قضيتُ أسبوعًا فى بغداد ضيفًا على مهرجان بغداد الدولى للمسرح. لم يكن أسبوعًا عابرًا فى مدينة بعيدة، بل رحلةً فى الذاكرة والروح.منذ لامستُ أرض المطار، شعرتُ بأننى عدتُ إلى مدينة أعرفها منذ زمن، كأن فى هوائها شيئًا من القاهرة، وفى وجوه ناسها ظلًّا من أولئك الذين يحبّون الحياة رغم كل ما مرّت به.فى شارع المتنبى، كانت الكتب تفيض من الأرصفة كما لو أنها تريد أن تُقرأ قبل أن تغيب الشمس، وفى شارع الرشيد كانت الأبنية العتيقة تحرس تاريخها بكبرياءٍ صامت.كان دجلة ينساب بهدوءٍ يشبه صلاةً طويلة، تحفّه المقاهى، ورائحة السمك المسگوف، وضحكات العائلات التى تتفيأ بظلّ النهر والذاكرة.على باب مقهى «أم كلثوم» تسمرت قدماى. تساءلت، فأخبرونى بأن كوكب الشرق نفسها غنّت هنا فى ثلاثينيات القرن الماضى.دخلتُ بحذر المريد، أتأمل الجدران التى ما زالت تحتفظ بصدى صوتها، فشعرتُ بأن القاهرة كانت هنا يومًا ما، وأن بين المدينتين سرًّا أقدم من الجغرافيا: سرّ الفن حين يعبر الحدود ليصبح وطنًا مشتركًا.فى الشوارع، رأيتُ الكنائس والمآذن تتجاور بلا حرج، كأن المدينة تريد أن تقول إن الجمال لا يعرف مذهبًا، وإن التنوع هو سرّ بقائها.كنت أستعيد القاهرة فى ملامح بغداد: فى دفء الناس، فى نكهة القهوة، وفى حكايات الباعة الطيبين الذين يبدؤون حديثهم بالترحيب، وينهونه بدعوة صادقة.نعم، إن بغداد تشبه القاهرة القديمة، لكنها أكثر وجعًا، وأكثر حنينًا، وربما أكثر وعيًا بمعنى أن تنهض بعد السقوط.أما المهرجان نفسه، فقد بدا كعرسٍ مسرحيٍّ كبير.رئيسه الفنان د. جبار جودى، ومديره د. حاتم عودة، نسجا دورةً استثنائية حملت اسم الفنان القدير ميمون الخالدى، فكانت تحيّة وفاءٍ لجيلٍ ما زال يؤمن بأن المسرح بيتُ الروح.ومنذ لحظة الافتتاح، التى أضاءتها الممثلة الكبيرة شذى سالم بحضورها الآسر، شعرت بأن بغداد لا تحتفى بالمسرح فقط، بل تحتفى بالحياة ذاتها، وبقدرتها على تحويل الألم إلى جمال.فى كواليس العروض، وفى النقاشات التى امتدّت حتى الفجر، كنت مع فنانى العرب والعالم نتحدث عن المسرح، كما يتحدث العاشق عن معشوقته، بعيون تلمع بالأمل، وقلوبٍ تعرف أن الفنّ خلاصٌ من القسوة.هناك، فى تلك الليالى، أدركت أن المسرح فى بغداد ليس فعلًا فنيًا فحسب، بل أسلوب بقاء؛ وأن المدينة كلّها خشبة، يُمثَّل عليها عرض الحياة اليومى الكبير.عدتُ من بغداد ممتلئًا بها: بروائحها، بأصواتها، بوجوه ناسها، وبذلك النهر الذى يواصل جريانه كأن شيئًا لم يحدث.وها أنا، ما زلتُ أسمع همس دجلة يقول لي:“من يزور بغداد مرةً، لا يغادرها أبدًا.”سأعود إلى المهرجان فى مقالاتٍ قادمة، لأكتب بتفصيلٍ ومحبة عن بعض العروض التى لامست روحى، وذكّرتنى أن المسرح - كما بغداد - لا يُروى فى مقالٍ واحد، بل فى حكايات لا تنتهى.أو كما قال السياب:الشمسُ أجملُ فى بلادى من سواها، والظلامْحتى الظلامُ هناك أجملُ، فهو يحتضنُ العراقا.