العدد 913 صدر بتاريخ 24فبراير2025
النص المسرحي المكتوب بالآلة الكاتبة والحاصل على ترخيص الرقابة بتمثيله تحت رقم «152» بتاريخ 29/6/1987، هو نفسه النص رقم «304» المحفوظ في مكتبتي الخاصة، والذي كان محفوظاً في ملف من ملفات «مسرح الطليعة وقاعة صلاح عبد الصبور» ومكتوب عليه «مدرسة البصاصين» تأليف جمال الغيطاني، وبالداخل وجدت خطاباً رسمياً من مدير المسرح «سمير العصفوري» إلى مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية، مؤرخ في يوم 10/5/1987، جاء فيه الآتي: “نرسل لسيادتكم عدد ثلاث نسخ من مسرحية «مدرسة البصاصين» تأليف الأستاذ جمال الغيطاني، والتي سيقدمها المسرح في هذا الموسم. برجاء التكرم بعمل اللازم مع جزيل الشكر». هذا ما قرأته عندما اطلعت على الملف أثناء تسجيل رقمه، دون الاطلاع على النص ووثائقه المرفقة، مما جعلني أشك في مصداقية الموضوع، لأنني أعلم أن جمال الغيطاني لم يكتب مسرحاً من قبل!!
الغريب أنني قرأت التقارير الرقابية المرفقة التي تؤكد – في ترويستها – على اسم المسرحية وأن مؤلفها «جمال الغيطاني»!! فعلى سبيل المثال الرقيب «سمير رشدي» كتب ملخصاً للمسرحية قال فيه: «تدور أحداث المسرحية في عهد السلطان الغوري وأن زكريا بن الراضي يشغل منصب كبير البصاصين وكان يهيمن على كل شيء في الدولة، ولا يتم أي شيء في الدولة بدون علم مسبق له، وأنه وزع أعوانه ومعاونيه في أنحاء البلاد وكان يقبض على أي شخص يشك فيه ويدخله السجن. وحدث أن الوزير «الزيني بركات» أمر بإضاءة المدينة ليلاً، وتركيب الفوانس على أبواب المنازل، وتم ذلك بدون علم كبير البصاصين فغضب وأمر أن تطفئ الأنوار لأن لم يتم أخذ رأيه وعلمه ولكن الزيني بركات أقنعه بأن لا بد من إنارة البلاد لكي يرى الناس ليلاً والذين يدخلون البلاد ليلاً ويخرجون منها، وحدث صراع بين الوزراء وكبير البصاصين بما له من سطوة ونفوذ وكانت النتيجة أن الشعب هو ضحية الصراع على النفوذ».
ومن خلال هذا الملخص علمت أن المسرحية هي مسرحة لرواية «الزيني بركات»!! ولكن لماذا كتبها الغيطاني مسرحية بعد أن كتبها رواية، وما الداعي لذلك؟! الغريب أن الرقيب أنهى تقريره برأي قال فيه: «إن المسرحية مليئة بالآيات القرآنية غير الصحيحة، ويحتاج الأمر لإحالتها للأستاذ المستشار للشئون الدينية وشكراً». وهذا الرأي زاد الأمر غرابة، وتساءلت: هل الغيطاني مسرح الرواية ولم ينتبه للأخطاء في الآيات القرآنية ولم يصححها! فتركت تقرير هذا الرقيب، وبدأت أقرأ تقرير الرقيب الثاني «أدهم مصطفى القلعي»، الذي أكد في بيانات تقريره أن المؤلف جمال الغيطاني!! وبعد ذكره لملخص المسرحية، اختتم تقريره برأي قال فيه: «أرى أنه لا مانع من الترخيص بالمسرحية المذكورة بعد التأكد من صحة الآيات القرآنية الواردة بها، وأيضاً الأحاديث النبوية الشريفة بالصفحات 3، 15، 16. والرأي للرقابة بعد مشاهدة البروفة أو التجربة النهائية للمسرحية المذكورة مع ضرورة الالتزام بالقوانين الرقابية». أما الرقيب الثالث «شوقي شحاتة» فلم يختلف في رأيه عن سابقيه، حيث أكد أن المؤلف جمال الغيطاني، وأن النص به آيات وأحاديث غير صحيحة.
