«بلاي».. بين الارتجال والمشاركة التفاعلية

«بلاي».. بين الارتجال والمشاركة التفاعلية

العدد 914 صدر بتاريخ 3مارس2025

«بلاي» هو عنوان المسرحية التي افتتحت عروضها أواخر ديسمبر الماضي، قدمتها فرقة «مسرح الغد» التي يشرف عليها مديرها الفنان سامح مجاهد، إنتاج البيت الفني للمسرح برئاسة الفنان هشام عطوة، وهي تجربة مسرحية محيرة في تناولها نقدياً، وان كانت تعتمد بشكل أساسي على تقنية المسرح داخل المسرح، أو التمثيل داخل التمثيل، وتُلَّمْس عبر ذلك على بعض عناوين لمشكلات اجتماعية يعاني منها المجتمع المصري، وقد ترددت كثيراً قبل الكتابة عن تلك المسرحية نظرًا لتباين ألأثر عن مشاهدتها بين السلبي والإيجابي، بما استدعى رجوعي للنص الأصلي للمؤلف لتبيان مساحة تصرف المخرج.
«play  - بلاي”؛
كتبها “د.سامح مهران” المخرج والكاتب والأكاديمي المعروف، دكتوراه في الدراما عن مفهوم الحرب في المسرح العربي، والرئيس الأسبق لكل من مسرح الغد، والمركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، وأكاديمية الفنون، ورئيس مهرجان المسرح التجريبي لعدة دورات، وكُرم من عدة مهرجانات محلية ودولية وحصد العديد من الجوائز، وكباحث له كثير من الكتابات النقدية والبحثية، وله ما يقترب من 40 نصاً مسرحياً تُرجم بعضها لعدة لغات أجنبية، وهو من كتَّاب قلائل ممن قُدم لهم عددا كبيرا من النصوص بفرق مسرح الدولة، وهو متنوع في كتاباته بين الرؤية الدرامية للروايات؛ “الطوق والأسورة، وأيام الإنسان السبعة” المأخوذتان عن روايتين للكاتب “يحيي الطاهر عبد الله” وأخرجهما له ناصر عبد المنعم لفرقة الطليعة، و”شقة عم نجيب” المستوحاة من عالم الكاتب الروائي “نجيب محفوظ” لمسرح الغد وأخرجها “جلال عثمان” الذي أخرج له عدد من المسرحيات منها “إن بوكس، حباك عوضين تامر” بالمسرح الحديث، وكتب معارضات لنصوص أجنبية منها “هاملت بالمقلوب” فرقة المسرح الحديث، “لير بروفة جنرال” مسرح الشباب، “دوديتلو” مركز الهناجر للفنون، عن أعمال شكسبير، ومسرحيات تأليف منها، “طفل الرمال، تحت الشمس” مسرح الطليعة، “المراكبي” المسرح الحديث، “خافية القمر، ياما في القتل مظاليم” مركز الهناجر للفنون، “مين يأكل أبوه، السرقة الكبرى” مسرح الغد، “عز الرجال” البالون، “المعجنة” المسرح القومي، “الاستجواب” مسرح الشباب والذي قدم له من تأليفه وإخراجه “بازل وان”.
“play  - بلاي”؛
أخرجها “د.محمد الشافعي” أستاذ علوم المسرح بجامعة 6 اكتوبر، دكتوراه الفلسفة في الآداب - قسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية 2013 بعنوان “تقنيات الإخراج في مسرح الميجاميوزيكال”، وحصل على منحة مركز الابداع الفني في الاخراج المسرحي، والتحق بورشة مركز الإبداع الفني، وهو صاحب مشروع نحو سيرك أكثر إنسانية، وشارك في لجان التحكيم لعدد من المهرجانات المسرحية، وعضوية لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، كما عمل منسقًا عامًا لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وشارك كمدرب - مع مجموعة من المدربين - بمشروع “ابدأ حلمك” في بني سويف، وقد تتلمذ في صباه على يد استاذه – والده - الفنان القدير “عبد الرحمن الشافعي”، وسبق له الإخراج لعدد من المسرحيات نذكر منها؛ “نقطة ومن أول السيرك” للبيت الفني للفنون الشعبية، “نص ساعة هاملت” لصندوق التنمية الثقافية، “مانيكان” لفرقة ثقافة بني سويف بالهيئة العامة لقصور الثقافة، كما أخرج للجامعة عدد من المسرحيات منها؛ (عطيل، ماكبث، الشيطان يعظ، عمارة المعلم كندوز، الحلاج، ارلكينو خادم سيدين، الدخان، النافذة، وغيرها)، وأخرج افتتاح مهرجان سيركايرو.
