سجن النسا بورتريهات بلا رتوش سياسية!

سجن النسا  بورتريهات بلا رتوش سياسية!

العدد 923 صدر بتاريخ 28أبريل2025

من إنتاج فرقة المسرح الحديث تحت إدارة الفنان محسن منصور التابعة للبيت الفنى للمسرح - قطاع الإنتاج الثقافى - وزارة الثقافة شاهدنا على مسرح السلام العرض المسرحى “سجن النسا” رؤية وإخراج المخرج الواعد يوسف مراد منير.
يوسف مراد منير هو إبن الفنان المخرج العظيم مراد منير صاحب البصمة الفنية الغائرة الذى أمتعنا بالعديد من العروض المسرحية التى تعد علامات فى تاريخ المسرح المصرى منها منين أجيب ناس، ملك الشحاتين، الملك هو الملك، اتنين فى قفة ، لولى، فيوسف تربى منذ نعومة أظافره فى كواليس وعوالم هذا الأستاذ الكبير مراد منير ويبدو أن هذه التلمذة الفنية قد اندمجت مع الجينات الوراثية ومع دراسته بالمعهد العالى للفنون المسرحية فخلق هذا المريج الفنى تراكما فنيا كبيرا رغم حداثة سنه، وهو ما إنعكس بوضوح جَلِى على عرض “سجن النسا” فى معظم عناصر رؤيته الإخراجية، وبحكم هذه الخبرات الفنية الكثيفة المتراكمة فى مجال الإخراج تحديداً انحاز يوسف ناحية التركيز على عناصر الإخراج المسرحى للعرض فتقدمت أدوات المخرج لتحتل صدارة العملية الإبداعية لتوجه وتقود النص المسرحى فكان إعداده “رؤيته الدرامية” للنص المسرحى الذى كتبته الكاتبة الكبيرة فتحية العسال منقاداً لمتطلبات الحالة المشهدية المسرحية إخراجياً، فأجرى بعض التعديلات على النص الاصلى.
ولذا سنبدأ من رؤية المُعِد يوسف مراد منير للنص المسرحى ونبدأ بطرح تساؤل بسيط ومنطقى “هل التعديلات التى تمت على النص الأصلى أضافت فنيا وموضوعيا للعرض المسرحى أم خصمت منه ؟ وهل كانت هذه التعديلات اختيارية لأهداف فنية أم أنها كانت إجبارية لأسباب رقابية ؟”.
النص المسرحى “سجن النسا” لفتحية العسال يناقش منظومة السلطة ومستويات تراتبها على المجتمع المصرى وعلى قمتها السلطة السياسية وانعكاساتها وممارساتها الاجتماعية والثقافية المتوغلة والمتغولة على فكر وسلوك الفرد والكيانات الاجتماعية، من خلال شخصية “سلوى” الصحفية والمنتمية لتيار سياسى مناهض ومعارض فكريا للسلطة الحاكمة سياسيا ومن خلال شخصية زوجها “كمال” المنتمى لتنظيمات سرية على نفس خط المعارضة السياسية، وارتباطهما بالسلوك الثورى فى مظاهرات الشارع بسبب غلو الأسعار، وكذلك شخصية “منى” الثورية المقبوض عليها فى المظاهرات، وهنا يبدأ نص فتحية العسال فى عملية تفكيك لمفهوم السلطة من أعلى نقطة فى هرم السلطة وهى السلطة الحاكمة سياسيا ثم يبدأ فى تفكيكها إلى سلطة المؤسسات سواء الشرطة وأمن الدولة (سليم) رجل أمن الدولة الذى تحول إلى رجل أعمال يتاجر فى الهروين والسلاح وارتباط هذه السلطة بفساد المال ثم سلطة مؤسسة السجن متثملة فى المأمور والسجانة ثم سلطة الزوج (زوج انصاف – زوج خوخة – زوج عدلات – زوج ليلى) ثم سلطة الأب والأم (سعدية)، ويفكك نص فتحية العسال المجتمع طبقيا بين طبقة تملك مصادر القوة والسيطرة والنفوذ (شرعية الحكم – المال - السلاح) وطبقة غارقة فى الجهل والفقرلاتملك شيئاً من مقومات السلطة او النفوذ، فى حين إتجهت الرؤية الدرامية لمخرج العرض إلى تفريغ نص فتحية العسال من البعد السياسى فجعلت سلوى مجرد بلوجر على منصات الإنترنت ويقبض عليها مع ليلى لدخولهما على تطبيق إليكترونى مخل بالآداب فيتم حبسهما على ذمة قضية آداب وليس إعتقالاً سياسياً، وهو من وجهة نظرى تفريغ أخل بفلسفة النص ومحتواه الفكرى حيث تجاهل السلطة السياسية وحَيَّدها وبرّءَها من فعل القمع الذى تواجهه الطبقات الاضعف إجتماعياً خصوصا المرأة، وقَصَر أليات الصراع والقمع الإجتماعى فى نطاق طبقات الشعب تمارسه ذاتياً فيما بينها تتغول على بعضها البعض وكأن السلطة السياسية الحاكمة ليست طرفا فى هذا الصراع والقمع وبريئة منه تماماً! فنص فتحية العسال لم يكن مقتصراً على طرح قضية القهر والعنف الاجتماعى والموروث الثقافى الذكورى فقط ضد المرأة بقدر ماكان يطرح قضية القهر والعنف السياسى فى المقام الأول وانعكاساته الاجتماعية والثقافية ضد الطبقات الأضعف بالمجتمع المصرى ومنها المرأة كحلقة ضعيفة فيه، وهو ما جاء نصاً على لسان “منى” مع “سلوى”، فإن كان هذا التفريغ للبعد السياسى فى النص الأصلى مقصودا بهدف المعاصرة والمواكبة لقضايا العصر ومنها ظاهرة انتشار الانترنت والبلوجر فأرى شخصيا أن هذه المعاصرة سلبت من الدراما أكثر مما أضافت لها وتفريغ النص من البعد السياسى قد أضعف الصراع الدرامى بهدم أحد أهم أعمدته وأقطابه وسَطَّح عمقه الفكرى، أما إن كان هذا التفريغ جاء لأسباب رقابية فكان من الأجدى الاتجاه لنص آخر لا يرتكز على الطرح السياسى بشكل أساسى.
