نجيب محفوظ ومسرحيته المرفوضة!!

نجيب محفوظ ومسرحيته المرفوضة!!

العدد 914 صدر بتاريخ 3مارس2025

أقامت شعبة السيناريو باتحاد الكُتّاب مؤتمرها السنوي الخامس يوم الثلاثاء 24/12/2024 وكان ضيف شرف المؤتمر الفنان القدير «محمود الحديني»، الذي طرح في كلمته إشكالية إبداعية غريبة، قائلاً: هل السيناريو وحده يشكل عملاً فنياً؟ وكذلك الحوار هل يشكل عملاً فنياً وحده؟ وقبل أن يجيب أحد قال الحديني موضحاً سؤاله: مجموعة قصصية للكاتب الكبير «نجيب محفوظ» اسمها «حكاية بلا بداية ولا نهاية»، أخذت منها قصة تحكي عن شاب صوفي ورث الصوفية من أهله، قام باغتصاب فتاة. وفي ذلك الوقت بدأ التطرف يظهر في مصر، فأعجبت بالنص وكنت مديراً للمسرح الحديث وقتذاك، ففكرت في عرض هذا النص على المسرح وأعطي الفرصة لمخرج شاب عندي في المسرح كي يخرجه. وعندما قرأت القصة وجدت أن نجيب محفوظ اهتم بالحوار أكثر من اهتمامه بالسيناريو، وعندما حذفت الحواشي واستخرجت فقط الحوار أصبحت المسرحية متكاملة، ولا حاجة لها لدراماتورج لإعدادها.
فقمت بالاتصال بنجيب محفوظ وطلبت منه الموافقة على عرضها بعد أن أخبرته بأن المسرحية هي الحوار فقط الموجود في القصة، فوافق نجيب على ذلك. وبعد أسبوع من الاستعداد للبروفات والعمل على النص، قام بعض المتطرفين بأعمال تخريبية هنا وهناك، فاتصل بي الأستاذ نجيب محفوظ وقال لي: «أنا شايف أن الوقت غير مناسب لعرض المسرحية، فهل ممكن تأجيلها؟» .. ففهمت غرضه وقلت له سيتم تأجيلها حتى تهدأ الأوضاع وسأتصل بك مرة أخرى، فقال نجيب: “أنا الذي سأتصل بك حتى تعرض المسرحية»!! وحتى الآن لم يتصل بي نجيب محفوظ! وأعود إلى سؤالي بمناسبة هذا الموضوع: هل الحوار بدون سيناريو يكفي، وهل السيناريو بدون الحوار يكفي؟!
هذا ما قاله الفنان «محمود الحديني»! ولكنه لم يذكر اسم المخرج الشاب، ولم يذكر أي شيء عن مصير النص المُعد، لأنه كان مهتماً بسؤاله في أيهما أهم: السيناريو أم الحوار، وتداخل الباحثون المشاركون في المؤتمر وكل باحث أدلى بدلوه .. وانتهى الأمر!! وبعد انتهاء المؤتمر بحثت في ملفاتي لأجد نص مسرحية «حكاية بلا بداية ولا نهاية» موجوداً ضمن نصوص الرقابة تحت رقم «217»، وهو مكتوب بخط اليد في «44» صفحة، وتم تقديمه من قبل المسرح الحديث عام 1985، من تأليف نجيب محفوظ وإخراج «عادل زكي». ومرفق بالنص مجموعة من التقارير الرقابية والوثائق، ووجدت الرقيبة «سلمى عبد القادر فخري» تذكر ملخصاً للمسرحية في تقريرها، قائلة:
الشيخ محمود الأكرم شيخ طريقة، له مريدين، يعيش في بيت كبير غارق في الرفاهية من أموال المريدين يدعي الزهد ويمارس السلطة على الحارة، فالدين وسيلة لا غاية. تقوم مجموعة من شباب الحارة يقودها «علي عويس» بالبحث في مخطوطات قديمة بدار الكتب، كتبها أصدق المؤيدين القدامى عن البيت الكبير الأكرم صاحب الطريقة الأولى، سليل الأسرة الأكرمية، وقاموا بنشرها ووزعوها على أهل الحارة. ومنها يتضح أن بيت الأكرم ما هو إلا مقام أنشأه الأكرم وقد جاء إلى مصر عقب ارتكابه جريمة شنعاء. وقد اشتهر في الخارج بالمجرم. كذلك عشقت عمته في شبابها ضابطاً إنجليزياً وهربت معه أما أخته رشيدة المتزوجة من رجل كبير المقام في الصعيد كانت على علاقة آثمة مع خادم. طلب الشيخ محمود الأكرم بالشيخ تغلب الصناديقي فهو إمام من أئمة الطريقة ولم يتردد في الدفاع عنها بعلمه الغزيز، ولكنه رفض فهو يؤمن أن الشباب بالعلم والاجتهاد يكونوا أفضل للناس وإن الطريقة اندثرت فلم يبق منها إلا الأغاني والأفكار والنذور. عاش الشيخ محمود الأكرم عيشة الاستهتار واللذة وأنجب من زينب ولده «علي عويس». يتفق الشيخ محمود الأكرم وابنه علي، على رد الأموال إلى أصحابها تنفق في سبيلهم كذلك ترفع عن كواهلهم الوصاية والسيطرة ليبدأوا حياة نقية بالمعنى الحقيقي معترفاً ببنوة علي.
