«لعبة النهاية» عزلة وانتظار بلا أفق

«لعبة النهاية»   عزلة وانتظار بلا أفق

العدد 924 صدر بتاريخ 12مايو2025

على خشبة مسرح الطليعة، يعيد عرض «لعبة النهاية» لصامويل بيكيت الحياة إلى نصه العبثى الأيقونى برؤية مصرية معاصرة، حيث يمتزج القلق الوجودى الكونى مع خصوصية الواقع المحلى، ليحمل الممثلون تجاربهم الشخصية فى تفاصيل الأداء، وتُترجم العبثية الوجودية إلى حركات وأصوات تلامس عمق التناقضات الإنسانية.
فى غرفة مغلقة:
المسرحية تدور فى فضاء مغلق، حيث تنعدم الحياة الخارجية. داخل غرفة رمادية ضيقة مع نافذتين تطلان على فراغ بلا أمل، تنبعث الحكاية عبر مشهد يتسلل فيه العجز إلى الجسد والروح على حد سواء. لا تتحرك الشخصيات بحرية، فكل منهم محاصر بعالمه: «كلوف» لا يستطيع الجلوس، «هام» لا ينهض، و»ناغ» و»نيل» محبوسان داخل صندوقى قمامة. فى هذا العالم، ليس هناك انفجار مروع، بل تعفن بطيء ومؤلم للبقاء.
فى هذه الغرفة، لا تكتمل الحياة؛ إنما يعكس كل عنصر فى الديكور هذا العجز. ليست ثمة تحركات كبيرة أو مفاجئة، بل مواقف ثابتة لأشخاص محبوسين فى دوائرهم المفرغة. مسرح بيكيت يتعامل مع الموت كفكرة مجردة، لا كحدث مفاجئ، بل كواقع يومى يعيشه الناس فى صمت. هذا الفضاء اللامتناهى يعكس حالة الشخصيات التى لا تملك القدرة على الحركة أو الخروج من مكانها. هنا، نلمح تشابهًا مع واقعنا المعاصر حيث يشعر الكثيرون بأنهم محاصرون فى دوائر لا نهائية من الرتابة والانتظار.
الصمت الذى ينطق بالحرب:
كتبت المسرحية فى خمسينيات القرن الماضى فى ظل تهديدات الحرب النووية، مما يجعلها شهادة عن نهاية العالم بصمت. “لعبة النهاية” لا تصرخ بل تهمس بأسى: “هكذا انتهى كل شيء”. النتيجة ليست موتًا فجائيًا، بل سقوطًا هادئًا فى هاوية العدم. الكتابة البيكيتيّة هى شهادة على العجز، على صمت الإنسان أمام قدره الذى لا مفر منه، وعلى عبثية وجوده فى عالم مليء بالوهن. السخرية فى النص تنبع من الوعى التام بأن الشخصيات تتوقع الفناء، ومع ذلك، لا يبذلون أى جهد للخروج من حالة الركود التى يعانون منها.
وبالنسبة لجمهور اليوم، تنبع أهمية المسرحية من قدرتها على نقل هذا الشعور بالعجز. فى زمن الحروب والمشاعر المدمرّة التى لا تزال تضغط على شعوب عديدة، تصبح هذه المسرحية أكثر إلحاحًا من أى وقت مضى. يبدو النص وكأنه يواكب واقعنا المعاصر، حيث نشهد تجارب إنسانية مشابهة: أفراد يشعرون بالعجز التام تجاه ما يحدث فى محيطهم.
التمثيل وكشف طبقات النفس البشرية:
كان اختيار الممثلين فى هذا العرض بالغ الأهمية، وقد أثبت المخرج سعيد قابيل حنكته فى تحديد الشخصيات التى تستطيع أن تجسد طبقات النفس البشرية وتتناسب مع أبعاد النص العبثى. كل ممثل أضاف بعدًا جديدًا للعرض، وعبر أدائه نجح فى خلق توازن دقيق بين الهزل والمأساة، وبين التمرد والاستسلام.
د. محمود زكي: صوت يتألم داخل جسد مُنهك
أداؤه لشخصية «هام» كان متقنًا من الناحية النفسية والجسدية. فى البداية، يبرز د. محمود زكى كشخصية مُكبلة داخل جسد يعانى من الألم والضعف. ورغم أن «هام» هو شخصية غير قادرة على الحركة بشكل كامل، إلا أن زكى نجح فى استحضار بعد داخلى عميق يتناغم مع حالة العجز الجسدى، حيث كان صوت «هام» العميق قادرًا على نقل معاناة الشخصية، مما أضاف بعدًا إنسانيًا فريدًا للشخصية. التباين بين الصوت الهادئ والموجع والحركات المحدودة الجسدية خلق تباينًا فى الشخصية، مما جعل «هام» يحتفظ بجاذبيته رغم عجزه. هذه الطبقات النفسية المعقدة فى أدائه جعلت المشاهد يتفاعل مع الشخصية، وليس فقط مع مظهرها المادى.
