العدد 923 صدر بتاريخ 28أبريل2025
انطلقت بمدينة هانوفر الألمانية فعاليات الدورة الخامسة من اللقاء المسرحى العربى تحت عنوان «مشروع ماغما»، وذلك خلال الفترة من 9 إلى 13 أبريل 2025، فى مركز “البافيون” الثقافي. ويأتى هذا الحدث البارز ليستكمل مسيرة انطلقت منذ عام 2012، ليشكّل نافذة أوروبية على المشهد المسرحى فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويعكس التفاعلات الفنية مع تحولات المنطقة السياسية والاجتماعية.
ويُعقد اللقاء كل عامين تحت عنوان يعبّر عن قضايا وهموم المنطقة، مستعرضًا رؤى فنانى المسرح العرب تجاه الأحداث المتسارعة فى محيطهم. وتركز دورة هذا العام على منطقة الشام، فى ظل ما تعيشه من صراعات ونزاعات، مقدّمة مجموعة من العروض المسرحية والأفلام التى تتقاطع بعمق مع الواقع المعاش.
على مدار خمسة أيام، شهد المهرجان تقديم عروض مسرحية وأفلام متنوعة تناولت الواقع العربى بأساليب فنية متعددة، من التمثيل والرقص إلى السيرك والفنون الأدائية الحديثة، مقدّمة للجمهور الألمانى صورة قريبة وحقيقية لما يعيشه الإنسان العربى اليوم. وعقب كل عرض، أُقيمت حلقات نقاش جمعت الفنانين العرب بجمهور أوروبى متعطش لفهم ما يجرى فى تلك المنطقة المضطربة.
وقد افتتحت الملتقى مديرة المهرجان سابينا تروتشيل، إلى جانب وزير العلوم والثقافة الألمانى فالكو موهرس، الذى أعرب عن تقديره لاستمرارية الملتقى والدور الذى يلعبه فى تعزيز الحوار الثقافى بين الشمال والجنوب. كما أثنى على إدراج المهرجان ضمن برنامج اليونسكو لحفظ السلام، معتبرًا ذلك تتويجًا لجهود القائمين عليه فى بناء جسور التفاهم الثقافي.
ومن أبرز محطات الملتقى هذا العام، إطلاق كتاب «دليل روتليج للمفاهيم المتعلقة بالأداء فى اللغات غير الأوروبية»، وهو ثمرة تعاون بحثى بين المركز الدولى لدراسات الفرجة بطنجة بقيادة الدكتور خالد أمين، والمركز الدولى للبحوث بجامعة برلين تحت إشراف البروفيسور تورستن يوست. شارك فى إعداد هذا العمل الأكاديمى أكثر من 200 باحث وفنان من مختلف أنحاء العالم، حيث يوثق لما يقرب من 70 مصطلحًا فنيًا مستخدمًا فى المسرح غير الأوروبي، فى كتاب تجاوزت صفحاته الستمائة.
بهذه الدورة، يرسّخ لقاء المسرح العربى مكانته كمنبر فنى وفكرى يعكس نبض المنطقة بلغة المسرح، ويعزز حضور الثقافة العربية فى الفضاء الأوروبى عبر الفن والحوار والانفتاح.
يونس عتبان يرسم ملامح 2048 فى عرضه «فنان مقاوم للماء»
استلهم الفنان المغربى يونس عتبان عرضه المسرحى “فنان مقاوم للماء” من تجربته الإبداعية خلال إقامته الفنية فى بينالى البندقية قبيل جائحة كورونا، جاءت فكرة العرض نتيجة انخراطه فى نقاشات واسعة تناولت قضايا مثل سوق الفن العالمية، الهيمنة الثقافية، والواقع ما بعد الاستعمار.
مع إعلان إدارة البينالى عن افتتاح قاعة مخصصة لإبداعات فنانى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والجنوب ضمن الدورة الثانية والسبعين والتى ستنعقد عام 2048، وجد يونس فى هذا التاريخ فرصة لبناء سردية تخيلية تستشرف مئوية الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين. استلهم هذه الرؤية من أعمال أدبية تناولت المستقبل، منها رواية “نهاية العالم” للكاتب الجزائرى بوعلام صنصال، التى تصوّر ما ستكون عليه الأرض المحتلة بعد قرن من إعلان دولة إسرائيل.
برشاقة فنية لافتة، عرض يونس مجموعة من الإشكاليات المتعلقة بالهيمنة الثقافية الأوروبية على الفن التشكيلي، إلى جانب قضايا ما بعد الاستعمار، كانت نقطة انطلاقه تأمل بقع الزيت على مياه البندقية، والتى ألهمته لإبراز التناقض بين الجمال الظاهرى للمدينة والمشاكل العميقة الكامنة تحت سطح الماء، ليستعرض خلال العمل التلوث الذى بات ظاهراً للعيان، فربما طفت بقعة الزيت تلك على السطح، بينما العديد من الأحلام وجثث اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين لازالت لم تطفو بعد، ليعبر عن كم المآسى التى ما زالت تختبأ تحت السطح.
فى الجزء الثانى من العرض، قفز يونس إلى عام 2048، مستعرضًا الصراع الفلسطينى الإسرائيلى من منظور بعيد المدى، فمن خلال رصده لمجموعة من التأملات والتصورات الشرقية والغربية للوضع فى فلسطين بعد قرن من الاحتلال، وبفرضية ساخرة، وباعتبار أن الصراع حول الأراضى الفلسطينية يأزم الساسة وبعض الشعوب حول العالم، اقترح يونس من خلال عمله أن تبنى جزيرة متطابقة للأراضى الفلسطينية -محل الصراع- فى قلب البحر الأبيض المتوسط، ليعيش بها الفلسطينيون دون حرب أو صراع، ليتدارك فى نهاية العرض أنه حتى وإن كان ذلك الحل الساخر قابل للتحقيق فإنه ًمهدد بالفشل بسبب التغيرات المناخية والانحباس الحرارى الذى قد يبتلع هذه الأرض كما يلتهم الكوكب بأسره، فى مشهد موازٍ لبقعة الزيت المستعصية على مياه البندقية.
بعين تشكيلية وحس مسرحي، صاغ يونس عرضه عبر مجموعة من العناصر البسيطة التى شكلت صورًا مسرحية متجددة على خشبة المسرح، حيث بدأ العرض بقطعة بلاستيكية زرقاء مرنة عاكسة للضوء، استخدمها ليعبر عن البحر، كما استخدم قطع اسطوانية صغيرة فى تكوين مجسمات بأشكال مختلفة ومن ثم يعطيها أسماء وعناوين تخدم دراما العرض الذى قدمه، فتارة نراها مبنى معين، أو مدينة، أو حتى قارب وسط هذا البحر، أما خلفية المسرح، فحاكت أحد أركان قاعات المعارض، حيث عُرضت صور ذات دلالات رمزية تدعم أطروحة العمل مثل بقع الزيت التى ظهرت على سطح ماء البندقية، أو خريطة دولة فلسطين الحالية أو المتخيلة وسط البحر الأبيض المتوسط.
العرض جاء مشبعًا بالذكاء والرشاقة فى الطرح والمقاربات، وتميز بتوظيف بسيط للعناصر المسرحية، ولكنه عميق ومعبر، تلى العرض نقاشاً فنياً ثرياً بين صناع العمل والجمهور الألماني، وأدارت النقاش الناقدة الألمانية نورا هاخ.
“حُلم”... رحلة عبر العوالم الداخلية
مسرح الورشة - هانوفر
قدّمت فرقة مسرح الورشة العرض الأدائى «حُلم» من تصميم الفنانة يارا عيد، التى استوحت فكرته من رواية «عما نحلم به» للكاتبة لين هيرشه، شارك فى الأداء ناتالى شبير، لاورا غارسيا أغوليرا، وهاينو سيلهورن الذى تولى أيضًا تصميم الموسيقى، بينما صممت الأزياء ميلانى هوكي، وأعدّ الفيديو يورغن زالس مان، أما الإضاءة فكانت من توقيع ماتياس آلبير، والغرافيك لتوماس فينستر، وأدارت الدراماتورجيا والنص إليكا سيبولسكي.
