فضاء مغاير أم مسرح مغاير؟

فضاء مغاير أم مسرح مغاير؟

العدد 924 صدر بتاريخ 12مايو2025

مسرحيون ومتخصصون: نحن بحاجة لفضاءات مغايرة لمد جسور التواصل بيننا وبين الجمهور

فى زمن تتسارع فيه التغيرات الفنية والثقافية، لم يعد المسرح محصورًا داخل حدود «العلبة الإيطالية» الكلاسيكية، بجدرانها الأربعة وستارتها الثقيلة. ظهر ما يُعرف بـ»الفضاءات المغايرة»، لتكسر التقاليد وتُعيد صياغة العلاقة بين العرض والجمهور والمكان. باتت هذه البدائل تتيح إمكانيات جديدة للتجريب، ولطرح رؤى معاصرة أكثر قربًا من الواقع، وأشد التصاقًا بروح اللحظة ومن هذا المنطلق أجرينا هذا التحقيق لنتعرف من خلال المتخصصين والمسرحيين عن أهمية الفضاءات المسرحية المغايرة فى هذا التوقيت وهل تحتاج إلى نوعية معينة من الكتابات والطرح المغاير فى الرؤى وكذلك لنتعرف على مجموعة من التجارب البارزة والمهمة فى مسرح الفضاءات المغايرة للمسرحيين.   
الفضاء ليس أرضًا محايدة بل مكانا مشبعا بالرموز والسياسات والعلاقات
قال الباحث والناقد حسام الدين مسعد الفضاءات المغايرة أو غير التقليدية هى الأماكن التى تُستخدم كمسارح بديلة عن المسارح التقليدية المصممة لاستقبال العرض المسرحى، إذ تتم عملية مسرحة هذا الفضاء باختيار موضوعات وخطاب مسرحى يتناسب مع طبائع هذا المكان المعمارية، والجغرافية، والانفلاتية، وقد تشمل هذه الفضاءات الساحات العامة، الأسواق، المقاهى، الشوارع، المنازل، وقاعات المكتبات، حتى المواقع الأثرية،ويكمن هدف هذه الفضاءات فى عملية كسر هيمنة العلبة الإيطالية كمكان مخصص لاستقبال العرض المسرحى له شكله التقليدى، هذا أولا، أما ثانيًا: لإزالة الحواجز بين الممثلين والجمهور، وتقديم تجربة تفاعلية تُثرى العرض المسرحى من خلال استغلال خصائص المكان ذاته، إذ يتغير جوهر العلاقة بين الفضاء والعرض، فلم يعد العرض هو من يُقدَّم داخل فضاء مُعدّ مسبقًا، بل أصبح الفضاء نفسه محفزًا لصناعة العرض، وشرطًا لإعادة بناء بنيته الجمالية والدلالية، فالفضاء المغاير، لا يُفرض عليه العرض، بل يُستخرج منه، فهو يحوى طبقات من التواريخ والوظائف والممارسات اليومية، التى تشكل نسيجًا يمكن الاشتباك معه فنيًا، إذ إن عروضه تتأسس على احتلال الفضاء العام وتحويله إلى مساحة أداء ومعنى، فيتحول المكان إلى رمز، وينمو فى وجدان الجماعة بوصفه معلمًا هوياتيًا، فتُنسج حوله الحكايات، وتُربط به الطقوس، ويُستدعى فى لحظات الحنين والانتماء.
وتابع: من هنا، فإن وضع المتلقى فى عروض الفضاءات المغايرة، يخلق تحدياً أمام صناع تلك العروض ينبغى بحثه جيدًا قبل الشروع فى تنفيذ العرض،إذ أن هذه التجارب مفترض أن  تتأسس على فلسفة ترى أن الفضاء ليس أرضًا محايدة بل مكانا مشبعا بالرموز والسياسات والعلاقات الطبقية والاجتماعية. وعليه، فإن اختيار الفضاء المغاير، ليس قرارًا لوجستيًا بل موقفًا فكريًا، هدفه الرئيس حصد التشاركية التى هى امتزاج كل عناصر المسرح فى منطقة فضائية واحدة.
