العدد 924 صدر بتاريخ 12مايو2025
الجوائز عادة تعطى ثقة للمبدع فى مشوار كتابته وتدفعه إلى مصادقة نصه الإبداعى لكنها أيضا تضعه تحت مجهر القلق والضغط النفسى وكلما كان النص قويا وثريا ربما يضعه ذلك فى المقدمة والقبول النقدى والشعبى حين يقدم على خشبة المسرح وهو الهدف الأسمى لكل مبدعى النصوص المسرحية. وقد حصل مؤخراً الكاتب عبدالله إسماعيل عبد الله على جائزة أفضل نص مسرحى عن نص «صرخات من الهاوية» بمهرجان أيام الشارقة المسرحى.
عبدالله إسماعيل عبدالله هو كاتب مسرحى ومهندس، تخرج فى جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا فى أستراليا، حيث بدأت رحلته الأدبية مع الشعر النبطى عام 2012، إذ شكّل الشعر نافذته الأولى على عالم الإبداع. فى عام 2015، انتقل إلى كتابة السيناريوهات للأفلام القصيرة التى تناولت قضايا الغربة، حيث عكست نصوصه تجارب المغتربين وتحدياتهم، وقد عُرضت هذه الأعمال فى الملتقيات الطلابية السنوية عندما كان نائب رئيس جمعية طلبة الإمارات فى ولاية كوينزلاند. شغفه بالمسرح دفعه عام 2018 لكتابة أول نص مسرحى، حيث شارك به فى مسابقة النصوص المسرحية التى تنظمها دائرة الثقافة بالشارقة، وكان ذلك بداية انطلاقه نحو الكتابة المسرحية بشكل أعمق. فى عام 2022، كتب نص «صرخات من الهاوية» للمشاركة فى المسابقة ذاتها، استمرت رحلته المسرحية حتى عام 2025، حيث شارك بالنص فى مهرجان أيام الشارقة المسرحية، ليلقى صدى واسعًا ويحقق نجاحًا كبيرًا، ما توّجه بفوزه بجائزة أفضل تأليف مسرحى عن هذا النص، مما رسّخ مكانته كأحد الأصوات المسرحية الصاعدة أجرينا معه هذا الحوار لنتعرف على تجربته فى كتابة نص «صرخات من الهاوية».
ككاتبٍ يُقدِّم عمله الأول، ما أبرز التحديات التى واجهتك فى نقل النص من الفكرة إلى الخشبة؟ وما الدروس التى ستأخذها معك فى مشاريعك المقبلة؟
التحدى الأكبر كان فى تحويل الفكرة المجردة إلى نبض حيّ على الخشبة. كنتُ أعيش النص فى مخيلتى، أسمع أصوات الشخصيات، وأرى المشاهد تتشكل، لكن عندما بدأتُ العمل المسرحى، أدركتُ أن الكتابة وحدها لا تكفى. المسرح ليس نصًا يُقرأ فقط، بل حركة، إيقاع، إحساس يُترجم فى كل تفصيلة بصرية وصوتية. كيف أجعل الجمهور يشعر بلهيب النار كما يشعر بها “ليث”؟ كيف أجعل “الأصوات” ليست مجرد كلمات، بل كيان حاضر على الخشبة؟ هذه الأسئلة كانت تحديات حقيقية. أما الدرس الأهم الذى خرجتُ به، فهو أن النص المسرحى لا يكتمل إلا حين يُعرض. هناك فرق بين ما كُتب على الورق وما يتجسد أمام الجمهور، وبين ما يتخيله الكاتب وما يمنحه الممثل والمخرج من أبعاد أخرى. تعلمتُ أن المسرح ليس ملكًا للكاتب وحده، بل هو ولادة مشتركة بين النص، والرؤية الإخراجية، وأداء الممثلين، وتفاعل الجمهور. فى مشاريعى القادمة، سأكتب بعين المخرج والممثل، وليس بعين الكاتب فقط، لأن المسرح ليس مجرد كلمات، بل حياة تُعاد صياغتها فى كل عرض جديد.
