فن التمثيل باعتباره عملية استفسار فينومينولوجى(1)

فن التمثيل   باعتباره عملية استفسار فينومينولوجى(1)

العدد 924 صدر بتاريخ 12مايو2025

 طوال مسيرتى المهنية كمخرج وممثل ومدرس تمثيل ومؤلف، كنت “أمارس” الفينومينولوجيا، أى السماح للفينومينولوجيا بإعلامى بما أمارسه وكيف أكتب عن هذه العمليات. أستخدم علم الفينومينولوجيا جنبًا إلى جنب مع فرع واحد من العلوم الادراكية cognitive science المعروفة باسم نظرية الأنساق الدينامية dynamic systems theory كعملية مفتوحة للتفكير فى كيفية مواجهتنا ووجودنا فى العوالم الحية/المعاشة لوعينا المتجسد فى “الحياة”، وفى الاستوديو، وعلى المسرح. فى هذا الكتاب، أستكشف طبيعة وعينا المتجسد فى “الأستوديو” كموقع للاستكشاف الفلسفى - وهو الموقع الذى يوفر فيه تدريب وممارسات الممثل إمكانية “ممارسة” الفلسفة “فى الجسد” على أرضية الاستوديو.
فى الاستوديو.. هنا وكيف.. تبدأ فى الاستماع.. والاتصال
  ربما يبدأ عمل الممثل وينتهى فى الصمت.. فى “لا شيء”. عندما لا نتحدث نستمع، وربما نبدأ فى الاستماع.. “لا شيء” هو “كل شيء”. قال صمويل بيكيت “الكتابة قادتنى إلى الصمت” وكتب جورج شتاينر فى اللغة والصمت، “من الصعب التحدث عن [الأفعال المتأصلة فى الصمت]، فكيف يمكن للكلام أن ينقل بشكل عادل شكل وحيوية الصمت؟”.
“وقفة: فى صمت، انتباه، تنفس، استماع»
من ذلك المكان “الفراغ المظلم”: بين الغياب والحضور
 تخيل: «ضوء خافت منتشر». تقف متحدثة «بعيدًا عن منتصف المسرح على يسار الجمهور” بشعر أبيض طويل، وقميص نوم أبيض، وجوارب بيضاء. وعلى بعد مترين إلى يسارها على نفس المستوى على المسرح، “مصباح عادى، كرة بيضاء بحجم الجمجمة” - ينير ضوءه الخافت المنتشر المتحدث. وفى أقصى اليمين على نفس المستوى، بالكاد يمكن رؤيته - قائمة سرير من الخشب الأبيض. يضاء المصباح تدريجيًا بحيث يبرز البياض الصارخ للمتحدث وقدم السرير الخشبى على خلفية الفراغ المظلم لبقية مساحة المسرح - ذلك “الكُل المظلم”، أو “الأسود وراءه”، أو “الحجاب الأسود”. فى هذا الفراغ، هذا الغياب، هذا الصمت، المتحدث، الذى يظل ساكنًا ظاهريًا يستحضر حياة بين “الولادة” و”الموت”:
كان الميلاد موته. مرة أخرى. الكلمات قليلة. الموت أيضًا. كان الميلاد موته. ابتسامة مروعة منذ ذلك الحين. فوق الغطاء قادمًا. فى المهد والسرير. فى أول فشل ذريع. مع أول ترنح. من الأم إلى المربية والعودة. طوال الطريق. يتنقل ذهابًا وإيابًا. ابتسامة مروعة للغاية. من جنازة إلى جنازة. إلى الآن. هذه الليلة. ملياران ونصف المليار ثانية. مرة أخرى. ملياران ونصف المليار ثانية. من الصعب تصديق أنها قليلة جدًا. من جنازة إلى جنازة. جنازات.. قال تقريبًا عن أحبائه. ( بيكيت 1985-265)
إن مسرحية «جزء من مونولوج A piece of monologue” لبيكيت يجب أن تُقال باستمرار “دون لون”، كما تصفها بيلى وايتلو، أى دون النطاق الواسع من التدرجات الصوتية الشائعة فى الأفلام والتلفزيون والتمثيل الواقعى للشخصيات. إن التدفق المتواصل للكلمات ليس صوت المتحدث اليومى بل هو صوت الوعى المتجسد أثناء العمل. إنه يلعب جدليًا بالزمن، ويتحدث فى لحظة واحدة من الخارج كمراقب - “الولادة كانت موته” - ثم من الداخل، فى هذه اللحظة - “الآن. هذه الليلة”. يصف المتحدث الغرفة (المتخيلة) التى يقف فيها، الآن [على المسرح]، بينما يستحضر “الغرفة” إلى الوجود، وكذلك الماضى والحاضر وما لم يأت بعد:
فى الغرفة يزداد الظلام. حتى ضوء خافت من المصباح العادى. تحول الفتيل إلى ضوء خافت. والآن. هذه الليلة. مستيقظًا عند حلول الظلام. كل ليلة. ضوء خافت فى الغرفة. من مصدر غير معروف. لا يوجد ضوء من النافذة. لا. لا يوجد ضوء تقريبًا. لا يوجد شيء اسمه لا شيء. يتحسس النافذة ويحدق بها. يقف هناك يحدق بها. لا يزال ستوك يحدق بها. لا يوجد شيء يتحرك فى ذلك الفضاء الأسود الشاسع.