- نص المؤلف “Disco - ديسكو”؛
يتناول النص حكاية فرقة مسرحية تنبه أعضاءها لقرب انتهاء الموسم دون تقديمهم لعروض بسبب موت المؤلف وانشغال المخرج عنها، فيقرروا تأليف نص يعبر عنهم، ويتفقوا على قيامهم بتجسيد أدوارهم الحقيقة في الحياة، حيث أن منهم الجد، ومنهم الزوج والأب، ومنهم الزوجة والأم، ومنهم الابن، ومنهم الصديق، ومنهم الجارة”، وشكلوا أسرة مصرية، واختاروا من بينهم من يقوم بإخراجها، وبدأوا في عمل البروفات مباشرة، لتدور الأحداث حول زوج عائد من الخليج، وهو أب لشابين تخرجا من الجامعة وبدون عمل، أحدهما متفوق ويقوم بعمل دراسات عليا بعد تخرجه بما قد يتيح له فرص أوسع للعمل، والثاني - وفق وصف الأب - فاشل ويسعى للهجرة خارج البلاد، وترى الزوجة ضرورة عمل عضوية للأسرة بأحد الأندية لملئ فراغه حتى تتعدل أوضاعه، ولا يستجيب الزوج لأن تكلفة العضوية كبيرة، فتغضب الزوجة وتترك البيت، فيلجأ للتحايل لتلبية رغبتها، وذلك بزواجه من جارته الأرملة الشابة ليستفيد من عضويتها بأحد الأندية بما يمنح أفراد أسرته العضوية دون سداد قيمة الاشتراك، ويعرض الفكرة على الجارة كصفقة مقابل مائة ألف جنيه لها على أن يتم الطلاق بعدها مباشرة، ولكنه يموت قبل تطليقها، ومن ثَّم صارت شريكة في ميراثه، .. هذا؛ مع التطرق لحكاية فرعية لـ”أبو الزوجة” التاجر الذي يحن لذكريات الزمن القديم ويعيش مشتت النفس بين قيم الماضي الإنسانية والقيم المستحدثة المادية، وأيضاً شخصية “موظف أمن المسرح” الذي يرتد بالمتفرجين للواقع كلما استغرق الممثلين في الحكاية.
وهكذا؛ فإن الفكرة ليست بجديدة، كما أن الحكاية بسيطة، سهلة التناول، بل وتسير بأحداثها في خط مستقيم، كما أن بنية نص المؤلف تفرض شكل العرض، إلا أن النص به مساحات تحتمل الارتجال بما يتيح للمخرج الحرية لإضافة رؤى تثري نص العرض بما من شأنه إحداث تنوع على مستوى التلقي، ووفقاً للبروتكول - الغير معلن - المُبرم ضمنياً مع المتفرج، بالتزامه - كطرف أول - بمقعده لمشاهدة ما يقدمه المخرج -الطرف الثاني - داخل المساحة المحددة للتمثيل، فقد استغل د.محمد الشافعي هذا البند عند تصديه لإخراج نص “ديسكو”، وقرر أن يقدمه لعبة مسرحية، أو بروفة مكشوفة للجمهور ..، فكيف كان العرض؟
- نص العرض “بلاي “play - ؛
سينوجرافيا العرض حددتها طبيعة عمل الشخصيات - كممثلين بفرقة - وكذلك طبيعة قاعة مسرح الغد التي استُغل فراغها كمكان مكشوف وباتساع القاعة بما يتيح التحرك ببراح لأعضاء الفرقة في عمل البروفات، مع الاعتماد فيه على مفردات اكسسوار ديكور (منضدتان يتم توظيفهما بصور متعددة، ونوعان من الكراسي إحداها خشبية كالخيرزان والثانية مصممة كالبازل، وبعض متيفات) بدت منثورة بالمكان ليتشكل منها المناظر الأربعة لمشاهد المسرحية التسعة التي تتنقل بين قاعة البروفات وبين (حجرة المعيشة ببيت “عبد التواب”، وصالة الديسكو، ومحل الجد “بحر”)، وذلك مع بعض اكسسوار للشخصيات علقت على جانبي مكان العرض، مع وجود شاشة بيضاء مرتفعة في صدر المكان مؤطرة بقطع دومينو مرسومة بقلم بشكل بدائي كإطار يحدد الشاشة، ولأنها بروفة مكشوفة فقد حرص على التفاف الجمهور بمقاعدهم حول الممثلين وكأنهم مشاركون لهم في بروفة التربيزة، ومن ثَّم ملتحمين بالشخصيات عند اندماجها في المشاهد، أما الملابس فقد جاءت تقليدية معاصرة باعتبار أن الممثلين يؤدون أدوارهم في الواقع، هذا؛ وقد تنوع توظيف الإضاءة بين إضاءة للمشاهد وإنارة للفواصل، وعلى مستوى النص فإن المخرج لم يحافظ عل روح النص الأصلي فقط، بل أنه التزم به تمامًا، ولم يُحدِث أي تعديلًا عليه باستثناء بعض جمل ارتجالية بسيطة ربما من وحي الأحداث المتزامنة للعروض وفق المستجدات اليومية جاءت على لسان الممثلين في الفواصل بين المشاهد، إذ يحتمل النص ذلك.