على مدار ساعة كاملة، استطاع العرض أن يخلق مساحة مغلقة تبدو أشبه بغرفة محاصرة، رغم وجود بعض الأبواب والمخارج، كان الهروب منها شبه مستحيل، إذ كان العارضون يُقذفون مرارًا إلى الداخل وكأنهم محاصرون بأحلامهم وأفكارهم وهواجسهم، منذ اللحظات الأولى، رأينا المؤديين يُلقون إلى خشبة المسرح واحدًا تلو الآخر، يحاولون الفرار دون جدوى، وكأن العرض يأخذنا إلى عوالم الحلم التى لا يمكن الإفلات منها.
فى هذه المساحة المتخيلة، رسم صناع العمل صورة للعلاقة المعقدة بين الإنسان وأحلامه: فالأحلام، بما تحمله من رمزية، تحاصرنا كرفيق وفيّ، تذكرنا بهويتنا وتُطل بين الفينة والأخرى مداعبة خيالنا. العرض قدّم رؤية عميقة لفكرة أن الحلم انعكاس للواقع؛ كلما كان الواقع منطقيًا ومنظمًا، حملت الأحلام وضوحًا ورسائل مباشرة، أما حين يغدو الواقع عبثيًا وفوضويًا، تتحول الأحلام إلى صخب وضجيج ومزيج من الضوء والظلال.
تميّز العمل بخلق حوار ديناميكى بين المؤدين وأحلامهم، مما حرّض الجمهور بدوره على استحضار عوالمه الداخلية. امتلأت الخشبة بالأصوات، الحركات، والهواجس المتصارعة. تنقل العرض بين مشاعر الرفض والقبول، المقاومة والانصياع، التمرد والضجر، عبر تعبيرات جسدية رشيقة تحاكى انتقالنا من حلم إلى آخر، ومن غرفة إلى أخرى. خمس عبارات رئيسية كانت عناوين لهذه العوالم: «لحظة توقف”، “ما يظنه الآخرون”، “حياة جميلة”، “الوطن الذى ليس وطناً للآخرين”، و”أرض لا يملكها أحد».
انقسم العرض إلى جزأين: الجزء الأول، القصير والمكثف، مهّد للدخول إلى عوالم الحلم؛ حيث بدا المؤدون وكأنهم يستعدون لغوص عميق فى الوعى الباطن. أما الجزء الثاني، فاستعرض الاشتباك الدائم بين الحلم والواقع، بين الهروب والمواجهة، مما أدى بالجمهور إلى رحلة متواصلة من السقوط فى النوم واليقظة الرمزية.
ببراعة لافتة، حفّز العرض الحضور على إعادة التفكير بأحلامهم وربطها بحياتهم اليومية؛ مؤكدًا أن الأحلام هى المساحة الحرة الوحيدة التى نستطيع فيها التعبير عن المحظور أو المسكوت عنه، وأن ما تعجز الحواس عن الإفصاح عنه أثناء اليقظة، يبوح به الذهن فى الحلم.
أبدعت كل من ناتالى شبير ولاوراجارسيا أجوليرا فى التعبير الحركى عن أحلامهما الذاتية بشاعرية ورشاقة مبهرة. كما تميّز العرض بمشاركة هاينو سيلهورن الذى أضاف بُعدًا موسيقيًا حيًا عبر عزفه على آلة الكونترباس، إلى جانب أدائه الحركى الفريد، ليشكل مع زميلتيه وحدة فنية متناغمة جعلت من الموسيقى نبضًا للمسرح ودعامة قوية للصورة البصرية.
فى النهاية، جاء عرض «حُلم» عملًا متكاملًا يمزج بين الأداء الحركى الحي، الموسيقى، والخيال المسرحي، ليفتح باب التساؤل حول العلاقة بين الواقع والحلم، ويقدم تحية خالصة لكل من يجرؤ على الغوص فى عوالمه الداخلية دون خوف.
