجريبى والأداء، تضمن مهرجان سبيل برنامجًا للكتابة بعنوان «سبيل: أوفر سبيل»، ابتكره المشاركون فى برنامج «الكتابة من الفن الحي» وأشرفت عليه مؤسسة «أوبن-ديالوجز».
 فى نسخته الثانية عام 2009، أبرز مشروع «اراقة: فيضان Spill: Overspill» هدفه المتمثل فى الاستجابة «نقديًا للأعمال المعروضة، وخلق سياق خطابى آنى لمهرجان «اراقة»، سياق ينبثق من السياقات المعتادة للمهرجان». منذ انطلاقته، قدّم « اراقة: فيضان» نفسه كـ»برنامج كتابة نقدية مُصمّم خصيصًا» يقع فى «قلب مهرجان «اراقة». يُعدّ تركيزه على فعالية النقد أمرًا غير مسبوق فى المملكة المتحدة. ويُعدّ ابتعاده عن التقييم نتيجة مباشرة لطبيعة المشروع الراسخة، الذى يتسم بالتجريب الصريح، ولكنه يعتبر النقد أساسه. يستند «اراقة: فيضان» إلى مفهوم الكتابة كحدث ناشئ ضمن الكتابة الأدائية. 
 تُشكل هذه المناهج النقدية سلسلةً من التجارب التى تُراعى تداخل الشكل والمضمون، وتجربة الأداء كنقطة انطلاقٍ نقدية، ويمكن فهمها بشكلٍ عام من خلال ما أسميه نقد الأداء() ما أقصد التعبير عنه هنا هو قاسمٌ مشترك لا يقتصر على مهنة النقد، بل يُنوّع دلالاته الشكلية كممارسة. فنقد الأداء هو وسيلةٌ للدلالة على نطاقٍ أوسع للأشكال التى قد تندرج تحته، مع الإقرار بالأصول المميزة لنقد المسرح كنقدٍ صحفى وأدبى.
 يبرز عرض «كيزولا!» عند تقاطع تواريخ حديثة متعددة وهامشية، كمثال على نقد الأداء. فهو يستند إلى مفهوم الرقمى كمجال عام ذى دلالات شكلية، ويتابع نسخة سابقة، استجابةً لعرض «وفى ألف ليلة وليلة»، وهو عرض ترفيهى إجبارى ممتد، تلاعب بحدود وأشكال السرد، والذى كتبت عنه فى مكان آخر.() فى حين أن «كيزولا!» فى حوار مع الأداء، فإن وجوده على الإنترنت، وانفصال كتّابه المشاركين عن اللحظة الحية، يشملان شاعرية مختلفة.
يقع «كيزولا!» ضمن سلسلة أعمال تتناول الحدود بين عمليات بناء المعنى فى الأداء وتلك الخاصة بالنقد، وهو يتأرجح على حافة التأويل. يسعى إلى التدخل فى تدفق المعنى المتراكم فى البيئات الرقمية المتعددة للأداء، وإلى تقديم وثيقة بديلة ونقدية، مع ذلك، لا تخضع للتمثيل.
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح