المسرح الجماعي ونهاية عصر النجم

المسرح الجماعي  ونهاية عصر النجم

العدد 871 صدر بتاريخ 6مايو2024

إذا كان العنصر الجمالي «يسود في المجتمعات التي تتمتع بصحة جمالية إبداعية» ـ على حد تعبير بيتر فوللر ـ فإن تجربة المسرح الجديد في مصر قد خلقت فضاءات مغايرة في الرؤية والكتابة والأداء والإخراج، وإن جاءت هذه الفضاءات ـ في كثير من الأحيان ـ خارج المسرح الرسمي الذي يعاني منذ أكثر من ثلاثين عاما من التدهور نتيجة لغياب الوعي بأهمية المسرح في الحياة، فأصبحت كثير من مسارح الدولة تعيد إنتاج ما سبق، وفي بعض الأحيان تغلق أبوابها لأنها لا تجد ما تقدمه، أو هكذا تظن، وكأن معين الإبداع قد نضب، وتصبح المسألة في النهاية مجرد ميزانيات وموازنات مالية يجب أن تسوى في نهاية كل عام وفقط.
ولذا وجدنا تلك الفرق التي اتخذ كثير منها طابع الاستقلال النسبي عن المؤسسة الثقافية الرسمية تلجأ إلى الجهود الذاتية في تمويل أعمالها الفنية، ولجأ بعضها الآخر إلى التمويل من المراكز الثقافية الأجنبية بمصر، ووجدنا بعضها أيضا يقيم مؤسسات ثقافية صغيرة يكون المسرح أحد أنشطتها مثلما فعلت «فرقة الورشة» وكذلك ما قامت به فرق «المسحراتي» و»أتيليه المسرح» و»الضوء» من تكوين «ملتقى للفرق المستقلة». في حين نرى أن غالبية هذه الفرق وقف الجانب المالي كحجر عثرة في طريقها فتوقفت.
وفي نهاية التسعينات، على ما أذكر، كانت هناك اجتماعات لتكوين اتحاد للفرق المسرحية المستقلة ودعيت إليه كل الفرق الصغيرة والكبيرة، لكن بعض أشهر عدة من الاجتماعات المتواصلة لم يصلوا إلى صيغة لتكوين مثل هذا الاتحاد، فانشغل الداعون إليه بمشاريعهم الخاصة واعتمدوا على جهدهم الفردي في تقديم عروضهم.
وربما لم يبق في المؤسسة الرسمية سوى مسرح الهناجر والذي تبنى بعض التجارب لفرق مثل «الشظية والاقتراب»  و»المسحراتي» و»لاموزيكا» و»الحركة» والتي حقق عرضها «اللعب في الدماغ» نسبة مشاهدة مرتفعة وحققت كذلك نجاحات نقدية منقطعة النظير.
ومع ذلك تبقى قضية «التمويل» قضية أساسية في بقاء واستمرار مثل هذه التجارب التي تقوم على ابتكار طرق مغايرة للفضاء المسرحي، حيث تسعى إلى ما وراء الخشبة، أو بمعنى أدق إلى «ما وراء القاعة» وهذا ما يذكرنا بالمؤلف المسرحي «لويجي بيرانديلو» ومعادلته المعكوسة في الشخصيات التي تبحث عن مؤلف، كذلك من خصائص هذه التجربة فكرة التأليف الجماعي والتصميم الجماعي، والتي تصنع المكونات المسرحية تحت مجهر التجريب مما يجعل الواقع في حيز المسألة، وإذا كانت هناك فترة من الحركة المسرحية إنحاز فيها المسرح إلى ما يمكن أن يسمى بـ»مسرح المخرجين» خاصة في فترة الستينات حيث لعب المخرج الدور الرئيسي في تحريك العملية المسرحية، وكان صوته هو الأعلى، فرأينا أسماء مخرجين ممن تتلمذوا على يد زكي طليمات أمثال كرم مطاوع وحمدي غيث ونبيل الألفي وغيرهم، فإن مرحلة المسرح المستقل، هي مرحلة يمكن أن اسمها بـ»مرحلة المسرح الجماعي» نظرا لتعدد التفاصيل والمصادر التي يستقي منها العرض، فلم تصبح للمخرج سلطة مطلقة في تحريك بنية الأداء، ولم يصبح الممثل هو ذلك النجم الذي يزهو على الخشبة، ولم يصبح النص هو الدائرة المحكمة غير القابلة للتغيير، بل أصبح الجميع موضع مساءلة من الجمهور الذي أصبح ـ بالتالي ـ ذاتا فاعلة في تكملة البنية الجمالية للعرض.
ولهذا: على مثل هذه الفرق أن تسعى جاهدة لحل المعضلة الكؤود التي حيرت كل عمل بالمسرح منذ فجر تاريخه وهي كيف يكون خطابهم المسرحي ابنا شرعيا للواقع؟