وبالتالى أعتقد أن الكتابة النصية للفضاءات المغايرة ينبغى ان تقوم على تجاوز مركزية “النص” لصالح “الحدث»، وتعيد الاعتبار للجسد، وللصوت الخام، وتنطلق من رغبة فى “استعادة الفضاء العمومي” كأداة للتعبير السياسى والاجتماعى، إذ إن المؤلف يكتب العرض لا النص الأدبى، وهذا يستوجب على المؤدى طبيعة خاصة فى تقنيات الأداء التمثيلى، أهمها (الارتجال، والتكيف)، إذ من الضرورى لمؤد الفضاء المغاير أن يتقن هاتين المهارتين اللتين ستعيناه على توظيف أية حوادث طارئة قد تحدث أثناء تنفيذ العرض فى سياق موضوعه ورسالته من خلال التكيف والارتجال، فلا يشعر بها المتلقى، وكأنها جزء من نسيج العرض .
وأضاف مسعد، قائلا: من التجارب العالمية التى استثمرت الفضاءات المغايرة تجربة بيتر شومان بنيويورك الأمريكية فى مسرح الخبز والدمى، وتجربة Miguel ALCanTUd . ميجيل ألكنتود، بإيطاليا مسرح الميكروتياترو، والتى استأجروا فيها بيت للدعارة لتقديم العروض المسرحية فى ثلاث عشرة غرفة كانت تستعمل فى الأعمال المنافية للآداب، مع اعتمادهم على مسرحة هذا الفضاء المغاير بمفرداته المكانية، واختيار موضوع واحد هو من أجل المال.
أما فى مصر، فتطلق إدارة المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة محور التجارب النوعية، وهو استثمار لتجارب تولد من الفضاء المغاير، لكن أغلب هذه التجارب تعتمد على تكييف النص المسرحى وتطويعه للمكان وليس الإنطلاق من نص كتب خصيصًا للعرض بالفضاء المغاير.

 مسرح الشارع له القدرة على مد جسور التواصل والتفاعل بينهُ وبين الجمهور
فيما أوضح د بشار عليوى عن الفضاءات المغايرة قائلا: نذهبَ بالمسرحِ الى الناس حيثما يتواجدون تلكَ هى ماهية “مسرح الشارع” كمُمارسة وحضور وتأثير فى جمهور الفضاءات العامة والساحات والشوارع والمجال العمومى ككُل، ومن هُنا تأتى أهمية هذا المسرح الذى يُمثل جوهر العملية المسرحية برُمتها وأسمى أهدافها التى وجِدَتْ من أجلها ونعنى بها الإنسان.
وتابع: لقد وجدَ مسرح الشارع أخيراً اهتماما ملحوظاً فى عموم العالم العربي على صعيد العمل المؤسساتى والفرق الأهلية والجهود الفردية المُضنية للمُشتغلين فى هذا المسرح لما لهُ من أهمية كما أسلفنا لا بَلّ المهرجانات المسرحية الدولية فى البُلدان العربية قد تُنَبَهَتْ لمسرح الشارع فبادرتْ الى تضمين فعالياتها عدداً من عروضهِ واقامة الورش التخصصية حوله لكن الطريق ما يزال طويلا أمام العاملين فى المسرح لوضع موطأ قدم راسخة لهم فى المشهد المسرحى العربى. وتكمن أهمية مسرح الشارع فى أنهُ القدرة على مد جسور التواصل والتفاعل بينهُ وبين الجمهور، وبالتالى يستطيع أن يخلق مسرحاً دافئاً بوصفهِ مُعبراً عن قوة العلاقة التى تربط بين المُمثل والمُتفرج، حيثُ يُمكن أن يتكون من ممثل مسرحى واحد ومُتفرج واحد فى مساحة محدودة جداً، حيث يستطيع الممثل المسرحى أن يؤثر بشكل كبير فى المتفرجين من خلال اندماجهِ معهم واللعب معهم وقيادتهم فى الرحلات وخلق عنصر المُفاجأة من قبلهِ حينما يظهر فى أماكن غير مُتوقعة من قبلهم، وتشتمل عروض مسرح الشارع على المشاركة الجماهيرية من خلال اشتراك الجمهور فى الاستجابة الشفهية لما يطرحهُ العرض من قضايا بشكل أو بآخر, رُغمَ أن نوعية هذا الجمهور تختلف تبعاً لمكان العرض ووقت تقديمه وهذا ما يؤثر بشكل واضح على مدى استجابتهم لما يطرحه، فالجمهور الذى يتجمع وقت الغذاء يختلف عن ذاك المُتجمع فترة الظهيرة لأنهُ لا يمتلك نفس القدر من الوقت للمُشاهدة فضلا عن الفوارق الثقافية الموجودة لدى أفراد هذا الجمهور والتى تلعب دوراً فى هذه الاستجابة، التى تؤدى الى التفاعل الواضح بين المُتفرج وعُروض مسرح الشارع بوصفها تُمثل المسرح البديل القادر على تحقيق تأثير فى الجمهور الذى ينتمى الى شرائح المجتمع بوصفهِ يُمثل جمهور شارع مُتجمع عشوائياً حيثُ إن مجرد الرغبة فى تطوير فن يناسب العصر وفى غيبة أى دافع آخر تكفى لان تدفع بمسرحنا وهو مسرح عصر العلم الى الضواحى والشوارع حيث يفتح ذراعيه للجميع ويصبح فى متناول اولئك الذين يعيشون على القليل وينتجون الكثير، فالذهاب الى الجمهور هو ما يُميز عروض مسرح الشارع عن العروض التى تُقدم داخل المسرح المُغلق بوصفهِ يهدف الى التقرب منهُ من خلال تقديم تلك العروض فى المقاهى أو الذهاب الى القُرى وأماكن العمل من أجل التحام أكثر بالناس وتفعيل روابط التعايش والتواصل معهم والتعرف على مشاكلهم.

فى تجربة مسرح الكرنفال يتقاطع الفن مع الحياة
ومن منطلق مشروعه مؤسسة المدينة وعمله فى فضاءات مغايرة أشار المخرج أحمد صالح عن الفضاءات المغايرة قائلا: فى اللحظة التى تتقلص فيها المساحات العامة، وتزداد الأزمات الاجتماعية والسياسية تعقيدًا، لم يعد المسرح مجرد فن يُعرض داخل الجدران، بل صار ضرورة تمارس حضورها فى الشارع، فى الساحات، فى قلب الحياة. هذا ما تعلمته من رحلتى الشخصية، ومع «المدينة للفنون- تأسست عام 2000»، عبر أكثر من 15 سنة من العمل فى المسرح الاجتماعى. وتابع: “لأن الفضاءات التقليدية لم تعد تستوعب قضايا المجتمع المتغيرة. المسارح المغلقة صارت بعيدة عن الناس، وعن لغتهم، وعن مشكلاتهم اليومية. فى المقابل، الفضاءات المغايرة – كالشوارع، الأسواق، المدارس، حتى البيوت – فتحت أمامنا طرقًا جديدة للتواصل، ولإعادة تعريف الفن بوصفه أداة حوار، لا عرضًا أحادى الاتجاه.
تجربتنا فى “مسرح الكرنفال” بمصر والتى عرضت بإثنى عشر مدينة مصرية والمغرب وتونس وفلسطين، كانت مثالًا حيًا. فى ساحات الشوارع، تقاطع الفن مع الحياة، حين شارك الأهالى فى صناعة العرض، لا فقط مشاهدته. لم نكن نحتاج ديكورًا ولا مسرحًا تقليديًا. احتجنا فقط إلى شغف، ورؤية تؤمن أن الشارع ليس عقبة، بل فرصة
وأكمل قائلا: بالتأكيد لا يمكن للمحتوى المعتاد أن يخترق عتمة الواقع، أو يخلق دهشة فى زحام اليومى. كانت نصوصنا نابعة من الناس، لا مفروضة عليهم. فى حى “كوم الدكة”، لم نقدم عرضًا عن “زواج القاصرات” كما خططنا، بل عدلناه ليتناول أزمة المياه، لأن هذا ما شغل أهل الحى فعلًا.
