العدد 871 صدر بتاريخ 6مايو2024
بدأ الريحاني موسمه المسرحي الجديد في ديسمبر 1931، وهو على ثقة بأن عرضه الافتتاحي سيفشل فشلاً ذريعاً، ولن تقبل عليه الجماهير بسبب الأزمة المالية العالمية، التي أثرت على كل شيء وبالأخص المسرح، حيث توقفت بعض الفرق، وأغلقت بعض المسارح وتحولت إلى دور للسينما! وزاد الطينة بلة أن الريحاني استأجر مسرح الكورسال الشاسع في مساحته كثير العدد في مقاعده! ومن سوء حظ الريحاني أنه طبع إعلانات مسرحية الافتتاح على لوحات ضخمة بشكل الجنيه، الذي لم يعد يراه المصريون بسبب الأزمة المالية!! ومن استفزاز الريحاني لجمهوره أن اختار عنواناً لمسرحيته وهو «الجنيه المصري»!!
كل هذه العوامل كانت تؤكد فشل الموسم من بدايته، وتؤكد سقوط مسرحية الافتتاح .. ولكن العكس كان صحيحاً!! فهذه المسرحية تحديداً كانت السبب في شهرة الريحاني على مدار تاريخ المسرح المصري، لا سيما بعد أن أعاد عرضها الفنان «فؤاد المهندس» بعنوان آخر هو «السكرتير الفني»!! فمن منّا لا يتذكر «الإفهات» الشهيرة: «الدنيا بتلف ... صفر واحد طيب خليهم اتنين .. تمضي سُكيتي» .. إلخ!! هذه هي مسرحية «الجنيه المصري»، التي سنتعرف على ظروف عرضها لأول مرة عام 1931.
عندما عُرضت المسرحية، كتب عنها كثيرون، لكن المقالة التي نُشرت في مجلة «النيل المصور» في منتصف ديسمبر 1931، كانت الأهم – من وجهة نظري – حيث شملت كل شيء في العرض تقريباً، وكتبها «ع.ج»!! هكذا كان التوقيع في نهاية المقالة وعنوانها «الجنيه المصري على مسرح الكورسال»، وجاء فيها الآتي:
في هذه الأزمة الخانقة الماحقة [يقصد الأزمة المالية العالمية] وغالبية هذا الشعب المسكين يعاني آلام الفقر والفاقة، ويتلمس الطريق لكسب العيش بعناء وكد، يأبى الأستاذ نجيب الريحاني إلا أن يجرح عواطف الجماهير بذكر الجنيه ورسم الجنيه في إعلاناته التي ينشرها على جدران العاصمة، ويظهر أن الأستاذ في سعة من العيش - أتمّ الله عليه نعمته - أنسته ما نحن فيه من فاقة وفقر بدليل أن رسم الجنيه الذي أثبته في إعلاناته كتب عليه «بنك الريحاني الأهلي» بدلاً من البنك الأهلي المصري .. وهذا يكفي لإغراء الجماهير بالسعي إلى مسرح الكورسال لعلهم يطفئون حرارة شوقهم إلى المال برؤية الجنيهات المصرية تتدفق إليهم من بين يدي الأستاذ الريحاني، لا سيما وأنه قد مضى عليهم زمن طويل لم يسمعوا عنه شيئاً.
