التعبير عن الذات في الأداء المسرحى(2)

التعبير عن الذات       في الأداء المسرحى(2)

العدد 923 صدر بتاريخ 28أبريل2025

بعض الموارد
 فكر أولا في كيفية بناء المؤدين للعروض. هناك ثلاث قضايا أساسية يجب تناولها في توليد أي عرض مسرحي:
1- من ينطق ماذا (بما في ذلك الكلمات والإيماءات وما إلى ذلك) وكيف يبدو كل نطق وصوته.
2. ماذا يفعل كل مؤدٍ في كل لحظة من الأداء. وكيف يفعل ذلك.
3. أين يتجه الانتباه في كل لحظة وكيف يتحقق هذا الاتجاه من الانتباه؟
     لا يفسر بشكل كامل وصف مجموعة من الاستجابات لقائمة القضايا الأساسية التي يطرحها المؤدون، والتي قد نطلق عليها “أسئلة المؤدين الأساسية”, كيف يتشكل الأداء الكامل، ولا يميز بين الاختيارات التي تنتج عن نزوة أو حادث والاختيارات التي تخدم بعض الغايات الأخرى. وبشكل عام، يحاول المؤدون أيضًا القيام بأمرين آخرين مع الإجابات التي يقدمونها للأسئلة الأساسية.
أولا عند الإجابة عن الأسئلة الأساسية للمؤدين، تسعى الفرق إلى الوصول إلى مجموعات متماسكة بشكل واهي من الوسائل لعرض السمات في تسلسلات منظمة تشكل طريقة واحدة، ومن بين طرق أخرى ممكنة وذات أوزان مختلفة، يمكنهم من خلالها إنشاء خصائص الموضوع المتطور في الأداء. قد نعرّف التقاليد المسرحية على أنها مجرد مجموعات واهية التماسك من السمات المختارة للعرض والتي تتمتع بقدرات مختلفة على إحداث التأثير، أو “الثقل”.
ثانيًا، عندما تستقر الفرق على الخيارات، فإنها تسعى إلى الوصول إلى تقاليد مماثلة طوال العرض بأكمله، تحكمها وتربطها بعض المفاهيم أو الأهداف للأداء ككل. ويمكننا تعريف الأساليب المسرحية كمجموعات من التقاليد التي تحكمها هذه الطريقة. والأساليب مهمة للمسرح لأن الإشارة إليها مطلوبة لشرح ما يحدث في النهاية , وفي نهاية المطاف في العرض المسرحي من خلال الإنجاز. ولعل أحد الجوانب المهمة في إسناد الأسلوب من أجل فهمه، أنه يتعين على المتفرجين صياغة فرضيات حول العملية التداولية لفرق المؤدين.  ويبدو تكوين الفرضية هذه أشبه كثيرًا بما أطلق عليه العديد من فلاسفة الفن “التفسير”. وهذه هي الطريقة التي سأشير إليها فيما يلي.
ولنتأمل الآن كيف يستوعب المشاهدون ما يُعرض عليهم. وأي تفسير نقدمه مقيد بحقيقة مفادها أنه لابد أن يشرح كيف يتمكن المتفرجون الذين لديهم معرفة محدودة للغاية من فهم ما هم على وشك مشاهدته.
  من الواضح أن أغلب الذين يذهبون إلى المسرح يفعلون ذلك بشكل متكرر إلى حد ما؛ لذا يمكننا أن نفترض أن أغلبهم يأتون بخلفية معرفية كبيرة. ولكن حتى هؤلاء كان عليهم أن يبدأوا من مكان ما. وكان عليهم أن يكتسبوا تلك المعرفة. لذا كانوا في وقت ما يشبهون إلى حد كبير المتفرج المبتدئ تمامًا وسيظلون يواجهون أشكالًا من المسرح غير مألوفة.
 تفسر النقطة الأخيرة لماذا يجب أن يغطي الوصف أيضًا أشكال المسرح غير السردية وغير التمثيلية. ومن المؤكد أن المسرح السردي منتشر في كل ثقافة. لكن العديد من الثقافات لديها أشكال أخرى من المسرح والتقاليد الطليعية في الغرب مليئة الآن بمثل هذه الأشكال من المسرح. قد تكون هذه الأشكال من المسرح جديدة لبعض المتفرجين، لكن على الرغم من ذلك، يبدو أنهم ما زالوا يدركون ما يجري، على الأقل على المستوى الأساسي. وبناءً على ذلك، أقترح أن نتبنى ما يلي كمعيار معقول وحد أدنى وعام إلى حد ما للدليل على أن المتفرج قد فهم ما رآه.