وكما قال بيكيت نفسه عن عمل جيمس جويس، إن قلقه على النمط والشكل والتفاصيل يجعل العمل «ليس عن شيء ما.. [بل] هو الشيء نفسه». فيصبح الشكل هو المحتوى؛ والمحتوى هو الشكل. ولا يمكن لـ «ميلاد» المتحدث أن يصبح موته إلا حتمًا. اذ لا ينصب اهتمام بيكيت على «الموت كحدث» بل على «الموت كعملية». ولا توجد عملية الموت فى أى مكان أكثر وضوحًا من اللغة نفسها. فالكلمات التى تولد فى الفعل المادى للتحدث تموت أثناء نطقها.
يقف هناك ينظر إلى ما هو أبعد من ذلك منتظرًا الكلمة الأولى. تتجمع فى فمه. وتولد. يفرق الشفتان ويضع اللسان بينهما. طرف اللسان. يشعر بلمسة ناعمة للسان على الشفتين. من الشفتين على اللسان.
يقف الممثل على خشبة المسرح أمامنا، “يحدق فيما وراءه” بينما “ينتظر الكلمة الأولى” - الشيء نفسه. إنه يشعر “بشيء” يتجمع “فى فمه”. إنه يشكل فمه/لسانه/شفتيه بينما ينطق بصوته: “ انها الولادة..”. فى الوضع الأمثل، يكون الممثل حاضرًا تمامًا ويهتم بالتجسيد اللمسي/الحسى لتفريق “شفتيه” ودفع “لسانه بينهما”.. يستشعر “طرف اللسان” ويشعر “بلمسة اللسان الناعمة على الشفتين. الشفتان على اللسان”. فى تلك العملية من تجسيد الفعل والاهتمام به، والملمس، والشكل، والصوت لـ “الولادة..” يولد ويتأثر بصوت هذه “الكلمة الأولى” - “الشيء نفسه” - الذى يفتح المسرحية، ويبدأ “كل شيء” (وقع الأقدام بيكيت، 1984: 241).
  يجسد نص الأداء على خشبة المسرح فى مسرحية بيكيت وصفًا تفصيليًا ودقيقًا ظاهريًا لعملية الممثل الفعلية المتمثلة فى التحدث/استحضار الوعى المتجسد نفسه إلى الوجود. وفى التعبير عن الكلمة الأولى، يلد الممثل اللغة - “الذات” وبالتالى الموت نفسه.
 وأخيرا يقف المتحدث
وهو يحدق إلى ما وراء ذلك الحجاب الأسود، والشفاه ترتعش عند سماع كلمات نصف مسموعة. يعالج أمورا أخرى. محاولة لمعالجة أمور أخرى. حتى فى نصف السماع لا توجد أمور أخرى. لم تكن هناك أمور أخرى قط. ولم تكن هناك مسألتان قط. بل لم تكن هناك سوى مسألة واحدة. الموتى والراحلون. المحتضرون والراحلون. من البداية.
مثلما تتجمع كلمة «الولادة» فى الفم لكى تولد، ثم «تموت»، كذلك الأمر مع الضوء والبصر. ففى اللحظة التى يُضاء فيها شيء ما، أو يُذكَر، أو يُرى، فإنه «يتلاشى»، ويختفى «مرة تلو الأخرى». وقبل ثلاثين ثانية من انتهاء المتحدث من خطابه، «يبدأ ضوء المصباح فى الاختفاء» حتى ينطفئ. عشر ثوانٍ من الظلام الكامل قبل “الستار”. كل شيء، مرة أخرى، فى الظلام، “رحل وحده”.