وأضاف: “المسرح الاجتماعى فى الفضاءات البديلة، لا يعتمد على نص ثابت، بل على رؤية مرنة، وخيال يلتقط من اليومى، ويعيد تقديمه كفعل فنى ومجتمعى. وهذا ما يجعل تجربتنا فريدة؛ فهى لا تنقل تجارب مستوردة، بل تُصنع من القلب، من هنا.

فضاء مغاير أم مسرح مغاير؟
طرح الناقد د محمود سعيد وجهة نظره فى تجارب الفضاءات المغايرة فقال: «تتردد كثيرا لعبة الفضاء المغاير سواء مفتوحا أم مغلقا، وكأننا أمام اختراع جديد فى المسرح، فى حين لو عدنا للأصول والبدايات فى المسرح الأغريقى لوجدنا الفضاء المفتوح بكل ماتحمل الكلمة من معنى ومبنى فى ظل عروض مسرحية ومهرجانات تقوم وسط الطبيعة الجبلية فى حضن الجبل او حول المعابد أو فى مداخل القصور بشكل جعل من الأسطورة حياة تمارس وواقع يعاش بكل مفرداته المختلفة.
إذن نحن أمام لعبة قديمة متجددة ونداءات ليست مبتكرة بقدر ما هى خاضعة لرؤى جديدة أو فكر جديد أوتوظيف جديد خاضع للضرورة التكنولوجية أو ربما للضرورة المهرجانية فى سيل المهرجانات التى تقبع فيه البلاد العربية، وهى على أهميتها إلا أنها أنتجت لنا أحيانا مصطلحات مغلوطة، وأحدثت تداخلات متعمدة فى فن المسرح أربكت الموقف والصورة والمشهد بشكل ملموس، كلعبة مسرح الشارع وما يثار حوله من اتجاهات ومدارس وآراء ضخمت من شأنه، وما هو إلا وهم كبير إلا أنه منظم جيدا، وتم استغلاله من أجل ما يسمى بالسبوبة المسرحية فقط؛ وبالتالى لسنا فى حاجة لنص جديد يناسب الفضاء الجديد، فيكفى على سبيل المثال فقط أن نصوص شكسبير الخالده خضعت لكل الفنون مسرح وسينما وأوبرا وباليه، وكتب لها النجاح،اللعبة يا سادة يا كرام فى الصانع المخلص لا فى الفضاء المغاير، وهذا لا ينفى بكل تأكيد خضوع فن المسرح لكل مفردات التغير والابتكار لمجاراة الحاضر لا لمجاراة أهواء الحضور المهرجانى فقط.

 الحاجة لفضاء مغاير أصبح ضرورة ملحة
قال الدكتور طارق عمار الذى قدم تجربة مهمة فى بداية مشواره تجربة فى فضاء مغاير بعنوان “ثمن القمر” إخراج السيد فجل: «فى ظل التقلص المتزايد لعدد دور العرض المسرحى أصبح إيجاد فضاءات مغايرة يمكنها استقبال العروض المسرحية ضرورة ملحة لضمان استمرارية عجلة الإنتاج المسرحى وتقليص الآثار السلبية لأزمة ندرة دور العرض إلى أقصى حد ممكن وتابع: «ومن واقع التجربة فقد خضت العمل بعروض تعتمد على فضاءات غير تقليدية لأربع مرات، منها مرتان كان العرض يعتمد كليا على نص مكتوب خصيصا لمكان بعينه، وهما عرضا «ثمن القمر» والذى أخرجه الراحل الكبير السيد فجل عام 1997 و”باب السبيل» الذى قدمه المخرج الشاب أحمد عصام عام 2023م، ومن واقع التجربة فقد خضت العمل بعروض تعتمد على فضاءات غير تقليدية لأربع مرات منها مرتان كان العرض يعتمد كليا على نص مكتوب خصيصا لمكان بعينه، وهما عرضا ثمن القمر والذى أخرجه الراحل الكبير السيد فجل عام 1997 وباب السبيل الذى قدمه المخرج الشاب أحمد عصام عام ،2023 وأضاف عمار قائلا: «وفى تجربتى ثمن القمر وباب