 يملك المتفرج فهما أساسيا للأداء المسرحي إذا كان:
(1) قادرًا على وصف الشيء الذي تم تقديمه خلال الأداء،
(2) يتفاعل جسديًا بالطرق الصحيحة مع ما يحدث في الأداء أثناء حدوث تلك الأشياء، أو
(3) يتبنى الحالات المزاجية المستجيبة لما يحدث في الأداء أثناء حدوث تلك الأشياء.
 لا يمكن المبالغة في أهمية ردود الأفعال والحالات المزاجية. وغالبًا ما يُظهِر المتفرجون فهمهم للأداء من خلال ردود أفعالهم وحالاتهم المزاجية. وغالبًا ما تكون هذه التفاعلات معدية. ويُظهِر المتفرجون “سلوك التجمع flocking behavior” استجابةً للجوانب المادية لما يسمعونه ويرونه وأحيانًا يلعنونه.
إن مقولة الحد الأدنى من الأدلة اللازمة للفهم المسرحي هي مقولة غير فعالة. إذ أنها تسمح لنا بالاعتراف بالدليل الاستطرادي على الفهم , والذي تمثله المتفرجة التي تصف ما رأته . كما يسمح لنا بالدليل غير الاستطرادي على الفهم والذي تمثله إما ردود أفعالها الجسدية أو تبنيها للحالات المزاجية. وأي منهما سيفي بالغرض.
     قد يعترض البعض بأننا نحتاج إلى معيار أقوى لأن بعض ردود الأفعال التي يصدرها المتفرجون لا تشكل دليلاً على الفهم بل هي مجرد ردود أفعال فردية أو عابرة، مثل التشنجات. وأنا أعتمد هنا على ما أسماه بول وودروف “مبدأ الاتساق المعرفي principle of cognitive uniformity”. والفكرة، كما أستخدمها، هي: إذا كان الوصف أو رد الفعل دليلاً على الفهم، فمن المرجح أن يقدم الآخرون نفس الوصف أو يكون لديهم نفس رد الفعل. وقد تكون هناك مواقف لا يفهم فيها سوى شخص واحد شيئًا ما، ولكن ـ إذا كان الشخص قد فهم حقًا ـ فإن نفس المنظور يكون مفتوحًا منطقيًا للآخرين. وباختصار، لا تُعَد الأوصاف وردود الأفعال الفردية البحتة أمثلة على الفهم.
     ولنتأمل هنا بعض الاختلافات التي قد توجد بين المشاهدين لنفس العرض. فقد يكون أحدنا قد تناول للتو وجبة غداء رائعة. وقد يكون آخر قد وصل للتو من رحلة استغرقت ثماني عشرة ساعة. وقد يكون ثالث قد مر مؤخرًا بطلاق مروع ومدمر. ومن المؤكد إذن أنه حتى لو كان لدينا من الأسباب ما يجعلنا نفترض أن أغلب المشاهدين سوف يدركون نفس الأشياء ـ وبالتالي سوف يتفاعلون بنفس الطريقة تقريباً ـ فلا يوجد ما يضمن حدوث ذلك.
     لذا، نحن بحاجة إلى اختبار لتحديد متى يمكن اعتبار رد الفعل أو تبني مزاج معين دليلا على فهم المتفرج للحظات أو التسلسل في الأداء ومتى لا يمكن اعتباره كذلك. ومن المناسب أن يكون هناك مثل هذا الاختبار. حتى عندما يتم حث المتفرجين على قبول سلبي نسبيًا لما يرونه، فإنهم ما زالوا يفكرون فيما يرون. ومن بين أمور أخرى، يفكرون في كيفية التوفيق بين ردود أفعالهم وما يعتقدون أنهم يراقبونه. وبالتالي، يستخدم الاختبار المقنع الأدلة الاستطرادية التي يعتقد أي متفرج أنها مشتركة مع متفرجين آخرين كمعيار لتحديد ما إذا كان إحساسه بحالة مزاجية ومشاعر شخصية في لحظة أو تسلسل ما متسقًا في الواقع مع ما يفهم أنه حدث في محتوى تلك اللحظة أو التسلسل. وفي معظم الأحيان، تكون ردود أفعال المتفرجين متسقة مع ما يصفونه إذا قدموا وصفًا لما حدث. ولكن قد تجد المتفرجة نفسها تعيش حالات مزاجية ومشاعر لا تتفق مع ما يفهمه جميع المتفرجين. وعندما يكون الأمر كذلك، فإن هذا المزاج أو الشعور شاذ، ولا توجد علامة على أنها استوعبت اللحظة أو التسلسل. قد يكون ذلك، بالطبع، ذا قيمة بالنسبة لها لسبب آخر؛ لكنه لن يكون ذا قيمة كدليل على الفهم.
  إن أحد أهم متطلبات الاعتراف بكيفية تفكير المتفرجين هو مبدأ الوعي في تلقي العروض المسرحية. ذلك أن إدراك المتفرج لما يحدث في لحظات أو في تسلسلات من العرض لا يكون أحيانًا عملية واعية على الإطلاق ونادرًا ما يكون عملية واعية تمامًا.
  إن مبدأ الوعي هذا صحيح حتى وإن كان اختبار موثوقية ما يتم إدراكه من خلال التحفيز المادي، يتضمن بشكل أساسي، من الناحية التصورية، الرجوع إلى الأدلة الاستطرادية المتعلقة باللحظة أو التسلسل. وبالتالي فإن التعرف على ما يجري في أي لحظة أو تسلسل يشبه التعرف على اللحن ويختلف عنه في نفس الوقت. إن إثبات فهم المرء لجزء من اللحن ليس لغويًا - فهو يفعل ذلك من خلال همهمة أو صفير (أو عزف) الجزء. وبالمثل، غالبًا ما يُظهِر المرء أنه فهم جزءًا من عرض مسرحي فقط من خلال الطريقة التي يتفاعل بها. والفرق هو أنه في حالة العرض المسرحي، يمكن للمرء غالبًا تقديم الأدلة الخطابية أيضًا؛ وأن هذه الأدلة تعمل كمساعدة حاسمة للمتفرجين عندما يجدون أنهم يجب أن يفرزوا ردود الفعل الموثوقة من تلك غير الموثوقة. ولكن المتفرج قد لا يبدي فهمه إلا من خلال ردود أفعاله الجسدية أو الحالات المزاجية التي تبناها. وقد لا تتاح له الفرصة أبدًا لتقديم الدليل الخطابي وقد لا يعبر خطابيًا عن فهمه للحظة أو تسلسل على الإطلاق. قد لا يكون الشعور هو كل شيء؛ ولكنه غالبًا ما يكون كافيًا.
المشاعر والحالات المزاجية للعروض بأكملها
     لقد قلت إنني سأقدم وجهة نظر شبه إدراكية وإدراكية بشكل عام؛ وقلت إن وجهة النظر التي أؤيدها تعترف بالحقائق السببية حول الأداء.
 إن أهمية ردود الأفعال والحالات المزاجية تشكل أهمية بالغة في إقبال المشاهدين على العروض. وردود الأفعال والحالات المزاجية، كما ذكرنا سابقًا، معدية؛ ويُظهِر المشاهدون “سلوك التجمع” استجابةً للجوانب المادية لما يرونه. فكر مرة أخرى في الكيفية التي يُظهِر بها المستمع أنه تعرف على لحن. فهو يفعل ذلك بالهمهمة أو الصفير أو عزف بعض المقاطع. وفي حالة العرض المسرحي، قد يتفاعل فقط، ويُظهِر فهمه من خلال سلوكه غير اللغوي. أو قد يُطلب منه التحدث عما شاهده، وفي المقابل، تقديم الدليل الاستطرادي أيضًا.
  إن كل هذا يفسر البعد الإدراكي لما نشعر به في الأداء. ولكن ما يتبقى في أي أداء هو الشعور بالجسدية الصرفة. أي أنه حتى لو تأكدت المتفرجة - بافتراض حالة تحتاج فيها إلى ذلك- من أنها فهمت ما تراه، فإنها لا تزال تتمتع بتجربة جسدية مكثفة تبقى كنوع من رواسب الأداء. وقد تبقى هذه الرواسب من المشاعر والحالات المزاجية - على الرغم من أنها تتفق مع فهمها لمحتوى الأداء- كمشاعر وحالات مزاجية حرة نسبيًا لا تربطها بلحظات معينة في الأداء بل بالأداء ككل.
