إذا استطعنا أن نجيب على سؤال: لماذا يُفضل الناس الجلوس على المقهى بدلا من الذهاب إلى المسرح..؟ لا شك أنه يمكننا بعدها اجتذاب روّاد المقهى إلى المسرح، أو استقطاب بعض منهم على الأقل، ففي المقهى يُمارس الروّاد مجموعة من الأنشطة أهمها الاسترخاء، اللعب، الثرثرة، الأكل، الشرب.. وهناك خاصيتان للمقهى في منتهى الأهمية هما أن كل ما يطلبه روّاد المقهى يجدونه ولا تفرض عليهم أية أشياء لا في شكل الجلوس ولا فيما يريدونه ويفضلونه، وأيضا دفعهم للنقود كمقابل لما حصلوا عليه من خدمات ومتعة داخل المقهى يكون بعد انتهاء جلستهم وليس في بدايتها، أما في المسرح، وخصوصا مسارح العلبة الإيطالية، فإنهم يدفعون مسبقا ثمن التذكرة، ويدخلون إلى صالة المسرح يقودهم أحد العمال إلى أماكن جلوسهم التي ربما لا تعجبهم وإنما اضطروا إليها لأية أسباب تنظيمية أو مادية، ثم تخفت الإضاءة وتسمع دقات المسرح الثلاث أو على الأقل صوت مخرج العرض أو من ينوب عنه وهو يُعلن بداية العرض بعد قليل ويرجو المتفرجين إغلاق أجهزة المحمول.. ثم يبدأ العرض المسرحي الذي ربما لا يعجب بأية حال من الأحوال الجمهور فهو مفروض عليهم ومعد مسبقا لتقديمه لهم، وليس من حق أحد المتفرجين الكلام أو الانتقال من كرسي لآخر أو الخروج لأية أسباب أثناء العرض، وكذلك ليس من حق أي أحد التدخين أو الأكل أو الشراب أو... أو... فللمسرح قواعد وآداب تنظيميه صارمة يجب أن تحترم.لذا، ولكل هذه الأسباب يظهر المسرح ببنايته الكبيرة الشامخة مكانا طاردا للجماهير، ويظل المقهى الموجود على الرصيف وفي الأزقة والحارات بكل ما فيه من ضجيج، مكانا جاذبا للجماهير، فهل إذا استطعنا أن نقرب المسافات بين الاثنين أن ينال المسرح جزءا من جاذبية المقهى.. إذا استطعنا أن نعطي بعض الحرية للمتفرج في أن يجلس بطريقة مغايرة، وأن يتحول من مجرد متفرج إلى مشارك فاعل داخل العرض، يستطيع عبر هذه المشاركة التنقل من مكان لآخر، والحديث مع هذا وذاك من المتفرجين والممثلين، وأن يكون بإمكانه أيضا حذف مشهد وإضافة آخر، وذلك بأن يسمح نص العرض بوجود مساحات منقوطة أو ارتجالية تتيح هذه المشاركة؛ أي أننا إذا استطعنا أن ننقل الظروف والشروط التي يتمتع بها المقهى إلى المسرح، ربما كان لذلك الأثر الطيب والجماهيري في بعض العروض.هناك طريقة أخرى عكسية، وهي ما نحن بصددها هنا، وهي أن ينتقل المسرح إلى المقهى؛ أي أن نقيم عرضا مسرحيا داخل المقهى ويكون روّاد وزبائن هذا المقهى هم جمهوره، وهناك تجارب كثيرة تمت داخل هذا السياق، منها تجارب مقهى “سينو”، ومقهى “لاما ما” في أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فقد كان “جو سينو” صاحب المقهى الأول ينتج عرضا مسرحيا كل أسبوع لمدّة ثلاث سنوات متوالية، أما مقهى “لاما ما” فقد كانت تديره السيدة “إلين ستيوارت” وكان به من الأماكن ما يتسع لمائة متفرج، وقد أنتج هذا المقهى كثيرا من مسرحيات تنيسي ويليامز. وفي باريس كانت هناك وفي هذه الفترة نفسها تقريبا مقاهي “لي دو بون”، “كولبير”، “مقهى النادي الكبير”.أما في مصر، فقد عرفت كثيرا من المقاهي الكثير من العروض المسرحية، وكان من أهمها مقهى “نزهة الإخوان” في كفر شيما، وكان ذلك في سنة 1897م، وكذلك قهوة “الدانوب” بالإسكندرية التي قدم فيها أبو خليل القباني ما يزيد على خمسة وثلاثين حفلة مسرحية، كذلك قدم عزيز عيد أول أعماله على المقهى، وغنى سيد درويش أول ما غنى على مقاهي الإسكندرية، وكذلك تجارب نجيب الريحاني واستيفان روستي سنة 1916م على مقهى “لابيه دي روز”، تجربة محمد فاضل وناجي جورج على قهوة المختلط بميدان العتبة.. وأيضا تجارب د. عبد الرحمن عرنوس على مقاهي سوق الحميدية، إسترا، بلودان، علي بابا.. إلخ.إذن، فتجربة مسرح المقهى ليست غريبة على المسرح المصري، ولكن للنص المسرحي الذي يُقدم على المقهى شروطا، أهمها أن يكون مرتجلا ولديه إمكانية مرنة لاقتراح الكثير من المعالجات الدرامية للمشكلات الكثيرة التي تهم الفرد رواد هذه المقاهي والأماكن من حولها، أو على الأقل يكون النص مكتوبا بشكل يُلائم المقهى، وبمقدوره استغلال مساحتها وأدواتها وطبائع ناسها، وبذلك يصبح المقهى مكانا للمسرح ويتحول من مجرد مكان للهو إلى مكان للتثقيف والوعي، والقضايا التي يجب أن يطرحها نص مسرحية المقهى يجدر بها أن تكون عامة تخص أكبر شريحة من الجماهير، وشخصيات المسرحية تشبه روّاد المقهى في أدائها الحركي والحواري، فالمسرح هنا يُخاطب القاعدة العريضة من الشعب متخليا عن نخبويته المتزايدة وهو يُقدم داخل مسارح العلبة الإيطالية.