“نوم الغزلان” لعلى شحرور.. سردية الحب المحرم وسط طقوس الفقد والنحيب
قدّم الفنان اللبنانى على شحرور عرضه المسرحى «نوم الغزلان»، أداء كل من شادى عون وليلى شحرور. تولّت كريستال سالم إدارة الإنتاج، وصمّم الإضاءة غيوم تيسوم، فيما وضع الموسيقى عبد قبيسي.
استوحى شحرور عرضه من قصة حب مأخوذة عن كتاب “الزهرة” لمحمد بن داوود الظاهري، الذى يزخر بنصوص العشق العذري. يعود العرض إلى علاقة محرّمة جمعت بين محمد بن داوود، ابن أحد أبرز فقهاء العراق فى العهد العباسي، ومحمد بن جامع، الفتى الأصفهاني. رغم طهارة هذه العلاقة وصفائها، ظلّت تصنّف ضمن الحب المحرّم فى مجتمع محافظ، وبلغت شدة تعلق ابن داوود بحبيبه حدّ تعطيله عن أداء واجباته الدينية والفقهية بعد أن خلف والده فى زعامة أصحاب الحديث ببغداد، حتى وافته المنية دون أن ينجح فى تجاوز هذا الوله.
ينطلق العرض بطقس جنائزى مألوف فى ثقافات الشرق الأوسط: طقس النحيب والعديد. من بين الجمهور، تظهر سيدة ترتدى السواد (ليلى شحرور) بصوت أجش وهى ترتل مقاطع من ترانيم مريم العذراء فى أسبوع الآلام: “وحبيبى وحبيبي، أى حال أنت فيه؟ من رآك فشجاك، فأنت أنت المفتدى”. تصعد ليلى إلى الخشبة، فيما تتوسط الخشبة الفارغة أجساد متشابكة لعلى شحرور وشادى عون، مجسدين العاشقين.
مع تصاعد النحيب، تنتفض الأجساد وكأن الحياة قد عادت إليها، وتبدأ فى نسج حوار صامت عبر تشكيلات جسدية متلاحقة، ترسم صورًا تؤكد على اندماج الجسدين فى كيان واحد. كان لاختيار النحيب كخلفية صوتية أثر مزدوج؛ من جهة، يمثّل حكماً مجتمعياً ودينياً على هذه العلاقة العذرية المرفوضة، ومن جهة أخرى، يأتى كرثاء لحب يوشك أن يفنى مع وفاة أحد طرفيه. وقد برعت ليلى فى أداء هذا الطقس بكثير من الصدق والعذوبة، تمامًا كما أجاد على وشادى التعبير بأجسادهما عن الصراع بين نقاء الحب ورفض المجتمع والدين له.
جاءت الإضاءة خافتة وخجولة، بالكاد تسمح للمتفرج بتمييز التفاصيل، مما عزز الإحساس بانفصال العاشقين عن العالم المحيط، وكأنهما يعيشان فى فضاء سرى مظلم بعيدًا عن الأعين، خشية الفضيحة. أما الموسيقى التى أعدّها عبد قبيسي، فقد دعمت الحالة العامة، وإن كان الانطباع الشخصى يميل إلى أن الاقتصار على صوت ليلى وحده ربما كان سيضفى مزيدًا من التماسك والحميمية على اللحظة المسرحية.
رغم جمال الصور المسرحية وتنوع التشكيلات الجسدية، وقع العرض أحيانًا فى فخ التكرار والإطالة، حيث ظلت الدلالات واحدة دون تطور درامى واضح، باستثناء المشهد الختامي: دخول بنية ضخمة تحمل كشافات مسرحية، فى دلالة على نور الفضيحة والقدر المحتوم الذى يحكم على هذه العلاقة بالموت. تدهس هذه الكتلة أحد الجسدين، فيما يعود صوت ليلى ليواصل نحيب الفقد، وينتهى العرض.