اطلع مدير الرقابة على التقارير الثلاثة، وكتب تقريراً نهائياً، اختتمه قائلاً: أرى اعتماد ترخيص النص على أن تُحذف منه الآيات القرآنية أو تُصحح وتؤدى أداءً صحيحاً، وكذلك حذف «مؤتمر كبار البصاصين» في البداية والنهاية، وكذلك الحذف في الصفحات 1، 2، 3، 4، 5، 7، 11، 12، 15، 16، 18، 21، 24، 33، 35، 36، 37، 39، 40، 41، 42، 43. وتغيير اسم المسرحية، وعبارة «الشهاب الأعظم»”. وصدر الترخيص بعرض المسرحية تحت رقم «152» يوم 29/6/1987، وهذا نص الترخيص:
“لا مانع من الترخيص بنص مسرحية «مدرسة البصاصين» - [وهناك شطب على الاسم ومكتوب أعلى الشطب «يُغير الاسم»] – لمسرح الطليعة على أن يراعى الآتي: حفظ الآداب العامة في الأداء والحركات والملابس. والحذف في الصفحات المشار إليها 1، 2، 3، 4، 5، 7، 11، 12، 15، 16، 18، 21، 24، 33، 35، 36، 37، 39، 40، 41، 42، 43، ولفظ «الشهاب الأعظم». ويُعمل بروفة للرقابة قبل البروفة النهائية بدون جمهور. ولا يطبع أفيش المسرحية إلا بعد إعطاء الترخيص بصفة نهائية. وإخطار الرقابة بموعدي التجربة النهائية والعرض الأول لهذه المسرحية حتى يتسنى بعد مشاهدتها إعطاء الترخيص بصفة نهائية. وتغيير اسم المسرحية. والتأكد من صحة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية”.
ألقيت نظرة على أرقام الصفحات المدونة في الترخيص، فوجدت آيات قرآنية مكتوبة خطأ بالفعل، وقام الرقيب بتصويبها بالقلم. ومنها على سبيل المثال قول الكاتب: وقال تعالى «يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشنعون إلا لمن أرتضى إلى الله ترجع الأمور»، فشطب الرقيب الخطأ وصوبه بالآية الكريمة الصحيحة: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ”. وكذلك كان الأمر في الآية الصحيحة: “مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ”، حيث كتبها المؤلف بصورة خاطئة. وكلما تتبعت الصفحات وما فيها من حذف أتعجب كيف فعل ذلك جمال الغيطاني؟! ولماذا مسرح روايته التي تُعد من النقاط المضيئة في مسيرته الإبداعية الروائية؟!
وما جعلني أرتاب في الأمر أكثر أنني اتصلت بالأستاذ «سمير العصفوري» لأستوضح منه أمر هذه المسرحية، فحاول تذكرها دون جدوى، وتعجب أن جمال الغيطاني كتب مسرحية يوماً ما لمسرح الطليعة!! فاحتفظت بكشفي هذا فترة من الزمن وأنا متردد: هل أسعى بكشفه كون هذا العمل المسرحي هو الأول والأخير لجمال الغيطاني!! وقبل أن أتسرع كاشفت صديقي «يسري حسان» وسألته: هل جمال الغيطاني كتب مسرحيات؟ قال: لا أظن! فقلت له إنني أملك مخطوطة مسرحية كتبها هو ولكني أريد أن أتأكد ربما كتب مسرحيات أخرى، أو على الأقل كتب هذه المسرحية ونشرها أو لم ينشرها أريد أن أتأكد! فقال يسري إن الأستاذ «شعبان يوسف» هو الذي سيفيدنا في الأمر. وبالفعل تواصلت مع الأستاذ شعبان، الذي أكد لي أن الغيطاني لم يكتب مسرحيات نهائياً، ولكنه سمع من شقيق الغيطاني أن محاولة مسرحية واحدة فقط كانت لجمال، ربما هي ما تبحث عنه؟ واتصل الأستاذ شعبان بشقيق جمال الذي أكد له عدم وجود أي نص مسرحي مخطوط أو منشور للغيطاني!!
