العدد 673 صدر بتاريخ 20يوليو2020
تأتي مسرحية المغفلة كتيارات من الحب العاصف والتسلط الآثم والقهر المخيف , لامسنا فيها مأساة السقوط الإنساني وقبضنا على جمرات عذاب ناري يكشف عن بشاعة الظلم وعن وجه العالم المسكون بالجنون , وفي هذا الإطار تجاوزت المسرحية حدود الجمال المألوف , وتحولت إلى استثناء وجموح ومساءلة , وأصبحنا أمام ثورة جمالية عارمة , امتلكت أقصى درجات الحرية , لتبوح وتروي , وتكشف عن الوعي والفكر والإرادة الإنسانية .
هذه المسرحية هي نتاج لوعي جديد , يصنع الحياة والمستقبل , وهي وثيقة عشق إبداعي يهديها أنطوان تشيكوف إلى الإنسان ليؤكد أن الصمت في حضرة الظلم حرام - - , تلك الحالة التي تبلورت مسرحيا مع المخرج الخلاب سامح بسيوني , الذي بعث حضورا حيا مشاغبا يغني للحياة ويعانقها , ويكشف عن موهبته الخصبة الناضجة , التي جمعت بين الإبهار والجمال والوهج الإبداعي الثائر , ويذكر أن مسرحية المغفلة هي التجربة الثانية التي تأتي في إطار المبادرة النوعية لتقديم عشرة مسرحيات جديدة على قناة وزارة الثقافة بموقع اليوتيوب , ترتكز جميعها على نصوص وقصص قصيرة للمؤلف الروسي العظيم أنطوان تشيكوف .
تناول المخرج سامح بسيوني القصة القصيرة “المغفلة “, واشترك مع الكاتب المتميز” سامح عثمان”في إعدادها للمسرح, اتجهت فكرتهما إلى الغناء وأصبحنا أمام ميلاد صاخب لمسرحية غنائية رفيعة المستوى , جاءت كشعاع شمس ذهبي يشاغب توترات وجودنا الضاغط ويكسر حواجز القلق والانتظار الوجودي , ورغم أن المسرح هو روح وأنفاس وجمهور وحياة , إلا أن هذه التجربة قد امتلكت الكثير من الحرارة والتفاعل والحيوية , وفي هذا السياق جاء إعداد القصة القصيرة كنموذج عبقري للإعداد بمفهومه العلمي والفني - - , روح تشيكوف ظلت حاضرة بقوة في المسرحية , المحتوى الفكري والجمالي والإنساني الثائر كان هو الهدف والمركز والرسالة , فلامسنا تيار المشاعر الغامضة وعمق الجماليات الأخاذة , وموجات الأحزان والشجن - - , الشخصيتان الأساسيتان في القصة حاضرتان كما هما في المسرحية , والفعل القوي المسكون بالمفارقات تم توظيفه في الإعداد بأسلوب بارع , شديد الإبهار والجمال .
إذا كان تشيكوف يكتب عن الشخصيات , التي تستسلم للظلم والعذاب , وتعاني الصمت والغياب , فإن عمق وحرارة هذه الرؤى وارتباطها بأطرها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية , ظلت حاضرة بوعي في الإعداد الذي استلزم بعض التغييرات الحتمية بناء على تحول السرد القصصي إلى حوار مسرحي , لذلك رأينا مجموعة من الشخصيات الثانوية , استدعاهم سامح عثمان وسامح بسيوني, من الفضاء السردي , ليعايش المتلقي أبعاد عذابات المربية الجميلة “راضية” , المهددة بالفقر والضعف والاحتياج , وإيقاعات حياة خشنة تموج بالعذابات .
تأتي قصة المغفلة كومضة ضوء خاطف , يروي فيها السيد الثري , ما حدث بينه وبين المربية الشابة “يوليا فاسيلفنا “ وهو يحاسبها , فهي خجولة لا تطلب النقود - - , اتفقوا أن يدفع لها أربعون روبل في الشهر , فغافلها وقال أنها تستحق ستين روبل في الشهرين , وأن هناك خصومات كثيرة من راتبها - - , سيخصم تسع روبلات لأيام الآحاد , لأنها لم تعلم طفله كوليا في هذه الأيام - - , كانت تتنزه معه فقط , صرخت لكنها لم تنطق بكلمة وظلت تعبث بأطراف فستانها , وأخذ السيد يكمل سنخصم أيضا ثلاثة أعياد , وأربعة أيام كان الطفل مريضا فيها , وثلاثة أيام أخرى كانت أسنانها تؤلمها فمنحتها سيدتها راحة .