وفى مناقشة تلت العرض، شارك على شحرور وفريقه تفاصيل مراحل إعداد هذا العمل خلال جائحة كورونا، وكيفية استقباله فى بيروت. وتبقى ملاحظة أخيرة بالغة الدلالة: ليلى شحرور، إحدى أفراد عائلة شحرور، تمتهن النحيب والعديد مهنةً أصلية، مما أضفى على العرض صدقًا إضافيًا عبر استحضار مهنة توشك على الانقراض إلى قلب خشبة المسرح.
«صار وقت الحكي”... بيروت بعيون فيليب عرقتنجى ولينا أبيض
فيليب عرقتنجى ولينا أبيض
على الرغم من أننى أكتب عن هذا العرض بعد عدة أيام من مشاهدتى له، إلا أننى وفور استدعاءه فى ذهني، انتابنى ذلك الشعور الذى حاصرنى وأنا جالس أشاهده بين الجمهور فى مسرح البافيون بهانوفر، ألمانيا، وربما أن هذا العرض يعد من العروض التى أخذت جزء منى وتركته فى هذه المدينة الساحرة التى اعتادت أن تقتص منى جزء كلما زرتها منذ المرة الأولى، فهذا العرض ليس من العروض التى من السهل أن يُمحى أثرها من ذهنك وعقلك وقلبك، فقد استطاع فيليب ولينا أن يأخذونى رفقة الجمهور فى رحلة عابرة لحدود الزمن والمكان، إلى بيروت، لنعاصر تلك المدينة التى طالما كانت ومنذ صغرى حلم أن أزورها وأمشى فى شوارعها التى تحمل من البهجة والآلام ما يكفى لانتزاع ضحكاتك ودموعك، فما كان من العرض وصناعه إلا تحقيق هذه الأمنية وتقديم بيروت إبان الحرب الأهلية وما تلاها ببراعة وصدق من خلال سرد قصصهما الذاتية التى بالضرورة تعد جزء من كيان ضخم من القصص والحكايات حجم أهل بيروت، تلك القصص التى تشكل بيروت ذاتها، فبيروت ليست من المدن التى تأسرك فقط شوارعها ومبانيها وأزقتها وجبالها وبحرها، وإنما الناس أيضاً وحكاياتهم، آهاتهم ومواجعهم، ضحكهم وفرحهم وقدرتهم على التجاوز والاستمرار فى تلك الحياة.
صار وقت الحكى هو عرض مسرحى من أداء المخرج السينمائى اللبنانى فيليب عرقتنجي، ومن الملفت أن هذه هى المرة الأولى التى سمح فيها فيليب لنفسه بالانفراد بخشبة المسرح ومشاركة قصته الشخصية وحكاياته مع الجمهور، ففى غرفة مكتظة بالصناديق المصنوعة من الكرتون والتى تستخدم فى نقل المتعلقات الشخصية حين الشروع فى التنقل من مسكن لآخر، نجد فيليب قابع وسطها فى بداية العرض وبفحص تلك الصناديق وما تحتويه من كتب وصور وشرائط كاسيت وكاميرات وغيرها من المتعلقات الشخصية التى عاصرت ماضيه وحاضره، يأخذنا فى رحلة إلى داخله، إلى ماضيه وطفولته ومنذ أن كانت الكلمات تستعصى على فمه ليعبر عما بداخله شأنه شأن أى طفل، لنرى كيف استطاع وببراعة تجاوز أزمة ازدواجية اللغة التى عاصرها منذ نعومة أظافره، حيث أن لغة أمه كانت الفرنسية بينما لغة مربيته العربية، واستعرض فيليب بشكل ساخر كيفية تجاوزه لهذه الأزمة م خلال خلق لغة ثالثة خاصة به ما هى إلا مجموعة من الأصوات تشبه النغمات الموسيقية ليعبر من خلالها عن رغباته ومخاوفه، ليكبر هذا الطفل ونكبر معه ويصحبنا إلى مدرسته ونرى كيف تجاوز هذه الإشكالية حين أهداه أبيه بيانو، الذى فشل فى تعلمه واكتفى بنغمات لغته الخاصة، حتى حصل على أول كاميرا قد تلقاها هدية من والده، ومن هنا بدأت رحلته فى توثيق شهادة مهمة عن ما دار فى بيروت أثناء الحرب الأهلية، فوثق هذا الصراع منذ بدايته بعد أن منحنا -نحن الجمهور- ملخصاً عن أطراف هذا الصراع الأهلى بين كتائب لبنانية، قوات لبنانية، حراس الأرز، التيار الوطنى الحر، الفصائل الفلسطينية، أحزاب وميليشيات إسلامية ويسارية، فضلاً عن دول برمتها تدعم كل منها أحد تلك الكيانات لتخلق فى النهاية حرب متشابكة شديدة التعقيد، مما انعكس على المدينة ذاتها فارتسمت الحدود فى نفس المنطقة، وتقسمت الشوارع والأحياء.