 النتيجة الطبيعية – بناء على رفض الرقباء الثلاثة – هو عدم التصريح بعرض النص، لأن النظام المعمول به في الرقابة، هو تحديد ثلاثة رقباء لقراءة النص وكتابة تقارير بالموافقة أو الرفض أو التعديل، بناء على رأي مدير المسرحيات في تقريره المبني غالباً على آراء الرقباء الثلاثة. وغالباً يكون الرفض مبنياً على الرفض الجماعي للرقباء الثلاثة، وهو الأمر الذي يجب تطبيقه على هذا النص .. ولكن، اسم المؤلف «نجيب محفوظ» له مكانته وقيمته، وستكون فضيحة كبرى لو تم رفض لمسرحية ألفها نجيب محفوظ، ويرغب مسرح من مسارح الدولة في عرضها!! لذلك أحالت الرقابة النص إلى «المستشار الديني» ليبت في الأمر، ربما يجد مخرجاً لإجازة النص ورفع الحرج عن الرقابة، حتى لا يُقال بأنها رفضت نصاً ألفه نجيب محفوظ، ويرغب مسرح الدولة في عرضه!!
كتب «المستشار الديني» تقريراً، يجب أن ننقله بنصه وبملخص المسرحية فيه، حتى نتأكد أنه فهم النص فهماً يتفق مع نتيجة تقريره!! قال المستشار: “الموضوع: تتعالى الهتافات، وتتصاعد الأناشيد والأذكار حول ضريح الشيخ الأكرم شيخ الطريقة الأكرمية، ويتابع ذلك ابنه وخليفته الشيخ محمود الأكرم باهتمام بالغ ملؤه العجب والخيلاء. لكن يعارض هذا مجموعة من الشباب الجامعي من هذا الحي فيتصدون لهم ويسخرون منهم ويستهزئون بهم، مما لفت إليهم نظر «الشيخ محمود»، فأصر ذلك في نفسه وأوعز إلى السلطات بالقبض على زعيمهم ورئيسهم «علي عويس» لكن ذلك لم يثنهم عن عزمهم، ولم يعقهم عن إصلاح ما أفسده الشيخ محمود والعمل على نقيض ما هو قائم في حارتهم التي بها هذا الضريح كالتناقض بين شعار الزهد والورع الذي يظهره الشيخ محمود وبين جمعه للنذور وبناء العمارات بها. ويُفرج عن علي عويس ويقوم وزملاؤه بتوزيع المنشورات ضده مبينين فيها حقيقة هذه الطريقة وسلوك شيخها الأكرم وسلوك أسرته وأنه جاء هارباً من إحدى البلاد بعد ارتكابه لجريمة شنعاء. وأن أخته عشقت أحد الجنود الإنجليز وارتدت عن دينها وهربت معه إلى إنجلترا وأن ابنته المتزوجة بالصعيد قد ارتكبت الفاحشة مع خادمها إلى غير ذلك من التشهير به وبطريقته وبأسرته، وتوزيع هذه المنشورات. وتقم الحارة كلها فيهتز فيها كيان الشيخ محمود ويفكر فيما عساه أن يفعله، فيأخذ رأي الشيخ عمار حيالها، الذي يخفف عليه آلامه، ويسري عنه من ورطته، وأنها سحابة صيف عن قريب تنقشع، لكن ذلك كان شغل الشيخ محمود الشاغل فأخذ يهدد هؤلاء الشباب المعارض من سوء عاقبة ما يقومون به، وما يقدمون عليه وأن في استطاعته إيقاف الأرض عن الدوران وتحطيم الجماجم المعارضة له بآلاته الحادة وبسواعد مريديه القوية العاتية. فيستدعى الشيخ الصناديقي ذلك المريد القديم الذي انقطع عن الطريقة وهو صاحب القلم ومؤلف الأناشيد والأذكار للطريقة الأكرمية للرد على هؤلاء الشباب المعارض، لكنه لم يجد منه الأذن الصاغية والقلب المتفتح بعد أن صرح له بأنه لم ينقطع عن الطريقة إلا بعد أن آلت إليه وبعد أن لم يبق معهم الطريقة إلا اسمها وجمع النذور وبناء العمارات فيها وأنه يورثهم فيما يرثونه وما يقومون به وأنه لم استقام ومشى على الطريقة لما وصل إلى ما وصل إليه من سوء الحال. وأن ما نشروه قد أخذوه من مصادر موثقة بدار الكتب مستقاة من مريدين قدامى للطريقة الأكرمية. فيزداد