بعد هذه المقدمة التشويقية، ذكر الكاتب ملخصاً للعرض قال فيه: بينما كان الأستاذ «ياقوت أفندي عبد المتجلي» يغذي طلابه بلبان العلم والعرفان ويلقي عليهم دروسه الطلية مطمئناً قانعاً بمرتبه الضئيل الذي لم يتجاوز الثلاثة جنيهات، فإذا به يفاجأ بخصم ثلاثين قرشاً صاغاً من هذا المرتب، لأنه أغضب ولي أمر أحد تلاميذه لأنه تمسك بنظرية دوران الأرض حول نفسها، وولي الأمر هذا جاهل لا يريد أن يقتنع بصحة هذه النظرية وعبثاً حاول ناظر المدرسة إقناع الأستاذ ياقوت كي لا يتشبث بهذا الدوران إذا احتاج الأمر لمداورة آباء الطلبة الجهلاء إبقاء على رواج مدرسته. ولكن الأستاذ ياقوت رجل يتمسك بالعلم ويضحي في سبيله بكل شيء. وأخيراً اضطر ناظر المدرسة إلىى طرده وهو لا زال يقرر «إن الأرض تدور حول نفسها والأرزاق على الله». ثم ذهب ياقوت إلى منزل «فتكات هانم» ليعطي لابن أخيها الدرس الخاص كعادته، وكان يتقاضى نظير ذلك جنيهاً واحداً. وطمع أن يعوض ما خسره من جراء طرده من المدرسة بأن أقترح على الهانم أن يزيد وقت الدرس من ساعة إلى ثلاثة وهو لا يطمع في أكثر من خمسين قرشاً يضيفها إلى الجنيه؟ ولكن فتكات هانم أسفت جد الأسف لرفض هذا الطلب لأن ابن أخيها سوف يسافر إلى طنطا. فأسقط في يد الأستاذ ياقوت وترك الهانم ليعطي الطالب درس الوداع!! وحدث أن اختلف بهير بك عشيق الهانم فتكات مع أحد وسطائه على مقدار السمسرة التي يتقاضاها الأخير نظير تستر البك وراء اسم هذا الرجل لقضاء أغراضه. وكانت نتيجة هذا الخلاف أن اضطر للبحث عن رجل آخر يقبل أن «يبصم» بدون أية معارضة، كي لا يظهر تلاعب بهير بك أمام مجلس إدارة الشركة الذي هو أحد أعضائه. ووقع اختيار فتكات هانم على الأستاذ ياقوت لما توسمته فيه من السذاجة والطيبة، وعرضت الأمر عليه فقبل بدون أي معارضة لما كان فيه من البؤس والفاقة لا سيما وأن المبلغ الذي عُرض عليه لم يكن يحلم به لو أنه استمر في مهنة التدريس. ولكن الوسيط الآخر أطلع الأستاذ ياقوت على سر بهرير بك ونصبه واحتياله فهاج وماج وأخذ يهدد الهانم وعشيقها بفضح أمرهما وتسليمهما ليد العدالة لتقتص منهما جزاء ما اقترفا من إثم. وتمكنت الهانم أخيراً بعد أن استنفذت كل وسائل الإغراء التي تملكها امرأة رشيقة مثلها في استدرار عطف الأستاذ ياقوت، وكانت الدموع أمضى سلاح ساندها على الانتصار. وأخيراً قبل الأستاذ أن يكون الرجل الذي يريده بهير وعشيقته. وأخذ المال يتدفق إلى جيوب الأستاذ ياقوت بغير حساب، وهو يطغى ويتجبر لأن الجنيه أصبح في اعتقاده كل شيء. به يشتري الذمم والأخلاق والأقلام والأصدقاء والأعوان، وهو القادر على تنفيذ المآرب والرغبات وكل ما يشتهيه الأستاذ. وبعد أن كان رجلاً رث الثياب لا يملك ما يزيل به لحيته الطويلة القذرة، فإذا به قد أصبح رجلاً أنيق الملبس رشيقاً يحاول الجميع استرضاءه بكل ما ملكت إيمانهم. ولما كان الأستاذ يؤمن بقول الشاعر: «أعلمه الرماية كل يوم .. فلما اشتد ساعده رماني»، عامل حضرته بهير بك ولي نعمته أسوأ معاملة، ووصل به الحال إلى طرده من مكتبه. وفتكات هانم عشيقة البك تحاول إيقاع الأستاذ ياقوت في شباك غرامها وأسره بفاتك لحاظها. والمتملقون وطلاب الحاجات يكثر عددهم حول أبواب ياقوت. هذا طالب إحسان لجمعية خيرية ينشد بين يديه قصيدة مدح، وذاك صحفي يتهدده بنشر فضائح عن علاقاته المالية فيشتريه بالمال! حتى ناظر المدرسة التي كان يعمل فيها الأستاذ يلقي بين يديه محاضرة طويلة عن خسارة المدرسة بتركه لها، ويعرض عليه الزواج من ابنته بعد أن رفض وساطة زميل ياقوت الأستاذ خميس وشفاعته في قبول هذا الزواج لما كان مدرساً. كل هؤلاء يفدون على مكتب ياقوت والأستاذ خميس يقف مبهوتاً يرثي الآداب ويندب الأخلاق والذمم وزميله العزيز ياقوت يعطيه درساً قاسياً عن الجنيه وتأثير الجنيه وسطوته في العالم.