السبيل كان الاتكاء على المكان ومفرداته هو الاساس فى تقديم العرض وقد حقق ذلك تواصلا ممتازا بين الجمهور والحالة المسرحية المقدمة إلا أن ارتباط النص بمكان بعينه يحد من القدرة على تقديم النص فى مكان آخر برؤية أخرى، كما يعيق الى حد بعيد القدرة على تحريك العرض للمشاركة فى مهرجانات داخل أو خارج مصر، وتابع: «بينما فى حالة «يا عزيز عيني» و»توتة توتة» جاءت قدرة المخرج على التعامل مع الفضاء غير التقليدي؛ لتقديم العرض فى أعلى درجات الأهمية كنا أن النص ذاته يتمتع بقدر عال من المرونة ليقدم على علبة إيطالية أو فى فضاء مغاير حسب الحاجة، وهو ما يمنح النص ومن ثم العرض القدرة على الاستمرارية والتنافس فى مسابقات عديدة دون الحاجة إلى تعديلات جذرية فى العرض.

شبرا بخوم تجربة متفردة استمرت لمدة أربعين عاماً
أما المخرج الكبير أحمد إسماعيل فتحدث عن تجربته فى شبرا بخوم فى أحد حوارته عن هذه التجربة: «من خلال نظرتى العامة على مجمل أعمالى ووفق الوثائق والواقع الفعلى، أدور حول سؤال اساسى وهو هل يمكن أن ينتشر المسرح فى ربوع الوطن وفى قراه التى تبلغ 4800 قرية كبيرة 000 54 قرية صغيرة، بما تمثله مع المدن الأخرى وإذا تجاوزت عن مرحلة البداية الهواية بالمرحلة الإعدادية بقريتى ومسقط رأسى شبرا بخوم من أعمال محافظة المنوفية ومع فرقتها بالحفلات الموسمية وعن بداية تأسيس الفرقة لتكون ذات طابع مسرحى، وليست حفلات منوعات فقط يحتل فيها التمثيل بعض العروض الفكاهية القصيرة، وهذه البداية التأسيسية تزامنت مع إلتحاقى بالمعهد العالى للفنون المسرحية منذ عام 1971م حتى عام 1975م وتقديم عروض الفصل الواحد، واختتمنا هذه المرحلة بعرض “الزوبعة” للكاتب الكبير محمود دياب وتابع: “أدركت فى هذا الوقت مدى تعطش الجمهور للمسرح بشكل عام، وتساءلت عن نوع المسرح الذى يحتاج إليه الناس بشكل أكبر بعد ذلك سافرت إلى فرنسا، وحصلت على دبلومة عليا فى تخصصى، وانشغلت بالبحث عن نموذج مسرحى يمكن تطبيقه فى القرى، ودرست التجارب التى قدمتها بقريتى قبيل السفر، لأحدد بشكل دقيق طبيعة العمل الذى يتفاعل معه الجمهور هناك، وخصائص الجمهور فى القرى.
ووصلت إلى نتيجة، هى: «إن كنت تريد أن يتفاعل الجمهور مع مسرحيتك، لا بد من أن تدرك خصائصه الفنية والجمالية»، وحينها عرفت تحديدًا ما أريد، فجمهورنا فى مصر شعبى وتلقائى ويحب المشاركة فى العمل، ولم يعتد على الحائط الرابع الذى يفصل بينه وبين الممثلين، بعدما عدت من فرنسا جمعت أعضاء الفرقة القديمة، وحرصت على ضم عناصر جديدة، ثم بدأنا فى إجراء استقصاء لمعرفة المشاكل التى يمر بها أهالى القرى، ووصلنا لتشابكات كثيرة اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبدأنا فى محاولة ارتجال مشاهد تناقش هذه المشكلات، واستعنت بالحكايات التراثية والأغانى الشعبية فى كل قرية، وكنت أتولى مهمة «الدراماتورج»، أى تجميع المشاهد المرتجلة فى سياق درامى متماسك، وقدمنا مسرحية سهرة ريفية.