انفعلت يوليا في صمت , امتلأت عيناها بالدموع , ارتعش ذقنها وسعلت بعصبية وظلت صامتة , وعاد السيد ليكمل - - , قبيل رأس السنة كسرت فنجالا وبالطبع نخصم روبلين , الفنجال أغلى من ذلك بكثير - - , ولكن فليسامحك الله وعلينا العوض , وكذلك بسبب تقصيرك تسلق كوليا الشجرة ومزق سترته وسأخصم عشر روبلات , وبسبب تقصيرك أيضا سرقت الخادمة حذاء ابنتي , وأنت من واجبك أن ترعي كل التفاصيل لذلك سأخصم خمسة روبلات , وفي العاشر من يناير أخذت من زوجتي عشرة روبلات --- , فقالت لم آخذ وامتلأت عيناها بالدموع وطفرت حبات العرق على أنفها الجميل وظلت صامتة , وفي النهاية أعطاها السيد أحد عشر روبلا , فأخذتها وهي حزينة -- , وضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة وقالت - - ميرسي .
انتفض السيد واقفا وقد انتابه الغضب , ظل يتحرك في الغرفة , سألها - - ميرسي على ماذا ؟ لقد سلبتك, وسرقتك , ونهبتك , علام تقولين شكرا ؟ فقالت – في أماكن أخرى لم يعطوني شيئا - , فقال لقد علمتك الآن درسا , كنت أمزح معك - - , سأعطيك نقودك كاملة , الثمانين روبل كلها , ولكن من المستحيل أن تكوني ضعيفة وعاجزة لهذه الدرجة , لماذا تسكتين ؟ لماذا لا تحتجين , الدنيا تفرض عليك أن تكوني حادة الأنياب , ولا تكوني مغفلة لهذه الدرجة .
كان المخرج سامح بسيونى عبقريا ومدهشا في صياغته للمسرحية , قدم تشيكوف كما هو - - , بكل جمالياته العميقة الدالة عبر عرض غنائي حديث ومعاصر ينتمي لواقعنا الحالي , الأداء والغناء والموسيقى والألحان تتضافر مع الكوريوجرافيا ومع منظومة الإضاءة الدرامية الموحية , والحالة المسرحية تمتلك إيقاعا متصاعدا لافتا لاهثا ومثيرا ,يبحث عن طبيعة هذه المربية , هل هي مغفلة كما أسماها تشيكوف؟ , أم أنها غافلة عن حقوقها ؟ , أم أن المجتمع استلب قوتها وقدرتها على الدفاع عن حقها ؟ وفي هذا السياق تتخذ الأحداث مسارها في إطار تشكيل سينوغرافي شديد الأناقة والجمال , بلاغة المنظور التشكيلي يتوافق مع طبيعة الشخصيات , والمفردات الدالة تروي عن أعماق الرجل الثري المثقف , الذي يدرك قيمة الإنسان .
اتجه منظور الإخراج إلي تجسيد أعماق راضية المربية , التي تحولت أحلامها إلي كوابيس تحاصرها , وعبر موجات الضوء والحركة والأداء الجميل لامسنا تهديدات الجزار والبقال ومعلمة الأطفال , تلك الحالة المفزعة التي تبلورت من خلال الأداء الكاريكاتوري والحركة المتوترة والمشاعر المتناقضة , وفي هذا السياق تمتد المفارقات الساخنة , ويصبح كشف حساب المربية , هو لحظة فارقة في حياتها , فقد علمت أن كل حقوقها قد ضاعت في مقابل الخصومات , ولن تأخذ أي نقود ومع ذلك لم ترد ولم تعترض , وهكذا يأتي التشكيل الجمالي الخلاب الذي يحمل بصمات سامح بسيوني , ليضعنا أمام مفارقة إنسانية رفيعة المستوى , حيث يأتي السيد بأصحاب الديون ويدفع كل حسابات المربية , ليعلمها درسا إنسانيا ثائرا , تصل رسائله إلى الجمهور ببساطة عبقرية عبر الضوء والحركة والغناء , الذي يتردد مؤكدا أن الإنسان يجب أن يحدد قيمة نفسه ويدرك أهميتها , وعليه أن يشتبك مع الدنيا ويشاغبها , ولا يغفل أبدا عن حقوقه , وفي هذا السياق الجمالي يتبادل السيد النبيل مكانه مع المربية , فنراه يمسك بالفرشاة وينظف المكان , بينما نراها كسيدة أنيقة تجلس على الأريكة في دلال , تلك الحالة التي تمتد عبر الغناء لتؤكد أنه مهما تكون حسابات الدنيا ,فإن الإنسان سيظل ترسا في آلة الحياة .
شارك في المسرحية النجم المتميز إيهاب فهمي , الجميلة نورهان أبو سريع , محمد دياب , مع نورهان حافظ وأشرف فؤاد .
كان الديكور والأزياء لسماح نبيل , والألحان والأشعار لمحمد مصطفى , وكانت الإضاءة لإبراهيم الفرن .