وإذا كان المسرح ـ عبر تاريخه الطويل ـ قد اعتمد على عنصرين فنيين في التجديد هما تنوع طرق الأداء التعبيري وعملية التلقي المتصاعد من قبل الجمهور مما نتج عنه سقوط الحواجز في علاقة تبادلية أنتجت أنساقا جديدة تعتمد على مسرحة فضاءات جامدة مهملة لم تكن مستخدمة من قبل في العرض المسرحي من أجل تثوير الوعي الغائب وإعطائه إمكانيات للحضور لم يأخذها في فترات سابقة، مع تكثيف الجانب الهامشي وإدخاله في متن العمل الفني لتصل في النهاية هذه العملية إلى المراوحة بين ما يريده الضمير الجمعي والوعي بآليات الفن، وتأتي هذه المراوحة من خلال كسر الثنائية المركزية للنص «الكلام والجسد» وهي ثنائية كانت تعطي للنص المكتوب الأولوية الأولى نظرا لأن المسرح ـ عرف منذ نشأته ـ بأنه «فن تقديس الكلمة»، وكان الفعل الحركي/ الجسد ـ رغم أهميته في إنتاج الدلالة هامشيا ومحفوفا بالمخاطر، وإن عُبر عنه ـ كما في المسرح التجاري ـ على سبيل المثال ـ كأداة للعرض والاستهلاك، وهو مفهوم ظهر منذ بداية السبعينيات نظرا لسيادة الثقافة الاستهلاكية وتغليب كل ما هو مادي وتغييب كل ما هو قيمي وروحي، ومن هنا أصبح الجسد الاستهلاكي بطلا لكثير من العروض.
وقد بات أمرا ملحا إيجاد علاقة توافقية تعبر عن المسكوت عنه في هذه الجدلية الشائكة، مع المحاولة بالخروج بالجسد من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الأداء الحركي المعبر عن عذابات الإنسان المعاصر ضد قوى الهيمنة الخارجية وسطوة الآخر، من أجل إيجاد مساحة للذات أن تبوح بمكنوناتها. وأصبح تفتيت النص مقابل تكامل الدلالة هو الأهم في إنتاج مسرح بديل مختلف يتحرر من مركزية التقنية الفنية ليطرح أشكالا مغايرة تتضافر فيها أطروحات سياسية واجتماعية ووجودية.
هل يمكن أن تتحقق الدراما بوسائل أخرى غير الكلمة المكتوبة ؟ 
وإن تطورت الفكرة عند رواد المسرح التجريبي في العالم أمثال « أرتو «     و» كوكتو» و» بريخت « و» مايرخولد « الذي كان من أوائل الداعين إلى فكرة المسرح المفتوح في التخلي عن الوضعية التقليدية لبنية المسرح والأندماج الكامل مع انفعالات الجمهور ، فيقول : 
(( إن المسرح الشرطي ، بعد أن يحطم الأضواء الأمامية ، سينزل بخشبة المسرح إلى مستوى الصالة ، وبعد أن يُبنى نطق وحركة الممثلين إيقاعياً ، سيقرب إمكانية إنبعاث الرقص ، أما الكلمة فسيكون من السهل أن تتحول في هذا المسرح ، إلى صرخة ملحنة وصمت مموسق )).
وإن كان « مارتن إيسلن « يرجع تاريخ « الدراما الحركية « إلى المسرح اليوناني القديم اعتماداً على المعجم اللغوي لكلمة دراما « ففي اللغة اليونانية كلمة « دراما» تعني ببساطة حركة ، الدراما حركة محاكية ، حركة تقلد أو تمثل سلوكا إنسانياً والجانب الحاسم هو التركيز على « الحركة»
في مسرحيته «يو إس» نجد بيتر بروك يستكشف مناطق جديدة للكتابة والاقتراب من ثقافة الآخر، وهذه من أهم مميزات الكتابة لدى «بروك» في تلك المسرحية قدم لنا صور المقاومة الفيتنامية من خلال حشد عدد هائل من الوسائل الفنية المتناقضة، وكان الهدف منها على حسب تعبيره- في مقدمة المسرحية: «التودد إلى المتفرج لكي يكون مشاركا في العمل الدرامي».يتضح من هذا المضمون ما كان يرمي إليه «بروك» من وضع الجمهور في قلب التجربة، حيث يقول:
«هنا ترجع المشكلة مرة أخرى إلى المتفرج: هل يود أن يغير شيئا في شروطه؟ هل يود أن يغير شيئا في نفسه، في حياته، في مجتمعه؟ إنه بحاجة إلى الأثر الذي يخدش، وإلى أن يبقى هذا الأثر ولا يزول».
فالحدث –إذن- في مواجهة الجمهور وجها لوجه- في مرآة واحدة ينظر كل منهما للآخر فيما يمكن أن نطلق عليه «أنسنة الحدث».
ولو تتبعنا الخط الدرامي لهذا النص الثري سنجد أنه يهتم في مرجعيته الأولى بالمشاهد، من خلال صرخة عميقة وطويلة تتخلل التفاصيل الصغيرة داخل البنية الحوارية، وأحداث المسرحية تقع كلها في فيتنام، وتحديدا في مدينة «سايجون» إن الاحتلال الأمريكي للمنطقة.


عيد عبد الحليم