يروى فيليب عن فترة عمله كمصور صحفي، وكيف كان شغوفاً بعمله هذا حيث كان يعتبر شاهداً على تلك المدينة وما يدور بها من أحداث قد تتلاشى تفاصيلها بمرور الوقت، ولكن ولحسن الحظ استطاع فيليب استراق العديد من اللحظات والمواقف والأحداث قبل أن يمحو أثرها الزمن وقبل أن تذهب فى طى النسيان، ومن حسن حظنا نحن الجمهور أن تستعرض لينا أبيض بصفتها مخرجة هذا العمل أجزاء من شرائط فيليب وهو يسرد ويحكى لنا عن كل صورة وكل لحظة بمنتهى الشاعرية، تنتهى الحرب ويمضى فيليب فى حياته ويغادر بيروت مستقراً فى مدينة النور، باريس، ويبدأ فى محاولات صناعة أفلام روائية تحكى عن مدينته الأم بيروت، إلا أنه يواجه عقبات إنتاجية ليقرر إنتاج فيلمه الأول بنفسه، الفيلم الذى حمل عنوان “بوسطة” والذى يحكى عن الرقص الشعبى فى لبنان، لينجح نجاح مدوٍ وينتزع صدارة الإيرادات فى بيروت فى الوقت ذاته يتركه والده فى هذا العالم، يتركه وحيداً رفقة بيانو لم يستطع أن يكون له صديقاً، وكاميرا كانت ومازالت عيناً راصدة لما يدور شاهدة على تلك المدينة.
ويستمر فيليب فى رحلته التى خطفنا إليه ليحدثنا عن انفجار المرفأ وكيف تغيرت ملامح المدينة مرة أخرى، عن الانتهاكات الأخيرة التى قام بها كيان الاحتلال الصهيونى لبيروت الصامدة، وما بين ثابت ومتغير، ما بين بيروت وفيليب وذكرياته، ينتهى العرض بظهور لينا رفقة فيليب فى المشهد الختامى بعدما قررا التحدث والحكى والبوح عن أنفسهم، عن باريس الفرنسية وباريس الشرق كما نسميها فى منطقتنا العربية “بيروت”
عرض أخاذ يخلد فى الوجدان والذاكرة بشاعريته فى الطرح وحساسية موضوعه، فرغم قسوة ما مرت به بيروت منذ 1975 وحتى الآن إلى أن جمال السرد والحكى والحالة المسرحية التى خلقت بيئتها لينا، وقدمها فيليب جعلتنى أتمنى لو كنت قد عاصرت هذه المآسى لأكون شاهداً وحاضراً لكل هذا الجمال المختبئ من قسوة أصوات الرصاص والقنابل والانفجارات.
صار وقت الحكى من أداء فيليب عرقتنجي، وإخراج لينا أبيض، مساعدة الإنتاج: ميليندا دلالوي، تصميم الديكور لحسن صادق، تصميم الصوت لجوزيف حداد، كوريوجراف مازن كيوان، ووضع موسيقى العرض كل من ماجد كفورى وجوزيف حداد.