بعد ذلك شعرت بالحاجة للتعمق فى دراسة الثقافة الشعبية، فالتحقت بمعهد الفنون الشعبية وتعلمت من أستاذى الكبير الراحل عبدالحميد حواس، رحمه الله، أن الثقافة الحقيقية ليست تلك التى ندرسها فى الكتب، وأن الثقافة بمعناها الحقيقى أكثر اتساعًا من الكتب، وتعتبر الجمهور عنصرًا أساسيًا وليس مجرد وعاء نصب فيه أفكارنا الجمهور كائن حى، يجب أن نجد طريقة للتفاعل معه، وليس أن أنقل به مجرد نظريات، ظنًا منى بأننى وصى على الناس.. تبدأ العلاقة مع الجمهور بالتفاعل مع ثقافته الخاصة.. وقدمت ثلاثة أجزاء من «سهرة ريفية» على مدى 8 سنوات.
ببساطة، أرى أن وعى جمهورنا مصمم بحيث يخترق الحائط الرابع «الإيهام»، تلقائيًا، فتصالحنا مع ذلك وكسرنا هذا الحائط بالاتفاق مع الجمهور، فتحولت أعمالنا بعد ذلك إلى حوار فنى يدور بيننا وبين الجمهور، وأرى أن هذه هى الميزة الأساسية فى تجربتنا، وبنينا المسرح عام 1989، وحدث ذلك بعدما قدمنا عددًا من العروض التى جعلت جمهور القرية يعرف طبيعة عملنا، أى أننا حصلنا على ثقة الأهالى قبل البناء، وذلك بمشاركة الفنان التشكيلى يحيى حجى، الذى حرص على تصميم الفضاء المسرحى المناسب لبيئة القرية.
وكنت حريصًا على أن يتم الأمر بمشاركة أهل القرية، فكنا نبحث عمن يستطيع التبرع بجرار ووقود وخامات بناء أو يساعد فى عملية الإنشاء، وبذلك شعر الناس بالانتماء إلى هذا المكان، لأنهم أسهموا فى بنائه.
بعد ذلك ظهر تحدٍ آخر، وهو أن ثقافة أهالى القرية هى ثقافة الموالد، أى يمكن أن يفاجأ الفنان بحضور 20 ألف شخص، رغم أن المكان لا يتسع إلا لـ1000 فقط، لذا كان يجب أن نضع نظامًا لضبط الأمور، فالسور هناك من الخوص «اللى يزقه برجله يقع»، لذا كنا نرسل دعوات لعدد محدد من الناس، ونستهدف حضور رجل وامرأة معًا.
والضوابط كانت: «لا يحضر رجل دون أن يصطحب معه امرأة (زوجة أو ابنة)، ولا يسمح بالدخول بعد بداية العرض، ولا يسمح بالدخول فى يوم غير المحدد بالدعوة، ويخصص للأطفال مكان فى مقدمة المسرح حتى لا تحجب عنهم الرؤية».
وأضاف قائلا: عن المشاركة النسائية فى البداية كانت الممثلة الوحيدة فى الفرقة هى أختى الطالبة بالمرحلة الإعدادية، ثم انضمت زميلاتها، وكنا نستعين أحيانًا بممثلات محترفات من الثقافة الجماهيرية، وبعد فترة وثق فينا أهالى القرية، وشعروا بأن هذا المسرح يمثلهم.. رأوا فيه أنفسهم بشكل إيجابى، على عكس المدن، التى يرى الناس فيها أنفسهم بشكل سلبى.
كان من الضرورى كسر الصورة النمطية حول المسرح، لذا وضعنا ضوابط أخلاقية صارمة فى الفرقة كى يدرك الناس حرصنا على ذلك.. عرف الأهالى معنى كلمة مسرح، ومعنى كلمة فنان.