تتعمق المسرحية فى ثيمات مثل الذنب والكتمان وانهيار الضمير ما الذى دفعك لاستكشاف هذه المفاهيم المعقدة فى تجربتك الأولى؟ هل هناك سياق اجتماعى أو شخصى ألهمك؟
أحيانًا، وسط ضجيج الحياة وصخب الأصوات المتداخلة من حولنا، يولد صوتٌ خفيّ فى داخلنا، صوتٌ لا ينتمى إلى هذا العالم، بل ينبعث من أعماق النفس، هامسًا بحقائق لا نجرؤ على مواجهتها. شيئًا فشيئًا، يبدأ هذا الصوت فى الانفصال عن الواقع، يجرّنا بعيدًا عن الضوضاء الخارجية، ويضعنا أمام مرآةٍ لا تعكس إلا صراعاتنا الداخلية.. تلك التى نخوضها مع أنفسنا، مع ضمائرنا، مع كل ما حاولنا دفنه فى الظل. إنها رحلة نحو الداخل، حيث الضجيج الحقيقى ليس ما يدور حولنا، بل ذلك الصراع الهادئ الذى يصرخ بصمت، يهزّ أركان الروح، ويجبرنا على الإصغاء إليه، حتى ونحن نحاول الهروب. وأنا أؤمن أن المسرح مرآة للواقع، وأن أعظم المآسى تبدأ من القرارات الفردية الصامتة. استلهمتُ المسرحية من تساؤلات شخصية حول فكرة الذنب، ليس فقط كحالة فردية بل “مرض اجتماعي” نتواطأ جميعًا على تغذيته. الكتمان والانهيار الأخلاقى ليسا مجرد موضوعين دراميين، بل هما جزء من تركيبة حياتنا اليومية.
“النار” استخدمت كرمزٍ مركزى للعذاب الداخلى، والأصوات كتجسيد للضمير الجمعى. كيف توازن بين الرمزية والواقعية فى النص لتجنب الإسقاط المباشر، خاصةً فى مشهد كوابيس “ليث؟
المسرح هو فن المزج بين المرئى واللا مرئى، بين الواقع والحلم، بين ما هو محسوس وما هو متخيل. فى “صرخات من الهاوية”، لم تكن النار مجرد عنصر بصرى أو وسيلة للعقاب، بل كانت تمثيلًا للاحتراق النفسى، للندم الذى لا ينطفئ. حاولت أن أجعلها تتجاوز كونها صورة لتصبح إحساسًا يشعر به الجمهور، وكأن ألسنتها تشتعل فى داخلهم هم أيضًا. أما الأصوات، فلم تكن مجرد “تقنية”، بل كيانٌ له حضوره المتغير، فهى الضمير حينًا، والذاكرة حينًا، والمجهول حينًا آخر. كان التحدى الأكبر هو الحفاظ على تماسك النص بحيث لا تتحول الرمزية إلى خطاب مباشر، ولا تنفصل عن التجربة الإنسانية التى تعيشها الشخصيات. وفى مشاهد كوابيس “ليث”، استخدمت الرموز بحيث تظل غامضة لكنها محسوسة، بحيث يشعر بها المشاهد قبل أن يحاول تفسيرها، لأن المسرح فى جوهره ليس منصةً للإجابات، بل فضاءٌ للأسئلة التى تحترق دون أن تنطفئ.
يعتمد النص على إنزيحات زمنية مُتقَطعة بين الماضى والحاضر. كيف صممتَ بنية النص لضمان سلاسة الانتقال بين الأزمنة دون تشتيت المتفرج؟ وهل كانت هناك نُسخٌ أولية رُفضت قبل الوصول إلى الشكل النهائى؟
الزمن فى “صرخات من الهاوية” ليس مجرد إطار للأحداث، بل هو جزء من الصراع الدرامى ذاته. الشخصيات لا تعيش فى زمن خطى، بل تتداخل ذاكرتهم مع واقعهم، وتتنازعهم اللحظات القديمة كما لو أنها لم تنتهِ أبدًا. لذلك، كان من الضرورى أن تكون الانتقالات الزمنية ناعمة، أشبه بالموجات التى تسحب المتفرج دون أن يشعر بأنه قفز فجأة من زمن إلى آخر. ذهبت إلى فكرة “الزمن الدائري”، حيث الماضى ليس خلفنا تمامًا، بل يتسرب إلى حاضرنا بصور غير مكتملة، بأصواتٍ تقتحم الصمت، وبأحداث تتكرر وكأنها لم تجد نهايتها بعد. نعم كانت هناك نسخ أولية رفضت قبل الوصول الى الشكل النهائى وكنا أمام تحدى هو الحفاظ على تماسك البناء الدرامى للعمل.
