العدد 914 صدر بتاريخ 3مارس2025
العالم مسرح كبير، والجميع يلعب دورًا فيه، لكن ماذا لو كان دورك الوحيد هو أن تكون “مجرد عايش”؟ المسرحية التجريبية “عايش.. إكلينيكياً”، تأليف وإخراج أحمد شمس، تأخذنا في رحلة عميقة داخل النفس البشرية، حيث تتداخل الكوميديا السوداء مع الفلسفة، والمأساة مع العبث، لتطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا: هل أنت فعلاً حي، أم أنك مجرد كائن يعيش بلا معنى يسير وفق إيقاع الحياة دون وعي؟ العرض لا يكتفي بإثارة الضحك أو التأمل بل يضع الجمهور أمام مرآة تكشف هشاشة الإنسان أمام عبثية الواقع.
و يسير العالم بإيقاعه الخاص، بينما نحن نظن أننا نحكم مصائرنا، لكننا في الحقيقة مجرد انعكاسات لنظم اجتماعية مفروضة علينا. نعيش، نعمل، نحب، نخطئ، لكن هل نحن أحياء حقًا؟ أم أننا مجرد كائنات تتنفس دون أن تشعر بالحياة؟ هذا التساؤل العميق يطرحه العرض المسرحي من خلال رحلة عبثية تمتزج فيها الكوميديا بالمأساة، والواقع بالحلم، ليضع المشاهد أمام مرآة نفسه.
يدعونا العرض إلى تفكيك حياتنا اليومية، إلى إعادة النظر في قراراتنا، وطرح تساؤلات قد نهرب منها. كيف يتحول الإنسان إلى مجرد ترس يدور في آلة المجتمع دون وعي؟ وما الذي يحدث عندما يقرر هذا الترس التوقف للحظة؟ المسرحية لا تكتفي بتقديم قصة درامية، بل تخلق تجربة بصرية وسمعية تجبر الجمهور على التفاعل والتفكير، مستغلة كل عناصر المسرح من سينوغرافيا، إضاءة، موسيقى، وحركة تعبيرية.
تبدأ المسرحية وتنتهي باستعراض صامت، وكأنها تؤكد على أن الحياة “دائرة مغلقة”، حيث يتكرر نفس الألم والتعب، مع اختلاف التفاصيل. الحركة الجسدية كانت في البداية تعبيرًا عن الإرهاق النفسي والجسدي، بينما جاءت الأغاني في النهاية لتترجم هذه الحالة إلى كلمات واضحة، مؤكدة على ثقل الهموم وضغط الحياة. الإضاءة الحمراء التي صاحبت الاستعراض تعكس الشعور بالخطر، التوتر، وربما الألم، مما يعمّق دلالات المشاهد.
أما الراوي، فقد اتخذ دور العارف بكل شيء، حيث قدم كل الشخصيات وسلط الضوء على مساوئهم منذ البداية، باستثناء “صابر”، الذي ترك للجمهور حرية اكتشافه. هذه التقنية تجعل المشاهد شريكًا في الحكم على الشخصية، مما يعزز التفاعل مع العرض.
صابر هو تجسيد للإنسان العادي، الذي يسير في الحياة دون أن يدرك أنه جزء من لعبة أكبر. سذاجته جعلته ضحية للمدير الذي لفق له تهمة سرقة المخزن، في إشارة إلى فساد المنظومة واستغلال البسطاء. وحتى في حياته الشخصية، ظل عالقًا في دائرة العجز، غير قادر على الزواج، محاصرًا بمتطلبات مادية مرهقة، حتى استغلال زملائه له كان أمرًا اعتياديًا بالنسبة له، مما يعكس قناعته الضمنية بأنه مجرد ترس في آلة الحياة.
القصة تتمحور حول “صابر”، الشخصية التي تمثل الإنسان العادي في المجتمع. يعمل مدرسًا، يتقاضى راتبًا هزيلًا، مرتبط بخطيبته منذ سنوات دون أن يستطيع الزواج، يتعرض للظلم في عمله لكنه لا يعترض، وحين يتهمه المدير بسرقة لم يرتكبها، لا يدافع عن نفسه، بل يجد نفسه مضطرًا للاختيار بين دفع ثمن شيء لا يعرف عنه شيئًا أو مواجهة السجن.
بدلًا من اتخاذ موقف، يهرب صابر إلى الليل، حيث يقابل فتاة إغراء، يسقط معها في الخطيئة، ثم يجد نفسه في كباريه، يشرب حتى الثمالة، ليصل إلى لحظة التحوّل الصادمة فيتعب ويذهب الى الطبيب الذي يخبره أنه “حامل”. المفارقة هنا لا تقتصر على الكوميديا العبثية، بل تعكس بؤس الواقع، حيث يجد الإنسان نفسه فجأة يتحمل نتائج أفعاله، حتى وإن لم يكن مدركًا لها في حينها. هذه المفارقة أيضًا تسلط الضوء على ازدواجية المعايير الأخلاقية في المجتمع، فكيف يكون الإنجاب بالحلال مستحيلًا على صابر، بينما يجد نفسه فجأة مسؤولًا عن طفل غير شرعي؟
في لحظة الولادة، لا يكون الطفل كائنًا طبيعيًا، بل “مسخًا”، وكأن المسرحية تقول إن الأفعال الخاطئة لا تلد إلا نتائج مشوهة، وإن الحياة التي تُعاش بلا وعي لا يمكن أن تنتج إلا أشياء غير مكتملة. هنا يظهر “الضمير”، الشخصية الغامضة التي ترافق صابر طوال رحلته، رجل يرتدي الأبيض بالكامل، لكن يديه في البداية إحداهما مغطاة بقفاز أبيض والأخرى بقفاز أسود. هذا التناقض ليس مجرد تفصيل بصري، بل يعكس صراع الخير والشر داخل الإنسان، بين النقاء والتلوث، بين الإدراك والجهل. ومع تقدم الأحداث، يصبح القفازان أبيضين، وكأن العرض يوحي بأن صابر قد وصل إلى لحظة من الصفاء الذهني، أو ربما لحظة مواجهة ذاته الحقيقية، حتى وإن لم يستطع التغيير.