محمد صلاح: اشتياق ممثل غاب عن الأضواء
فى أداء محمد صلاح لدور «كلوف»، هناك نوع من الاشتياق للمسرح والمسرحيين. «كلوف» هو شخصية محاصرة، ولا تستطيع الخروج من دائرة العجز التى تحيط بها. صلاح، الذى كان نجمًا فى الجامعة، يعود بعد فترة من الغياب ليظهر على خشبة المسرح كما لو أنه يسترد شغفه المفقود. فى هذا العرض، لا يقتصر أداؤه على تمثيل الشخصية، بل يبدو وكأن صلاح يعبر عن حالة الإحباط التى يشعر بها المسرحيون الذين تم إهمالهم أو إبعادهم عن الأضواء. تصاعد أداؤه عبر المسرحية، حيث عكست حركاته ونبراته الصوتية جوعه للظهور على خشبة المسرح، ولإثبات أنه لم يفقد ما كانت له من موهبة. هذه العودة إلى المسرح هى بمثابة استرداد للذات، ولحظة تجسد صراع كل ممثل بين النجاح والفشل.
لمياء جعفر ومحمد الريس: خفة الظل فى عبثية العيش
لمياء جعفر ومحمد الريس، اللذان جسدا شخصيتى «ناغ» و»نيل»، استطاعا أن يظهرا فى أداءهما تناقضًا مثيرًا، حيث كانا يحملان خفة الظل وسط بحر من المعاناة والعبث. فى العرض، تجنبوا الوقوع فى فخ الكوميديا المباشرة، بل تركا للسخرية أن تتسلل عبر مفاصل الألم، مما خلق تفاعلًا غريبًا بين الضحك والدموع. فشخصيات «ناغ» و»نيل» تعيش فى حالة من الركود، ورغم ذلك يظهران تفاعلات تكشف عن رغبة غير معلنة فى الهروب من هذا الواقع البائس. جعفر والريس قدما أداءً يوازن بين اللامبالاة والتمرد، ونجحا فى تحويل الشخصيات إلى أكثر من مجرد دمى عبثية، بل إلى شخصيات تنبض بالحياة.
الديكور: فضاء رمادى يعكس العدم:
إحدى أروع سمات العرض كانت الديكورات التى اختارها المخرج لتسهم فى تجسيد النص. الديكور كان بسيطًا، لكنه معبر للغاية. غرفة ضيقة بأرضية رمادية وحائط غير مكتمل يعكس حالة الانهيار الداخلى للشخصيات. النوافذ تطل على الفراغ، ما يعكس العزلة التامة التى يعيشها كل من “كلوف”، “هام”، “ناغ” و”نيل”. لم تكن هناك تفاصيل مبالغ فيها أو زينة فائضة، بل كان كل عنصر فى المشهد يعبر عن حالة من الضياع والانتظار. الأثاث المتناثر وصناديق القمامة أضفى على المسرح شعورًا بأن هذا المكان هو آخر ما تبقى من عالم مفقود. هذه البساطة الظاهرة فى الديكور كانت خفية فى قدرتها على نقل معاناة الشخصيات، فقد كانت صمّاء وقاسية كما هى حياتهم.
إضاءة وظلال تُبرز العدم:
أما الإضاءة، فكانت واحدة من الأدوات التى ساعدت فى نقل الشعور بالعزلة، ففى معظم مشاهد المسرحية كانت الإضاءة خافتة، مع ظلال تندمج مع الحوائط الرمادية، مما جعل الشخصيات تظهر وكأنها محاصرة فى هذا النفق المظلم. الإضاءة كانت متقشفّة، لا تجذب الأنظار إلى تفاصيل غير ضرورية، بل كان التركيز دائمًا على الأفراد، وحركاتهم البطيئة، وكأنهم غارقون فى انتظار ما لا يأتى.
رؤية مبدعة: كيف ترجم المخرج العبث إلى تفاصيل حية
المخرج سعيد قابيل قدّم رؤية فنية متكاملة لهذه المسرحية العبثية، عبر تحويل النص إلى تجربة حية وغنية. لم يقتصر قابيل على نقل النص البيكيتى كما هو، بل قام بتفكيكه وإعادة تجميعه بما يتناسب مع الواقع المحلى، دون أن يفقد الروح الأصلية للنص. عبقرية المخرج تجلت فى قدرته على التلاعب بالزمان والمكان، وجعل المسرحية تتنفس وتعيش. استطاع أن يعبر عن العبث والعدمية بقوة، من خلال توجيه الممثلين وتوظيف الديكور والإضاءة.
فى النهاية، “لعبة النهاية” هى تجربة مسرحية غنية، تحفز المشاهد على التفكير فى معنى الحياة والوجود فى عالم يسوده الفوضى. عبثية العرض تلامس واقعنا المعاصر، حيث الأمل فى المستقبل أصبح ضبابيًا والانتظار أصبح هو المخرج الوحيد من واقع مرير.


نسرين نور