مع وجود إرشادات نصية دقيقة حول الإضاءة وتقسيم الخشبة، كيف كان تفاعلك مع المخرج عبدالرحمن الملا؟ هل تركت له مساحة لتأويل النص، أم أن الرؤية البصرية كانت مُحددة مسبقًا؟
المخرج عبد الرحمن الملا كان شريكًا حقيقيًا فى ترجمة النص إلى عرض حيّ. صحيح أننى وضعت إرشادات بصرية دقيقة، لكننى كنت منفتحًا على رؤيته الإخراجية، خصوصًا فيما يتعلق بإيقاع الانتقالات البصرية والصوتية. بعض المشاهد كُتبت بأسلوب معيّن، لكن على الخشبة، اكتشفنا أن بعض التعديلات البسيطة أضافت طبقات جديدة من العمق. العمل مع مخرج بحجم الملا جعلنى أرى نصى بعيون جديدة
تُعد “سوار” شخصيةً مُتناقضة تجمع بين الحماية الأنانية والانهيار الأخلاقى. كيف صممتَ تطورها الدرامى لتبقى مُقنعة رغم قراراتها المثيرة للجدل؟ وهل رأيتَ فيها تجسيدًا لصراع المرأة مع السلطة الأبوية - سوار” ليست بطلة تقليدية، ولم أكتبها لتكون نموذجًا للخير أو الشر المطلق. أردتها أن تكون إنسانية، بكل ما تحمله الإنسانية من تناقضات. قراراتها ليست مبرّرة بالكامل، لكنها مفهومة. هى تحمى نفسها، لكنها تؤذى الآخرين، تهرب من الحقيقة، لكنها فى النهاية لا تستطيع الفرار منها. وهذا ما يجعلها شخصية درامية حقيقية، لأنها تتحرك بدوافع معقدة وليست مجرد انعكاس لمفهوم واحد أما فيما يخص صراعها مع السلطة الأبوية، فهو يظهر بطريقة غير مباشرة، ليس فقط فى مواجهة الرجال من حولها، بل فى صراعها مع القواعد الأخلاقية والاجتماعية التى تم فرضها عليها. سوار تعيش بين وهم التحكم بمصيرها، وحقيقة أنها دائمًا محكومة باختيارات الماضى، سواء قراراتها أو قرارات الآخرين التى أثّرت فى حياتها. ربما لهذا السبب، تبدو سوار وكأنها تجسيد لصراع المرأة مع القيود التى لا تُرى، لكنها تتحكم بها فى كل لحظة. إنها ليست ضحية، لكنها أيضًا ليست بريئة تمامًا. وهذا ما يجعلها تظل حيّة فى ذهن المتلقى، حتى بعد انتهاء المسرحية النهاية المفتوحة للمسرحية تترك المتفرج مع تساؤلات حول العدالة والخلاص.
هل تعتقد أن المسرح يجب أن يُقدِّم إجابات، أم أن دوره يكمن فى إثارة الأسئلة المُقلقة؟
المسرح كائن حى يتنفس بين الكلمات والصمت. بإمكانه أن يكون مرآة تعكس الحقيقة، أو متاهة تفتح أبواب الأسئلة دون أن تقدم مفتاحًا واحدًا. من وجهة نظرى، لا شيء يُحاصر الإنسان أكثر من إجابة جاهزة، ولا شيء يحرّره أكثر من سؤالٍ لم يُحسم بعد. لذلك، أؤمن أن المسرح عليه أن يكون مزيجًا بين الاثنين، يمنحنا طرف الخيط لكنه يتركنا نبحث عن بقية الحكاية بأنفسنا.