 “الحجاب الأسود”، “الفضاء الأسود” - ذلك المكان من الغياب، الذى استُحضِر ليكون “حاضرًا” على خشبة المسرح. فهل يمكننا، ربما، فى هذا العالم المكانى الزمانى المتجسد بين الحضور والغياب، بين “ما هو” و”ما ليس” - هذا المجال الحدي/والتجربة الحدية liminal/liminoid بين المرئى واللا مرئى - أن نبدأ فى استكشاف “عالم حياة” الممثل - فى تلك المساحة بينهما، على حافة الغياب؟
الوعى المتجسد: تعلم الإصغاء.. الانتباه
  فى تلك المساحة الفاصلة، كيف يتعلم الممثل “الاستماع”.. والانتباه.. والبدء فى الاستماع؟ لنتأمل الممارسة المجسدة للخط: فى الثقافات الآسيوية الشرقية، يُفترض عمومًا أن الرسام لا “يصور” منظرًا طبيعيًا، بل إن تشي/كى - قوة الحياة المنشطة (“التنفس”) - هى التى تحرك الرسام أو فرشاة الخطاط.() لا يحرك الخطاط الفرشاة، بل يمكن القول إنه يستمع إلى الفرشاة فى اللحظة التى تنشأ فيها « طاقة الحياة المتبادلة «ki”. يجب أن يتعلم الفنان الدخول فى حالة من الاستقبال التى توفرها الفرشاة. يذكر نوجوتشى هيرويوكى كيف:
يقول الخطاط أن «الفرشاة تجري»، بينما يزعم النجار أن «الطائرة تتقدم». هذه التعبيرات، التى لا يكون فيها الشخص هو الموضوع أبدًا، تصف العمل الذى تم إنجازه.. تلقائيًا.
الشخص/الأنا ليس هو الموضوع ولكن الموضوع هو وسيلة النقل “للحركة الداخلية”، التى تحركها طاقة الحياة (كي/تشي).
  ومثل فن الخط، من الأفضل النظر إلى التمثيل باعتباره ظاهرة وعملية. إن ممارساتنا فى الأستوديو وكيفية تفكيرنا وتحدثنا عن التمثيل تشكل كيفية عيشنا وتجربتنا لـ “وعينا المتجسد” أثناء التمثيل، أى كيف نواجه عالم الأداء “المعاش/الحي” من خلال عمليات الاهتمام والوعى الحسى والتخيل والتذكر والتأثر به.
 ولنتأمل بعداً واحداً من أبعاد وعينا المتجسد، وهو أيضاً بعد من أبعاد حواسنا: انه وعينا السمعى. ولنتأمل الفعل الإيطالى ascoltare: الذى لا يعنى مجرد الاستماع، بل الانتباه إلى.. ويعرّف عالم الأعصاب الإدراكى جيمس أوستن الانتباه بأنه “وعى ممتد نحو شيء ما. يمتد الانتباه إلى ما هو أبعد من ذلك”.
  فى أداء “جزء من مونولوج” لبيكيت، عندما ينتبه الممثل حركيًا وبوعى إلى ملمس/لمسة نطق كلمة مثل “الولادة” عندما نفرق بين “الشفتين” و”ندفع اللسان بينهما”، و”يشعر بلمسة ناعمة للسان على الشفتين. من الشفاه على اللسان” - فإن المرء يأخذ الوقت الكافى للتأمل فى ما ينتبه إليه. يأخذ الممثل الوقت الكافى للانتباه وفتح وعيه للمس كلمات بيكيت حرفيًا – ليس قولها، بل بالأحرى - إقامة علاقة حركية/محسوسة بالتالى.
نقاط الانطلاق: الجزء (1)
  بعد أن يضبط نفسه من خلال إرشادات خطاط ماهر، يتعلم الخطاط الطموح تدريجيًا “الاستماع” إلى الفرشاة. فكيف يتعلم الممثل “الاستماع”؟ الانتباه إلى.. ما قد يكون على وشك الحدوث.. إلى.. ما قد يقال.. وما يُقال.. وما قيل.
  يمكن اعتبار عمليات تدريب الممثل والتمثيل نفسه بمثابة مسارات إلى الوعى المتجسد الذى يضبط الانتباه والوعى الحسى المفتوح داخل البنية التى تقدمها دراماتورجيات محددة. وبالنسبة للمخرجين ومعلمى التمثيل، من المهم بشكل خاص فهم طبيعة الوعى المتجسد فى عمل الممثل، والتأمل فيها، والقدرة على التواصل بشأنها، أى كيف ينتبه الممثل، ويصبح واعيًا حسيًا/حركيًا، ويتخيل، وما إلى ذلك.