كل هذه الأحداث زادت من شكوكي، وفتر حماسي وأصبحت متردداً بين السعي إلى كشف الأمر ربما يهتم به شقيق جمال الغيطاني وينشر النص، وبين إخفاء الكشف للمزيد من الدراسة والتحقيق، لا سيما وأن مسرح الطليعة لم يعرض في تاريخه نصاً بعنوان «مدرسة البصاصين»، ولم يعرض أي عمل مسرحي من تأليف جمال الغيطاني، لأنني وضعت احتمالاً بأن النص عُرض في الطليعة باسم آخر تطبيقاً لترخيص الرقابة! وتركت الموضوع ونسيته أمام اهتمامات أخرى، وعندما قررت كتابة حلقات «النقد المسرحي السري والمجهول في مصر»، قلت أعود للغيطاني وأبدأ به بوصفه باكورة الحلقات – وجمال الغيطاني يستحق، وكشف أول نص مسرحي يستحق أيضاً – وبدأت أقرأ النص أو مسرحة رواية «الزيني بركات»، وكانت المفاجأة في الصفحة الأولى!! المؤلف كتب صفحة كاملة يشرح فيها عمله تحت عنوان «مقدمة لا بد منها»، قال فيها الآتي:
“«الزيني بركات» هو بركات بن موسى والي الحسبة الشريفة في عهد السلطان الغوري، حقق ونائبه كبير بصاص الديار المصرية الشهاب الأعظم زكريا بن الراضي تطوراً هائلاً في حفظ النظام والأمن الداخلي والقبض من حديد على زمام الأمور. وأمكنهما حصر فئات الشعب وطبقاته وتسجيلهم في دفاتر - لأول مرة – تحوي تفاصيل هامة عن أهم سمات من نقاط ضعف وميزات لكل شخص في الديار المصرية يمكنه لعب دور في الحياة السياسية أي كانت طبقته ومكانته الاجتماعية. وعقد في عصرهما أول مؤتمر في التاريخ لكبار بصاص العالم. ذلك هو العالم الذي خلقه الكاتب الشاب الموهوب جمال الغيطاني لنعيش معه في سحر ذلك العالم المليء بالصراعات والتآمرات داخل دهاليز إدارات البصاصين .. ونشاطاتهم في دكاكين الشراب وأروقة الأزهر الشريف».
أكيد عزيزي القارئ انتبهت إلى أن جمال الغيطاني يكتب بأسلوب الغائب أو أن شخصاً ما يكتب عنه وليس هو من يكتب عن نفسه!! وهذا أمر مشروع في الإبداع من أجل التشويق!! ونستكمل معه ما كتبه في المقدمة، حيث قال: “إلا إن هذا الإنجاز الأمني الهام والمتطور لم يستطع أن يحمي الدولة المملوكية إلا من ثورات الجياع والتمردات الداخلية في حين أن كل ذلك أمام الغزو الخارجي الآتي من الشرق والمتمثل في هجوم دولة ابن عثمان «الدولة العثمانية»”. ثم نجد الغيطاني يمدح نفسه بصيغة الآخر وكأن شخصاً آخر يمدحه، فيقول: «لقد خلق لنا جمال الغيطاني ذلك العالم الساحر القريب من الواقع من خلال الشخوص والأحداث الرئيسية لنعيش معه كيف ينهزم البناء المنعزل عن الإنسان الفرد .. المواطن .. أمام الغزو الخارجي .. وكيف تكون الضحية في الحالتين هو الإنسان. وكان الإعجاب بالفكرة دافعاً قوياً أشعل ذهني ومشاعري لنقل الصورة الوصفية القصصية إلى عالم مرئي مسموع يحيا ويتحرك بين الجمهور على خشبة المسرح. وكان ذلك جهداً شاقاً لا جدال، ولكنه ممتع ما زلت أحلم بتجسيده وتحقيقه في صورته الساحرة الساخرة».