وبناء على تفريغ النص من البعد السياسى تاهت خصوصية ودلالة شخصية السجانة التى تمثل إحدى درجات سلم السلطة ومن المفترض ومن المنطقى أنها تمارس فعل التقييد والحصار والمنع على المسجونات رغم كونها إمرأة مثلهن فهى فى النص الأصلى واقعة بين موضعى القاهر بحكم الوظيفة والمقهور بحكم الطبقة والنوع الجندرى لكن إكتفى العرض بجانب واحد فقط بالتعامل معها على أنها نموذج آخر للمرأة بل إنه جعلها صوت المسجونات فجعل الممثلة التى تؤدى شخصية السجانة هى نفسها التى تغنى أغانى تعبر عن وجدان المسجونات فى تضارب دلالى عكسى، فهى الشخصية النسائية الوحيدة التى لا ينبغى دلاليا إن تكون صوت المسجونات دراميا، رغم تميز صوت الممثلة غنائيا وإمكانياته المعبرة عن الحالة وإمتلاكه ملمحاً شعبياً مصرياً أصيلا.
نص “سجن النسا” من النصوص التى تعتمد على طبيعة المكان “السجن” فهو نقطة تلاقى وتجمع عدة شخصيات مختلفة “نساء” وهذا النوع من البناءات الدرامية يعتمد على الغوص فى أزمة كل شخصية تباعاً بشكل متتالٍ وهو مايجعل خط التطور الدرامى زجزاجيا فيصعد مع ازمة كل شخصية ويهبط بعدها فيما يشبه الموجات المتتالية، فتعتمد عملية الدفع الدرامى على هذه الحبكات الخاصة المتتالية والمنفصلة على حساب التصاعد الدرامى المستمر فيما بينها فلا توجد حبكة ممتدة لها تصاعد قوى وإنما حبكات متتالية ويكون الرابط بينها ليس الحدث الواحد بقدر ما يكون الرابط هو الموضوع والمعنى المتراكم بين الحبكات المنفصلة المتصلة موضوعيا فقط، وهذا النوع من الدراما يشكل خطرا على إيقاع العرض حيث يفقد المتلقى استمرارية واسترسال اندماجه المتصل مع حدث او شخصية لهما منحنى درامى مستمر فى التصاعد.