  إن الاهتمام بالوعى المتجسد وعمليات “الاهتمام” ليسا بالأمر الجديد. فعلى الرغم من أن المؤسس المشارك لمسرح النو “زيامى Zeami” اليابانى (هادا نو موتوكيو، 1363-1443)،والممثل/المخرج/المعلم الروسى كونستانتين ستانيسلافسكى (1863-1938)، والمخرج المسرحى البولندى جيرزى جروتوفسكى (1933-1999) يفصل بينهما قرون ومجموعات مختلفة تمامًا من الافتراضات الثقافية والفلسفية والعلمية، إلا أن كل منهم ركز بطريقته الخاصة على الحالات النشطة/التجريبية التى تشكل الوعى المتجسد.
 كان زيامى ممثلا/مؤديًا عظيمًا، وكاتبًا مسرحيًا مشهورًا، ومنظرًا للتمثيل غارقًا فى الفروق الدقيقة للنظريات الشعرية والجمالية فى عصره، ومديرًا ماهرًا لشركة تمثيل، ومعلمًا ألف 21 أطروحة متطورة للغاية عن التمثيل وكتابة المسرحيات. وتصف شيلى كوين أطروحات زيامى بأنها “ظاهرة شاملة ومفصلة للمسرح مستوحاة من حياة من الممارسة الفنية”.
  يناقش كتاب زيامى “ كيوى Kyui “ (الدليل التربوى لمعلمى التمثيل) كيف يجب أن يستحوذ أداء الممثل على انتباه الجمهور من خلال تحقيق “وعى مفتوح ومتبصر وضع جانبًا الوظائف النقدية من أجل التجربة المباشرة” - حالة “عدم العقل” (mushin) حيث “سيتم إخفاء عقلك المركّز حتى عن نفسك، وبالتالى ربط كل ما يأتى قبل أو بعد هذه الفواصل من “عدم القيام بأى شيء”.
  وللوصول إلى هذه الحالة البارعة من الوعى المتجسد، يجب على ممثل النو أن يخضع لتدريب نفسى جسدى مستمر ومستمر (كيكو keiko) تحت إشراف معلم ماهر بحيث يتم تنمية الانتباه والوعى تدريجيًا (شوجيو shugyo). ومع مرور الوقت، يحدث تغيير أو تحسين تدريجى فى العلاقة بين الجسم والعقل والتى ستكون مختلفة عن العلاقة الجسدية العقلية اليومية المعيارية التى كانت موجودة قبل التدريب. فيتغير وعى المرء وانتباهه وإدراكه من العادى إلى غير العادى داخل ممارسته الفنية من خلال التدريب النفسى الجسدى.
  كما تناول ستانيسلافسكى التمثيل باعتباره ظاهرة وعملية فى كتابه الضخم “عمل الممثل An Actor›s Work”. ركز الجزء الأول على “التجربة” والجزء الثانى على “التجسيد” (2008). كان اهتمام ستانيسلافسكى الأساسى هو وعى الممثل المتجسد باعتباره ظاهرة وعملية عيش الدور. وتضمنت أربعة من أكثر العناصر الأساسية للوعى المتجسد اللازمة لـ “عيش” الدور ما يلي:
1- الخبرة Perezhivanie: “العملية التى يختبر بها الممثل”
2- الانتباه Vnimanie:، أى.. القدرة على التركيز على شيء أو شخص باستبعاد كل شيء آخر”.
3- الرؤيا الداخلية Vnutrenij Zrenie: استخدام “العين الداخلية”، وخلق Vldenie: “الصور العقلية”(1)
4- Ya Esm أن أعيش فى حالة “أنا أكون”. [من وجهة نظرى، “أنا أكون” هى حالة من السكن الجسدى العقلى المعزز حيث يجسد المؤدى الوعى عندما ينشر المرء انتباهه، ويفتح الوعى الحسى، وينخرط فى الأبعاد الحركية/العاطفية لتمثيل مقطوعة موسيقية فى اللحظة.]
 يذكر سميليانسكى كيف وصف زميله فى مسرح الفن، أوليج إفرايموف، عملية الخبرة بأنها عملية

الهوامش  

1- فيما يتعلق بالكي/تشى، انظر زاريلى (2009: 19-21) وخاصة المناقشة الأكثر توسعًا التى أجراها يو بشأن المنظور الكورى للتمثيل (2018).
2- “الانتباه: “”الانتباه، أى..”” القدرة على التركيز على شيء أو شخص مع استبعاد كل شيء آخر”” (بينيديتى فى ستانيسلافسكى 2008: 682).”


ترجمة أحمد عبد الفتاح