وبين “ديسكو” و”بلاي” تكمن الرؤية بين نص “مهران” المكتوب ونص “الشافعي” المرئي، فـ (ديسكو Disco) كلمة إنجليزية تعني نوع من موسيقى الرقص صاحبها ثقافة ظهرت أوائل السبعينيات بمشهد الحياة الليلية الحضرية في الولايات المتحدة، وخلال سنوات قليلة كان لدى معظم المدن الأمريكية الكبرى نشاط مزدهر لنوادي الديسكو يتمحور حول صالات للرقص ونوادي ليلية وحفلات للأثرياء، وقد تبع ذلك غزو موسيقى الديسكو للعالم - منه منطقتنا الشرقية - ومعها ثقافة الرقص التي تتفجر مع موسيقى الديسكو ذات الإيقاعات السريعة والصوتيات ذات الطبقات العالية والترددات التي تتضاعف أصواتها عن طريق السماعات، بما يوَّلد حالة هيجان وتوتر لدى المتواجدين بتلك النوادي - خاصة الأشخاص الذين يعانون مشكلات اجتماعية أو نفسية أو عاطفية - بما يدفعهم إلى الانخراط بالرقص الذي غالبا ما يكون لديهم استعداد له، للتخلص من الطاقة السلبية، وبوصفه علاجاً للاكتئاب، وهو ما عمل عليه المؤلف بشكل أساسي وطفى به على الصفحة الأولى للنص، وذلك بالوصول للحالة التي تجذب الجمهور للمشاركة بالرقص والغناء، نتيجة معايشتهم نفس ظروف ومعاناة فريق التشخيص بما يدفعهم للانخراط في الرقص والغناء معه.
 وقد لمح المخرج خطًا أخرًا - من افتتاحية النص - ليتخذه عنواناً يركز عليه، ألا وهو تجمع أعضاء الفرقة لعمل بروفة، فالتقط اسم “بلايplay - “ عنواناً للعرض، وهي كلمة انجليزية تعني وفق السياق المقصود “لعب”، بهدف إعلان الجمهور من قبل دخولهم مكان العرض بأنه - والفرقة - سيقومون بلعبة مسرح، وهو اختيار صائب أراه أكثر واقعية من حيث تقبل الجمهور له باعتبار أن “الديسكو” ثقافة غربية قد لا تروق للجمهور المطحون، وقد ركز على ذلك مع احتفاظه في ذات الوقت بمشهدي صالة الديسكو وان أغلق حالة الرقص على عدد محدود من الممثلين.
وقد نجح “الشافعي” في جذب الجمهور والتنقل به بين اللعبة والانصهار فيها بمزجها بالوقع، فأعضاء الفرقة يجسدون الواقع حتى الانصهار في لعبتهم فتصير حقيقة، نفس الأمر بالنسبة للجمهور الذي يتابع اللعبة وإذ به يصل لدرجة الاندماج مع الممثلين لولا موظف أمن المسرح الذي يتدخل فجأة - بين الحين والأخر - لينهي الاندماج ويرد أفراد الجمهور لدورهم كمتفرجين، لقد أحدث العرض حالة من التداخل بين الأزمنة والأماكن بل والامتزاج بين الشخصيات، مع التنوع في الأداء التمثيلي بين الكلاسيكي بالمشاهد التمثيلية، وبين التمثيل المنهجي الساخر في الفواصل، مع الحرص على وجود الحس الكوميدي الذي يزيد من تفاعل المتفرجين.