وحينما أعلنت تأسيس فرقة للأطفال، من مرحلة الصف الثالث الابتدائى حتى مرحلة الصف الثالث الثانوى، توافد أهالى القرية على منزلى، وطلبوا منى أن أسمح لبناتهم بالمشاركة فى فرقة الأطفال، وبعد مرور سنوات كبر الأطفال، وأصبحت لدينا ممثلات من أهالى القرية فى فرقة الكبار.
وبعد ذلك نجحنا فى ضم سيدات كبيرات للفرقة، وهناك عجوز تشارك معنا فى العروض.. وأؤكد أن هذه الثقة تكتسب بالاجتهاد والعمل على الأرض بإخلاص وعن تجربة شبرا بخوم أضاف: «لا أنكر أن هناك تجارب سبقتنا بالعمل فى القرى، مثل تجارب الفنانين: هناء عبدالفتاح فى دنشواى، وعباس أحمد فى بورسعيد، وعبدالعزيز مخيون، وفهمى الخولى.
ما يميز تجربة «شبرا بخوم» هى أنها استمرت لنحو 40 عامًا، وهذا ما لم تتمكن فرقة أخرى من تحقيقه، فى مصر أو فى العالم.. وهذا هو سر تميز الفرقة.
تطورت الفكرة بعد ذلك، وتحولت إلى مشروع «الإبداع المسرحى الجماعى فى القاهرة والمنوفية»، وجرى ضم قريتين من المنوفية و3 أحياء شعبية من القاهرة، خلال الفترة من 1984 حتى 1987، ثم قدم الزملاء تجارب أخرى على نفس النهج، مثل سيد فجل وبهائى الميرغنى، وحمل المشروع عنوان «مسرح الأماكن المفتوحة»، وتميزت التجربة فى قرية شما.
وصدر كتيب عن المشروع، بصياغة الكاتب الكبير رجائى الميرغنى، بعد عقد جلسات عمل معنا ليستجلى ما كنا نود إنجازه، وحكى عن واقع قرية شما وما يميزها عن القرى الأخرى واستطلاع ثقافتها الشعبية والمسرحية.

قدمت أكثر من خمس وعشرين تجربة فى فضاءات مغايرة وغير تقليدية.
المخرج اميل شوقى تحدث عن تجربته فى تقديم مسرح فى فضاء مغاير فقال: «عام 1979 عندما زار المخرج سمير العصفورى يوغسلافيا اكتشف أن هناك ما يعرف بمسرح القاعات فنقل عن ذلك قاعة 79 وهى تعد من الفضاءات المغايرة فما دام أنه ليس مسرح علبة إيطالية فهو مسرح مغاير، وتمت بعد ذلك أغلب أعمال مسرح الطليعة فى القاعة الشىء الثانى أن أغلب العروض التى تتم فى الهواء الطلق هو أيضا مسرح مغاير على سبيل المثال التجربة التى قدمها المخرج حسين جمعة بحديقة مختار ومسرح النيل وغيرها من تجارب خارج العلبة الإيطالية وعن تجاربه فى المسارح والفضاءات المغايرة أوضح قائلا: «فقدمت تجارب بقصر ثقافة الغورى ومدينة السلام فى سرادق وكذلك مدينة 15 مايو فى حديثة والوادى الجديد فى الجراج، وفى ساحل سليم فوق سطح قصر الثقافة، وفى أبوتيج فى حديقة الحيوان وفى الأقصر فى الجرنة ومسارح مفتوحة قدمت أكثر من خمسة وعشرين عرض فى مسارح مغايرة وأضاف: «نحن فى بحاجة للمسارح المغايرة فنحن فى بلد نعيش 9 أشهر فى فصل الصيف، ولدينا قاعات قليلة جداً للعروض التقليدية والتى تقدم فى مسرح العلبة الإيطالية فنحتاج أن نقدم عروضاً فى الهواء الطلق، والأمر لا يحتاج سوى بعض التقنيات الصوتية والضوئية، وهناك أماكن كثيرة يمكن أن يقدم بها مسرح فى القهاوى والساحات الشعبية كل هذه الأماكن تصلح لتقديم المسرح.


رنا رأفت