هذا الكلام رغم انطباقه على جمال الغيطاني كونه لم يكتب مسرحاً من قبل، يمكن قبوله في مضمونه، ولكنه مرفوض ممن يعرف الغيطاني!ّ! فقد شعرت أن الغيطاني يستدر عطف القارئ، وينتزع منه الشفقة والرحمة، وكأنه يكتب إبداعاً لأول مرة في حياته!! ومما زاد استفزازي الجزء الأخير من المقدمة، وقال فيه:
“وبهذا الإعداد المتواضع أخطو أول الخطوات في سبيل تحقيق هذا الحلم وتبقى خطوة أساسية أهم وهي تجسيده من خلال إخراج هذا الإعداد «المشروع» ليأخذ صورته النهائية في شكل عرض مسرحي آمل أن أنقل فيه تلك الصورة التي تصورها الكاتب «جمال الغيطاني» ومن خلال تقارب خيالي لتصوراته. ولصعوبة تحقيق هذا الهدف اختزلت إعدادي في حدود بضع أجزاء من العمل الروائي، من خلال مؤتمر البصاصين، ويبقى للعمل الأدبي عالمه وسحره الذي لم أبحر فيه بعد .. وقد يدفعني تحقيق بعض الحلم إلى الخوض في ساحات أكبر من هذا العالم في عمل آخر أو أن أفتح الطريق لغيري لنقرأ التاريخ القريب من خلال الفن».
بهذا الكلام وصل شكي إلى قمته! هل هذا أسلوب جمال الغيطاني؟! هل هذه أحلامه؟ هل هذه أمنياته؟ إنه أسلوب وأحلام وأمنيات شاب في مقتبل عمره يكتب لأول مرة، ويقوم بمسرحة الرواية لأول مرة .. لا يمكن أن يكون هذا الكلام لجمال الغيطاني! وقبل أن أشرد في تفكيري وتخميناتي وجدت الإجابة في كلمتين مكتوبتين في نهاية المقدمة وهما «أحمد هاني»، ومكتوبتين في صورة «توقيع»!! مما يعني أن كاتب المقدمة هو «أحمد هاني» ولم يكن جمال الغيطاني؟!!
إذن فأحمد هاني هو كاتب المقدمة، وربما هو من قام بمسرحه رواية «الزيني بركات» في صورة مسرحية «مدرسة البصاصين» .. وهذه المفاجأة – غير المؤكدة – تثير عدة أسئلة، منها: لماذا خلا الخطاب الرسمي الموجه من سمير العصفوري إلى مدير الرقابة من اسم المُعد «أحمد هاني» والاكتفاء باسم «جمال الغيطاني» بوصفه المؤلف؟! ولماذا أصرّ الرقباء الثلاثة على وضع اسم «جمال الغيطاني» بوصفه مؤلف المسرحية، دون الإشارة إلى اسم أحمد هاني؟! وقبل كل هذا من هو «أحمد هاني» هذا؟ كيف وصل إلى مسرح الطليعة ليعرض له باكورة إعداده المسرحي؟ فهل هناك من يتذكر هذا الاسم وهذا النص منذ «38 سنة»، لا سيما وأنه حصل على الترخيص بتمثيله فعلاً في مسرح الطليعة بعد تغيير اسمه، فهل تم تمثيله أو تم تغيير عنوانه، وإن لم يُمثل فهل هناك مبرر لذلك .. من يتذكر ذلك ويخبرنا؟! وهل في الرقابة المسرحية من يتذكر هذه الواقعة، وهذا النص الذي أخذ رقم وارد «145» بتاريخ 27/5/1987؟!
هذه الأسئلة مطروحة الآن أمام الباحثين لمن يرغب في البحث وإثبات أن النص كتبه «جمال الغيطاني» وبالتالي يكون له السبق في الاكتشاف، لا سيما لو اهتم وتحقق من ذلك وقام بنشر النص، ليكون أول عمل مسرحي قام به الغيطاني ويتم اكتشافه بعد وفاته بعشر سنوات! وربما يهتم بالأمر أحد المتخصصين في أدب الغيطاني فيقوم بدراسة هذه المسرحية! وربما يهتم بالأمر أحد المتخصصين أو المهتمين بمسرحة الرواية، كون هذا العمل هو مسرحة لأهم رواية كتبها الغيطاني، وهي رواية «الزيني بركات»! وأخيراً ربما يهتم بالموضوع أحد المتخصصين في «الدراما» عموما، أو المتخصصين في المقارنة أو الدراما التليفزيونية، ويقوم بمقارنة «الزيني بركات» بين الرواية وبين المسرحية وبين المسلسل التليفزيوني!!