النهاية المفتوحة فى صرخات من الهاوية لم تأتِ من باب الغموض فقط، بل لأنها تعكس واقعًا يعيش فيه الإنسان عالقًا بين الذنب والخلاص، بين الحقيقة والوهم، وبين صوت الضمير وصمت الخوف. أردت أن يخرج المشاهد وهو يتساءل: من كان المخطئ الحقيقي؟ هل هناك خلاص بعد فوات الأوان؟ أم أن كل إنسان محكوم بمصيره؟ هذه الأسئلة، حين تبقى فى ذهن المتلقى، تجعله شريكًا فى إعادة كتابة النهاية، بطريقته الخاصة. وهذا، برأيى، هو أعظم ما يقدمه المسرح.
وماذا عن شعورك بسبب الفوز بجائزة أيام الشارقة فى أول نص يكتبه، وماذا تمثل الجائزة؟
تعجز الحروف أن تحمل كل ما فى القلب من فرح، ويقف الكلام حائراً أمام فيض المشاعر التى تغمرنى، الفوز بهذه الجائزة كان أشبه بلحظة ميلاد ثانية، كحلمٍ صار واقعًا ملموسًا. أيام الشارقة المسرحية ليست مجرد منصة للمنافسة، بل مساحة تُقدّس الفكرة، تُكرّم التجريب، وتعطى النصوص فرصةً للحياة خارج الورق. أن يتم الاعتراف بعملى الأول فى هذا الإطار، يعنى لى الكثير، لكنه فى الوقت ذاته مسؤولية كبيرة. لأن الفوز لا يعنى الوصول، بل بداية رحلة أطول، تتطلب أن أكتب بروح أكثر تحديًا، وبحثًا أعمق عن نصوصٍ تهزّ الروح قبل أن تصعد إلى الخشب .
ما مشاريعك المستقبلية؟
بعد هذه التجربة، أشعر بأننى أصبحتُ أكثر شغفًا بالمسرح، وأكثر وعيًا بقوته فى ملامسة الوجدان. أعمل حاليًا على نص جديد، مختلف تمامًا عن “صرخات من الهاوية”، لكنه يحتفظ بروحى ككاتب.
هل تود أن بتعث برسالة شكر لأحد؟
أولا، أرفع أسمى آيات الشكر والعرفان إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، هذا الرجل الذى آمن بأن المسرح ليس مجرد منصة، بل منارة تضيء الدروب، وأفق يحمل الأرواح إلى عوالم من الإبداع والجمال. بدعمه، صار للفن جناحان، وللثقافة نبض لا يخفت.
أما اليد التى أمسكت بيدى نحو درب الحرف، والنبض الذى أوقد فى داخلى شغف الكتابة، فهو والدى الكاتب إسماعيل عبدالله. وإلى قلب أمى، التى لم تكن مجرد داعمة، بل كانت مرآتى التى تعكس أجمل ما فى روحى، شكراً بحجم الكون وأكبر.
كابن للكاتب المسرحى إسماعيل عبدالله، كيف أثَّر إرث والدك فى اختيارك للكتابة المسرحية؟ هل هناك قيم أو تقنيات ورثتها عنه، أم سعيتَ لخلق بصمة مُختلفة تمامًا؟
والدى إسماعيل عبدالله حفظه الله وأطال فى عمره، هو قدوتى، ملهمى ومعلمى، فهو الذى علّمنى كيف تكون الكلمة روحاً، وكيف يكون الحبر دماً يسرى فى العروق. وهو كان ولا يزال الهامى الأول، وهو البداية والامتداد. وهو مدرسة حقيقية فى الدراما العربية. لكن رغم هذا التأثير العميق، كنت مدركًا منذ البداية أن عليّ أن أجد صوتى الخاص. ورثت عنه شاعريته، احترام البناء الدرامى، وجرأته، لكننى سعيت فى “صرخات من الهاوية” لتقديم بصمة مختلفة. بدأتُ طريقى فى الكتابة من بوابة الشعر، كنتُ أتنفسه كأنفاسى الأولى، وأكتبه كما لو أننى أنسج ذاتى بين كلماته. لكن شيئًا ما فى عمق نصوص والدى المسرحية كان ينادينى، كانت هناك أصواتٌ خلف الكلمات، جعلتنى نصوصه أشعرُ وكأن المسرح هو الامتداد الطبيعى لهذا النبض الشعرى، حيث تتحول المشاعر من صورٍ مكتوبة إلى كياناتٍ تنبض بالحياة أمام الجمهور.