هذا بالإضافة إلى أن الغوص فى أزمة كل شخصية غالبا ما يكون باستخدام الحَكى (كل شخصية تحكى عن ماضيها) وليس التجسيد الحى للحدث وهو ما يضعف الحالة المسرحية، لذا لجأ المخرج لاستخدام عناصر إخراجية (بصرية وصوتية) مساعدة لتنشيط إيقاع الحالة المسرحية، منها استخدام المنهج التعبيرى فى أداء الممثلة التى تقوم بحكى الموقف، واستخدام موسيقى تعبيرية مصاحبة لتعميق وشحذ الحالة النفسية للشخصية وللمشهد، واستخدام حالات إضاءة خاصة دالة نفسيا ورمزيا مثل استخدام رمزية الساعة بالإضاءة فى الخلفية للتنويه على نقلة “فلاش باك” ، وأحيانا فتح فجوة فى جدران السجن لنقل الحالة المسرحية من المستوى الواقعى إلى المستوى التعبيرى وكسر رتابة ثبات ديكور عنبر السجن، وقد نجحت هذه العناصر الإخراجية بالفعل فى تنشيط إيقاع الحالة المسرحية إلى حَدّ ما وخَلقت تبايناً وتنوعاً بين مَشاهد العرض المسرحى كبديل للتصاعد الدرامى المتصل، وإن كنت أرى أن التجسيد الحى أقوى دراميا من حالة الحكى حيث ينقل التجسيد المتلقى للزمن الحاضر ومشاهدته يحدث الآن بدلا من الحكى عن الزمن الماضى وذلك وفقا للقاعدة الدرامية الذهبية (أرِنى ولاتَحْكِ لى ـSHOW ME DON’T TELL ME)ـ وسأسمح لنفسى بالمقارنة بين مشاهد الحكى فى عرض سجن النسا وبين مشهد من عرض “منين أجيب ناس” للمبدع مراد منير وهو مشهد فتح كوبرى عباس على الطلبة حيث جسد مراد منير المشهد بأسلوب تعبيرى للكوبرى فنرى فتح الكوبرى “يتجسد” على المسرح فى نقلة من الحالة الملحمية إلى الحالة التعبيرية البالغة الدلالة والقوية التأثير الوجدانى على المتلقى فصعد إيقاع المشهد إلى ذروته، ونفس الاسلوب تكرر فى مشهد الحرب (العلمين) ومشاهد أخرى لذا كان الإيقاع مشدودا لذروته وجدانيا وذهنيا فى معظم مشاهد “منين أجيب ناس” رغم أن المنهج الملحمى قائم فى الأساس على الحكى من خلال الراوى والجوقة لكن التجسيد الحى للمَشاهد والإنتقال من المنهج الملحمى إلى المنهج التعبيرى كسر رتابة وضعف الحكى عن الماضى وأستحضره مسرحيا لنراه يحدث الآن ونعيشه ولانكتفى بمجرد الحكى عنه، خصوصا وإن كانت حالات الحكى متكررة وممتدة طوال العرض مثلما كانت فى نَص “سجن النسا” ونَص “منين أجيب ناس”.
إرتكز العرض المسرحى على طاقات تمثيلية عالية المستوى أبدعن جميعهن فى تنويع طرق الأداء بين الواقعية والتعبيرية وبين التراجيدية والكوميدية فتصدر عنصر الأداء التمثيلى صدارة العرض المسرحى بما لديهن من موهبة وخبرات مسرحية كبيرة إستطعن من خلالها خلق خصوصية أدائية لكل شخصية درامية فإنعكس ذلك على شحذ إيقاع العرض، ويحسب للمخرج الواعد قدرته وحساسيته الفنية فى إدارة هذا العدد من الممثلات ذوات الخبرات المسرحية الطويلة رغم حداثة سنه بالنسبة لهن وقدرته على التنويع فى طرق أدائهن التمثيلية بميزان حساس فنيا والتحكم فى دقة التشكيلات الحركية لهن بشكل جمالى بديع، هايدى عبد الخالق فى دور ليلى ، هنادى عبد الخالق فى دور انصاف، شريهان شاذلى فى دور المعلمة خوخه، رندا جمال فى دور ساره البلوجر، نشوى حسن فى دور الهام، أية ابوزيد فى دور عدلات، هبة سليمان فى دور الشويش بخيتة ” التمثيل والغناء”، دعاء الزيدى فى دور شفيقة، ليلى مجدى فى دور صرصارة، ولاء الجندى فى دور مهلبية صبية المعلمة خوخة، صافى فهمى فى دور هند، ليلى مراد فى دور سنية ، جنى عطوة فى دور صباح، ايرينى مجدى فى دور زينب، الفنان أكرم وزيرى فى دور سليم، إستطعن جميعهن أن يشبعن الحالات التمثيلية بتنوع ممتع مابين الأداء التمثيلى والتعبير الحركى.
سجن النسا عرض مسرحى ممتع فنيا تنوعت وإمتزجت فيه العناصر الفنية فى هارمونية بالغة الحساسية إرتكز على الأداء التمثيلى المتنوع والقوى فنيا وعلى عناصر الصورة البصرية التعبيرية والرمزية المتداخلة مع التشكيل الحركى والجمل الموسيقية الموحية وإمترجت فيه المناهج المسرحية وتنوعت مابين الواقعية والتعبيرية والرمزية فى مزيج مترابط ومُبرّر درامياً فقدم لوحات بصرية وحالات أدائية شديدة الثراء جمالياً وموضوعياً نجحت فى خلق جسور تواصل ديناميكية مع المتلقى وجدانياً وذهنياً فكانت حلا فنيا ذكيا ومبدعاً من مخرج العرض للحفاظ على إيقاعه نشطاً فى ظل الدراما الزجزاجية النابعة من بنية النص، عرض يحسب فنياً لكل المشاركين به خصوصاً مخرج العرض الذى بدأت ملامح أسلوبه الفنى المتميز تتضح من عرض لآخر مرتكزا على موهبة فنية وقاعدة ثرية متراكمة من الخبرات والدراسة الأكاديمية، وباقة من الممثلات الراسخات مسرحيا وفى مقدمتهن هنادى عبد الخالق وهايدى عبد الخالق وشريهان شاذلى اللاتى قدمن دروسا أكاديمية عملية فى فنون التمثيل المسرحى بالغة الرقى والعمق وفى إنتظار المزيد من إبداعاتهن وإبداعاتهم الفنية.


أيمن غالى