 ولنفترض، كما هو شائع بين المتفرجين، أن المتفرجة تريد تفسير هذه المشاعر والحالات المزاجية. وقد تسعى إلى تفسير هذه المشاعر والحالات المزاجية “المتبقية” بنفس الطريقة التي اختبرت بها مشاعرها وحالاتها المزاجية لحظة بلحظة، بالإشارة إلى ما فهمته في الأداء. ولكن إذا تصورنا أن المتفرجين يفكرون في هذا الأمر، فسوف نرى على الفور أنهم لا يستطيعون المضي قدمًا بهذه الطريقة. لأنهم قد شرحوا بالفعل كل ما يمكن تفسيره بهذه الطريقة. ويمكن أن يتغير نطاق تفكيرهم، من التركيز على لحظات معينة إلى التركيز على العروض بأكملها.
  وهذا يعني أن ما يمكن أن يفعله المتفرجون بنجاح أكبر هو الاستئناف إلى البيئة العمدية الأكبر لتوفير تقييم لمشاعرهم وحالاتهم المزاجية المتبقية. وقد يلجأ المتفرجون إلى فكرة مفادها أن المؤدين قد أثاروا مثل هذه المشاعر والحالات المزاجية لسبب ما. وقد يفكرون بعد ذلك في كيفية تأثير جميع الأجهزة العمدية للأداء بأكمله - الإضاءة والأزياء والدعائم والتمركز والصوت والصوتيات والحجب - على استقبالهم للقطعة. وقد يتكهنون بما قد تكون عليه نوايا المؤدين.
 إذا كان الأمر كذلك، فمن الواضح أن نطاق تفكير المتفرج قد تغير، من محاولة فهم لحظة أو سلسلة من اللحظات إلى محاولة فهم الأداء. باختصار، لقد بدأوا يفكرون في الأسلوب. لقد بدأوا في تفسير القطعة.
 من المؤكد أنه ليس كل المشاهدين يحاولون التفكير في هذه الأمور. وبالنسبة لهؤلاء المشاهدين، فإن مثل هذه المشاعر والحالات المزاجية تظل عالقة في مخيلتهم وفي ما قد نسميه “الحياة الآخرة الملموسة felt-afterlife” للعمل.
 ولكن ماذا عن القلق من الجانب المزدوج للمؤدين؟ إن القلق ينبع من حقيقة أنهم هم أنفسهم حين يظهرون كشخصيات خيالية أيضًا. وكما أشرت سابقًا، إذا كانت هذه مشكلة حقيقية على الإطلاق، فهي أيضًا أكثر عمومية. لأنها تؤثر على تمثيل الشخصيات غير الخيالية في السرد غير الخيالي، وتطلعات المؤدين إلى تمثيل أنفسهم، ومحاولات المؤدين للتحدث عن أنفسهم فقط. ولكن كما اقترحت ما سبق، فإن هذا ليس سوى جزء من ظاهرة أكثر عمومية. أي أنه لا توجد حقًا مشكلة خاصة بشأن الجسد الجسدي لمؤدين معينين وخصائص الشخصيات التي يجسدونها، على الأقل ليس إذا كان يُعتقد أنها مرتبطة بالجودة العاطفية للأداء والصفات العاطفية للشخصية.
 تثير سمات المؤدين المشاعر والحالات مزاجية لدى المتفرجين. وبقدر ما تساهم هذه المشاعر والحالات المزاجية في فهم أي جانب من جوانب الشخصية أو الأحداث في العرض، فإنها تلعب دورًا إدراكيًا بحتًا في تفكير المتفرجين. وبقدر ما تشكل هذه المشاعر والحالات المزاجية تشتيتًا للانتباه ــ ومن المعروف أنها كذلك ــ فإنها إما أن يتجاهلها المتفرجون أو، إذا لم يكن من الممكن تجاهلها، فإنها تتداخل مع فهم المتفرجين للأداء. وأخيرًا، بقدر ما تظل في ردود أفعال المتفرجين وحالاتهم المزاجية المحسوسة، فقد يُستشهد بها باعتبارها أجزاء من المواد لدعم تفسير العرض ككل. ومع ذلك، بالنسبة للعديد من المتفرجين، قد يُسمح لمثل هذه الحالات المزاجية والمشاعر بالبقاء في الأذهان.
.................................................................................
الهوامش
جيمس هاملتون عضو بقسم الفلسفة في جامعة ولاية كانساس. وهو متخصص في علم الجمال والمسرح، وكتابه “فن المسرح” (2007) والذي نشرت ترجمة له  ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة التجريبي في الدورة الثلاثين عام 2023.    
نشرت هذه المقالة في كتاب “ التعبير في فنون الأداء “ الصادر عن مطبوعات كمبريدج عام 2010 (في الصفحات من 16 -27 ) بعنوان “Performer Subjectivity and Expression in Theatrical Performance “.


ترجمة أحمد عبد الفتاح