الضمير يقول لصابر جملة محورية: “أنت مجرد موجود، الحي الآن ميت بعد حين”. هذه العبارة تلخص فكرة العرض، حيث يتحول الوجود الإكلينيكي إلى موت بطيء حين يفقد الإنسان وعيه بحياته. الحياة ليست مجرد مرور الأيام، بل رحلة يجب أن يكون الإنسان جزءًا منها، وليس مجرد متفرج على أحداثها.
استخدم العرض تقنيات متعددة لإثراء التجربة البصرية، منها خيال الظل، الذي ظهر في مشاهد رمزية قوية، مثل مشهد الموظفين الواقفين على السلالم، ومشهد الشخص المصلوب الذي يُجلد من قِبَل اثنين آخرين، وهو مشهد يحمل دلالات دينية واجتماعية، حيث يُجلد الإنسان في حياته بسبب قيود المجتمع، أو ربما بسبب أخطائه التي لم يكن واعيًا لها.
التكوينات الحركية كانت محكمة ومتناسقة، حيث تحولت أجساد الممثلين إلى أدوات تعبيرية قوية، خاصة في المشاهد الاستعراضية، التي لم تكن مجرد فواصل غنائية، بل كانت جزءًا من السرد المسرحي، حيث عبرت عن الصراع الداخلي للشخصيات من خلال الحركة، بعيدًا عن الحوار المباشر.
لم يكن العرض مجرد نص يُلقى على خشبة المسرح، بل كان تجربة مسرحية متكاملة، حيث لعبت السينوغرافيا دورًا أساسيًا في نقل الأفكار والمعاني الخفية. استخدم المخرج تكوينًا بصريًا يعتمد على البراويز المتداخلة، والتي ترمز إلى القيود الاجتماعية والنفسية التي تحاصر الإنسان. ترتيب هذه البراويز، من إطار وحيد في الخلف إلى تراكم الإطارات فوق بعضها في الأمام، يعكس تصاعد الضغط النفسي والاجتماعي على الفرد، حتى يبدو وكأنه محاصر داخل متاهة لا مخرج منها
اختيار الألوان لم يكن عشوائيًا، فالأبيض والأسود والرمادي هيمنت على المشهد، مما عزز الإحساس بالرتابة والجمود، وكأن الشخصيات تعيش في عالم بلا روح، خالٍ من الفرح أو التجدد. حتى أزياء الشخصيات، خاصة الرجال، جاءت باللون الرمادي، في دلالة واضحة على أنهم جميعًا متشابهون، فاقدو الهوية، يذوبون داخل المجتمع دون تميّز أو اختلاف.
أداء الممثلين وتصاعد الإيقاع الدرامي
اعتمد العرض على طاقة الممثلين بشكل كبير، حيث قدموا أداءً صادقًا جعل الشخصيات تبدو وكأنها خرجت من الواقع إلى خشبة المسرح. رغم تفاوت مستويات الأداء بين الممثلين، إلا أن الانسجام بينهم كان واضحًا، ما يعكس قوة التحضير والبروفات. استطاع الممثلون تقديم شخصياتهم بصدق، حتى أن بعض المشاهد بدت وكأنها مرتجلة، مما عزز من الإحساس بالحياة داخل العرض.
الإيقاع الدرامي كان متصاعدًا، حيث بدأ العرض بنوع من السخرية السوداء، ثم تحولت الكوميديا إلى مأساة تدريجيًا، حتى وصلت إلى ذروتها في لحظة الولادة، ليعود العرض مرة أخرى إلى طبيعته الساخرة في النهاية، لكنه يترك الجمهور مع سؤال لا إجابة له: هل أنت حي حقًا، أم أنك مجرد “عايش.. إكلينيكيًا”؟
المسرحية تتشابه مع «رحلة حنظلة التي كتبها سعدالله ونوس» في استخدامها للرمزية والسخرية السوداء، وكذلك في فكرة أن الإنسان قد يكون حيًا ظاهريًا لكنه فاقد للقدرة على الفعل أو التغيير، مما يجعله مجرد ترس في آلة المجتمع، سواء كان ذلك في سياق سياسي كما في “رحلة حنظلة”، أو في سياق اجتماعي كما في “عايش.. إكلينيكيًا”.
لكن العرض حافظ على بصمته الخاصة، خصوصًا في طريقة تناول الفكرة ومعالجتها، العرض لم يكن مجرد نسخة من أعمال سابقة، بل كان له رؤية مستقلة تستحق التقدير.
نجح العرض في تقديم رؤية إخراجية متماسكة، حيث وظّف كل عناصر المسرح لخدمة الفكرة الأساسية. لم يكن مجرد قصة تُروى، بل تجربة مسرحية تدفع الجمهور إلى إعادة التفكير في حياته اليومية. استطاع “عايش.. إكلينيكيًا” أن يوازن بين المتعة البصرية والرسالة العميقة، ليترك المشاهد في حالة تساؤل تستمر حتى بعد مغادرته المسرح.
قد يكون الإنسان على قيد الحياة، لكنه قد يكون أيضًا مجرد “عايش”.. لكن هل هو حي؟ هذا السؤال يظل مفتوحًا، والإجابة ليست لدى العرض، بل لدى كل فرد يشاهده.