كوزموس، جسد بلا حدود... وحكايات لا تُنسى
عشتار معلم
تعمل “عشتار معلم” أساسًا كمؤدية لفنون السيرك، لكنها من خلال مشروعها الفنى “عوالم” بالتعاون مع المخرج الفرنسى كلمنت دازين، استطاعت أن تقدم عرضًا مسرحيًا يعتمد على التعبير الجسدى والرقص واليوغا الهوائية (Aerial Yoga)، ليروى العلاقة العميقة بين جسدها ومدينة القدس العتيقة، تلك المدينة التى عاشت بها حتى سن الثامنة عشرة قبل أن تنتقل إلى باريس، حاملةً معها ذكريات حية مع جدتها. استهلت عشتار عرضها بتحفيز الجمهور على التفاعل المباشر، من خلال أداء تمارين للاسترخاء الصوتى والتنفس، وتكوين جمل سمعية جماعية، ما جعل وجدان المتلقى يتوحد معها منذ اللحظة الأولى.
بدأت عشتار عرضها بروح مفعمة بالفكاهة، تخفف بها وطأة ما ستسرده لاحقًا، كأنها توجه رسالة إلى الجمهور الذى دخل القاعة محملاً بتوقعات مشاهدة عرض قاتم قادم من مدينة تعيش اشتباكات دائمة مع جيش الاحتلال، مدينة مقدسة مثقلة بالعنف اليومي، خاصةً مع احتدام الأوضاع الأخيرة. إلا أن عشتار نجحت ببراعة فى كسر هذا الانطباع المسبق، لتقدم عرضًا يبدو ساخرًا، يتناول تفاصيل حياتية يومية معتادة داخل القدس، المدينة التى تحمل طابع القداسة للجميع.
ومن خلال مجموعة من القصص التى نقلتها عن جدتها، بدأت عشتار تسرد تفاصيل مدينة القدس، تقسيمها الجغرافي، حدودها، شوارعها وأزقتها. كان اختيارها لسرد حكايات الجدة مقصودًا، ويشير إلى نقطتين أساسيتين: الأولى ترتبط ببناء القصة وتسلسلها الزمني، حيث يعود المتلقى إلى مراحل تاريخية من حياة المدينة منذ حرب 1948 وربما قبلها؛ أما الثانية، فهى تأكيد على أن أصحاب الأرض الحقيقيين هم الفلسطينيون، وأن جدة عشتار، بما تحمله من ذكريات، تمثل هذا الانتماء الأصيل. وقد كان اختيار البدء بحكايات الجدة موفقًا خصوصًا أن العرض موجه لجمهور أوروبي، سواء فى فرنسا حيث وُلد العمل وعُرض لأول مرة، أو خلال جولاته فى المدن الأوروبية، ومن بينها مدينة هانوفر حيث أُقيم لقاء المسرح العربي.
تواصل عشتار عرضها بخفة ورشاقة مستعينة بتقنيات السيرك المختلفة، لتجسد المواقف التى تتعرض لها المرأة فى القدس، وصراعها المستمر مع قمع السلطة وحدود الاحتلال المفروضة على مدينتها منذ النكبة وحتى اليوم. تبحث عشتار عن هوية جسدها الحائرة: أهو جسد مسلم أم مسيحى أم يهودي؟ أشرقى هو أم غربي؟ أيتبع الأرض أم الماء؟ ذلك الجسد الذى يتأرجح بين العوالم المختلفة، يعترف به البعض وينكره آخرون، ولا تعرف إلى أى وطن ينتمي. فى النهاية، تكتشف عشتار أن وطنها الحقيقى هو جسدها ذاته، الحامل لروحها، وجوارحها، وذكرياتها، وحكاياتها، وكل ما تبقى من ذكريات جدتها.
فى النهاية، كانت تلك العروض المسرحية جزء من برنامج ضخم متخم بالفن والإبداع والجمال، لقاء ممتع جمع العديد من الفنانين العرب والأوروبيين، نقاشات ممتعة فتحت آفاق عديدة حول ما يدور فى منطقتنا العربية الملتهبة بالأحداث، فبمنتهى الشاعرية والإبداع نوقشت قضايا الحرب والاحتلال والحدود، فجزيل الشكر لكل القائمين على الملتقى، وإلى لقاء قريب.