لن نخوض في تفصيلات النص، ونقصر تعليقنا فيما يلي على العرض، فهو - ومن خلال إسقاطات الجمل الارتجالية - يرصد أوضاع الفترة الراهنة لمجتمعنا، والتي تشهد تداعيات الانفتاح (الاقتصادي والثقافي)، فسلط الضوء على بعض مشكلاته من (بطالة الشباب، والهجرة غير الشرعية، وأثار سفر الزوج للعمل بالخارج، زواج المصلحة، أثار الانفتاح الثقافي على سلوكيات أفراد المجتمع)، وقد تم استعراض كل تلك المشكلات كعناوين عامة فقط، ربما كان الموضوع الأساسي منها (تداعيات الانفتاح الثقافي والاقتصادي على الأسرة المصرية) وانعكاس ذلك على سلوك أفراد الأسرة والجارة الأرملة اللعوب، وصديق السوء، بينما تتمركز مقولة العرض في رسالة تحذير مفادها (إلى أين تذهب تداعيات الانفتاح بالمجتمع ؟!) وان طغت عليه المقولة الساذجة للحكاية (لو أن الزوج نفذ رغبة الزوجة من البداية كان أفضل من اللجوء للتحايل) لأن التحايل خسَّره أكثر وتسبب في موته..!
ورغم توافر إمكانية تفاعل الجمهور والمشاركة الفعلية في المسرحية إلا أن العرض اكتفى بمخاطبته أو سماع بعض كلمة كتعليق، وكان للمخرج أن يستثمر ذلك حتى وان اضطر للدفع ببعض ممثلين بين الجمهور بما يحقق المشاركة التفاعلية الفعلية، خاصة وأنه استغنى عن فعل المشاركة داخل المرقص، أيضا لا أجد مبررا دراميا لعدم ظهور الابن الثاني “المثالي” - رغم أن الأسرة مكونة من زوج وزوجة وولدان فقط – وذلك بالاكتفاء بالحديث عنه وعن تميزه دون وجوده، رغم أن ظهوره ربما كان ليثري أحداث العرض.
أيضاً مشهد الشاشة وظهور عروسة البحر كتصوير سينمائي لم يكن مقنعاً وكان مشوشا، إضافة إلى أن الشاشة لم تكن من نسيج العمل، وكان له أن يجسد المشهد باستحضارها أو على أقل تقدير بسماع صوتها مع تهيئنا لتخيلها، خاصة وأن عدد فريق التمثيل سبعة فقط، أيضًا أشير إلى أنه رغم جودة الإكسسوار وبعض الأفكار الجيدة مثل توظيف الدومينو كإطار للشاشة وكذلك بعض القطع بشكل البازل بما يتوافق مع أجواء اللعب، إلا أنه في مشهد “السفرة” لم يكن بنفس الاهتمام وذلك للاستعانة بقطع أكل جاهزة من البلاستيك بدت منفرة لا تتماشى مع المشهد.!
أصاب المخرج في توزيع الأدوار على الممثلين في حدود المتاح من أعضاء الفرقة، فتفوقت الفنانة “عبير الطوخي” في دور (الزوجة/ الأم/ فتاة الديسكو مرمر أبيض) كذلك الفنان القدير “جلال عثمان” في دور (عبد التواب)الزوج العائد، حيث أستوعب الشخصية فطابقها وقدمها بسلاسة وبأقل جهد، ونجح “أحمد نبيل” في تقديم شخصية (منسي) الابن الساخط على الأوضاع الراغب في الهجرة، كذلك أجاد “نائل علي” في دور (الجد/ والد الزوجة) الهائم في الماضي، وكذا الجميلة “إيمان مسامح” في دور (هدى) الجارة، ومعها “وليد الزرقاني” في دور (مشعل) صديق السوء، وقد وفق المخرج باختياره للفنان “علي كمالو” في دور (حارس أمن المسرح) حيث أضفى بأدائه على العرض حيوة، وكان بخفة ظله مصدرًا للكوميديا، إذ قام بتوظيفه في الفواصل لكسر الإيهام بإنهاء المشاهد والربط بينها وبين المشاهد التالية لها مع إتاحة مساحة له من الارتجال بما أظهر إمكانياته في ذلك، وكان بمثابة الترمومتر للإيقاع العام للعرض، أما باقي عناصر العرض فقد جاءت متوافقة وطبيعته، فأجادت “دينا زهير” في تصميم الديكور، بينما الملابس جاءت طبيعية إذ لم تكن بحاجة لتصميم كونها واقعية لشخصيات تؤدي أدوارها في الواقع المعاش، ووفق “عز حلمي” في الإضاءة، ولم تكن هناك مساحة للاستعراض بما لم يتح فرصة إبداع التصميم لـ”نور يسري”.


ناصر العزبي