بعد هذا الملخص ينتقل كاتب المقال في حديثه إلى «التأليف»، فيقول: هذه الرواية لكاتب فرنسي كان نصيب كل رواية يؤلفها للمسرح السقوط التام! فلما ألف روايته «توباز» تبسَم له الدهر إذ نجحت نجاحاً باهراً، واستمر تمثيلها سنة كاملة، وكانت مصدر ربح عظيم له، وقد مثلتها في العام الماضي فرقة فرنسية على مسرح الكورسال بالقاهرة، وعربها ومصرها الأستاذان نجيب الريحاني وبديع خيري وجعلا اسمها «الجنيه المصري»، وافتتحا بها الموسم. وعلى كل فهذه مسألة لا ندقق فيها كثيراً إذا كان موضوع الرواية يسير متسقاً اتساقاً طيباً متناسباً وحياتنا المصرية. ويدور موضوع الرواية كما يرى القارئ الكريم حول تأثير المال في شراء الذمم وإفساد الأخلاق، وصوّر لنا المؤلف كيف انقلب الأستاذ ياقوت من رجل فاضل كريم الخلق نقي الذمة إلى رجل لا يدين إلا بالمال، ويعتقد أنه كل شيء في الحياة. ولقد أخطأ المؤلف المرمى وأساء من حيث أراد الإصلاح إذ أنه جعل خاتمة هذا الرجل خاتمة طيبة هنيئة فهو بذلك يغري المتفرج على أن يبيع ذمته ويفسد أخلاقه في سبيل اقتناء المال. وكان الأحرى بالمؤلف أن يمثل بهذا الرجل أشنع تمثيل لتكتمل العبرة إذا كان هناك من يعتبر. صحيح أن الصورة التي صورها لنا المؤلف في روايته هي صورة من الحياة لا سبيل إلى نكرانها. ولكن ذلك لا يمنع من أن هناك ذمماً وهناك أخلاقاً أفضل وأنقى من أن تُشترى وتُباع بيع السلع في الأسواق. وهمسة صغيرة في أذن المقتبس. لماذا غمزت الصحافة يا سيدي هذه الغمزة المؤلمة التي شاهدناها في الفصل الأخير من روايتك؟ ألم تكن صحفياً يا أستاذ بديع؟ ألا تعرف فضل الصحافة على الأمم؟ أنا أعترف لك أن هناك من لا أخلاق لهم من أدعياء الصحافة وأشباه الكُتّاب وهؤلاء يسيئون إليها بما يقترفون من العبث والصغار. ولكن هناك من هم أشرف نفساً وأعف يداً من الكثيرين الذين يعاشرهم الأستاذ بديع .. ولعلها ذلة قلم لم يقصد بها حضرته الإساءة إلى سمعة الصحافة والصحفيين!! وعلى كلٍ فهو مُعرّب فقط.
انتقل كاتب المقال إلى «التمثيل» قائلاً: لا نزاع في أن الأستاذ نجيب الريحاني ممثل قدير متين مثقف يؤدي أدواره بغاية الدقة في إظهار ما يتطلبه دوره. وأظنه الوحيد بين ممثلينا الذي تتفق إيماءاته وحركاته مع معنى كل كلمة يلقيها على المسرح. وهي قدرة لا تتوفر إلا في القلائل عند الذين وقفوا على خشبة المسرح في هذا البلد. وهو كذلك ممثل خفيف الروح رشيق الحركة حين يخطو على المسرح. ولقد قام بدور الأستاذ ياقوت خير قيام، أجاد تمثيله إلى درجة الإبداع ولا أستطيع طبعاً أن أرسم صورة صادقة للأستاذ وهو في دور المعلم ونصيحتي إلى القراء أن يشاهدوا الرواية وعليَّ تبعة ما أقول. وهذا إعلان مجاني يا أستاذ ريحاني!! وعجيب أن تقوم ممثلة أجنبية بدور الممثلة الأولى لفرقة مصرية وتنجح في دورها كما نجحت مدموازيل «كيكي» في دور «فتكات هانم»! ولو أن المشاهد لا يعرف ممثلة الدور لأعتقد تماماً أنها مصرية صميمة تلك التي تغدو أمامه على المسرح وتروح. ولعل جميع من شاهدوا الرواية يوافقوني على أنها كانت موفقة في دورها كل التوفيق. وكفاها موقف الإغراء الذي وقفته من الأستاذ ياقوت ليقبل وضع إمضائه على كل ورقة تقدمها إليه .. رقة ودلال ودموع تسيل، ونظرات فاتنة وجهتها إلى الأستاذ ليلين!! كل هذا أظهرته لنا المدموازيل كيكي على المسرح في رشاقة قلّ أن تتوفر في غيرها من ممثلاتنا المصريات.