بذلك قلق الشيخ محمود وتوتره. وبيقرر أنه سيخوض المعركة لينقض على هؤلاء المارقين الخارجين، المجرمين المعارضين. الحاقدين عليه لما هو فيه من مال وجاه. والذين يريدون قلع هذه الطريقة من جذورها، والتخلص منها. ويأتي «علي عويس» للشيخ محمود بمنزله شاكياً له مريديه وأتباعه الذين ضيقوا عليه وعلى زملائه الحصار وأنهم يطاردونهم وملاحقونهم في كل مكان. فيتحدثان ويتصارعان ويكاد أن يقضي عليه لولا أن أدركه خدمه وحراسه. وتأتيه «زينب» أخت «علي عويس» لتسأل عن أخيها عنده بعد أن سمعت ما يدبره له، وتكلمه بلطف ولين في أن يكف حراسه عنه لكنها لم تجد منه سوى التوعد والوعيد مما اضطرها إلى تحول ما لا يحب أن يكون منها، وأنه ابنه غير الشرعي حملت به أمه منه سفاحاً، وأنه والده. وهنا أدرك الشيخ محمود أنه أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الهرب إلى إحدى البلاد الأجنبية ليباشر فيها نشاطه الفاسد بقية عمره وإما أن يعترف لعلي عويس بالحقيقة والاعتذار له. وقد استعمل الحكمة في ذلك، فاعترف لعلي عويس بالحقيقة المُرّة وأنه ابنه غير الشرعي وأنه والده وسيكون الخليفة له من يعده. وأنه في انتظار رده عليه. ويطرق «علي عويس» ملياً ويفكر في هذه الحقيقة التي لم يستطع هضمها. ثم يصدر رأيه ويفلح الشيخ محمود في ضمه إليه وجذبه نحوه ليكون عوناً له على الأيام وعلى المعارضين له في مواجهة حياة جديدة تكفل للطريقة بقاءها واستمراره”.
ويختتم «المستشار الديني» تقريره برأي قال فيه: “الرأي: أرى رفض هذه المسرحية، لما فيها من التشهير برجال الطرق الدينية بعد أن وصف المؤلف فيها: «الأكرم» شيخ الطريقة بأنه جاء هارباً من إحدى البلاد بعد ارتكابه لجريمة شنعاء. وأن «أخته» قد ارتدت عن دينها، وعشقت أحد جنود الإنجليز وهربت معه إلى إنجلترا. وأن «ابنته» المتزوجة بالصعيد ارتكبت الفاحشة مع خادمها. وأن ابنه «الشيخ محمود» والخليفة من بعده كان منحل الأخلاق كذلك وجاء بابن غير شرعي، ولم يكن له من هم سوى جمع النذور وبناء العمارات منها. لهذه الأسباب مجتمعة أرى رفضها”.
وقعت الرقابة في «حيص بيص»!! فها هو المستشار الديني يرفض النص، ليصبح الرفض أمراً لا مناص منه، بعد أن رفض النص الرقباء الثلاثة المعتمدين وأيضاً رأي المستشار الديني!! ولكن تظل الإشكالية كما هي .. النص مؤلفه «نجيب محفوظ» ومسرح الدولة يريد عرضه!! مما يعني أن الرقابة يجب أن تتصرف وتوافق على النص بأية وسيلة ممكنة، حتى ولو بالتحايل على القوانين والأعراف الرقابية!! ماذا فعلت الرقابة؟! جاءت برقيب رابع وطلبت منه أن يكتب تقريراً يوافق فيه على النص بدون أية ملاحظات!! سيسألني القارئ الآن ويقول: كيف هذا هل كنت معهم وسمعت منهم هذا الكلام؟! سأجيب قائلاً: لم أكن معهم حيث إنني في هذه الفترة كنت طالباً في الجامعة!! ولكني كنت معهم بخبرتي المكتسبة من قراءة التقارير الرقابية، وكفى أن تقتنع برأيي هذا عندما تقرأ تقرير الرقيب الرابع «فتحي عمران»، الذي تجنب – في ملخصه للمسرحية – أغلب الأحداث والملاحظات التي اعتمد عليها بقية الرقباء ورفضوا النص بسببها!! أما الرقيب الرابع فكان ذكياً وتجنب هذه الأحداث، حتى تكون موافقته مقنعة نوعاً ما، ونص تقريره سيكون منشوراً في الحلقة القادمة!!


سيد علي إسماعيل