كما قلت سابقاً إن مقالة مجلة «النيل المصور» كانت الأشمل من بين المقالات الكثيرة المنشورة عن عرض «الجنيه المصري»، ولكن هذا الشمول لا يمنع أن بعض المقالات بها إضافات مفيدة، مثل مقالة «م.ع. رزق» المنشورة في مجلة «الصباح» وتحدثت فيها عن أثر العرض على الجمهور، قائلة: تنزل الستار فينصرف النظارة بينما تعتلج في صدورهم عوامل متضاربة من أثر هذه الخاتمة الغريبة! أهي دعوة صريحة إلى الإثم، أم هي مناهضة للفضائل؟ ماذا يريد مؤلف من هذه الرواية؟ أيريد نصرة الرذيلة وقتل الفضيلة .. أم يبغي غير هذا فيظهر غير ما يبطن ويقول بلسانه ما لا يريد؟ الواقع أنه حين ينتصر للباطل في مثل هذا الموقف وحين يمهد لنصرته بقصته تلك إنما يريد أن يشهد الناس على هذا الظلم الصارخ الذي يئن منه العالم جميعاً. يريد أن يستفز الشعور بهذه الكلمات الجارحة التي ترمي بها الفضيلة يريد أن يريكم الضمائر وما آلت إليه .. نفوس كانت هي الطُهر بعينه .. يريد أن يصيح بكل ما لديه من قوة: الباطل ينتصر يا قوم فهل يرضيكم هذا؟ وإن لم يرضكم فإلى الحق فخذوا بيده وانصروه!! فالرواية إذن لا تدعو للرذيلة كما يتوهم المتفرج لأول وهلة إنما هي تحاربها بأشد الأسلحة فتكاً .. والرواية بعد ذلك جديرة بكل تقدير، ولم يسبق للأستاذ الريحاني أن أظهر مثلها على مسرحه .. فقد جمعت بين الجد والفكاهة بما يحببهما معاً إلى النفوس.
ومن المفيد أن كاتبة المقالة «م.ع. رزق» ذكرت إشارات سريعة عن الممثلين، فعرفنا أسماءهم كون المقالة السابقة لم تذكر إلا الريحاني وكيكي!! أما الأسماء كاملة فهي: نجيب الريحاني، وعبد العزيز خليل، وعبد اللطيف جمجوم، والتوني، ومحمد مصطفى، وجبران نعوم، والفريد حداد،، وحسين إبراهيم، والقلعاوي، وفكتوريا كوهين، وشفيقة جبران، وكيكي.
أما ناقد مجلة «المصور» فقد كتب عن جانب مهم جداً يتعلق بأسلوب الريحاني في مسرحياته السابقة، والذي تغير في هذه المسرحية، قائلاً: مُشاهد الرواية لا يتوانى لحظة في الاعتراف بأن ما بذله كل من الأستاذين بديع خيري ونجيب الريحاني قد جعل منها رواية مصرية من كل الوجوه .. الأخلاق والعادات بل والجو الذي تجري فيه حوادث القصة من أولها إلى آخرها!! امتاز مسرح الريحاني منذ طارت شهرته بروايات من الأوبريت والريفيو التي يمتزج فيها الرقص بالألحان ويكون للموضوع فيها المحل الثاني، أما في هذه الرواية فقد خالف الريحاني ما درج عليه وأخرجها قطعة كوميدية جليلة يتمشى الموضوع فيها على قدميه، وهو الذي تنبني عليه كل صغيرة وكبيرة في القصة دون احتياج إلى رقص وغناء وملحقات كانت تُحشر حشراً، والتي كانت تأتي بها مناسبات لا دخل للموضوع فيها ولا تمت إليه بصلة!! إذن خالف الريحاني ما عوّد جمهوره عليه فلم يرَ منه الإقبال الذي اعتاده ولكننا نوافق الريحاني على خطته الجديدة ونعتقد أن هذا الجمهور المُغرِض لا يلبث أن يستسيغ هذا النوع ويفضله على ما عداه في وقت لن يطول. فإذا كان في طوق الريحاني متسع لاحتمال شيء من التضحية فليثابر على ما اختطته لنفسه وأنا الضمين بأن المستقبل له لا محالة، إلا أن ذلك لا يمنع من النصح له بأن يخرج بين وقت وآخر روايات من النوع الذي ما زال الجمهور يعشقه ويميل إليه حتى يستطيع امتلاك جمهوره والتصرف في هويته.