العدد 872 صدر بتاريخ 13مايو2024
أجمع النقاد على نجاح مسرحية «الجنيه المصري»، وعدّها الجميع بداية فنية جديدة راقية، فضّل فيها الريحاني المعنى والمضمون والأثر على الجمهور، متخلصاً من الاستعراض المبهر متمثلاً في الأغاني والرقصات والراقصات الأجنبيات .. إلخ هذه الأمور الجاذبة للجمهور .. ولكن بكل أسف نجاح المسرحية الأدبي هذا، قابله فشل جماهيري كبير غير مسبوق!! فقد خسر الريحاني أغلب جمهوره الذي يأتي إلى مسرحه ليشاهد «كشش بك» عمدة كفر البلاص بالجبة والعمة والقفطان، لا أن يشاهد أفندياً يرتدي بدلة وطربوشاً!! فالجمهور يريد أن يضحك ويشاهد الراقصات ويسمع الأغاني .. هذا هو جمهور الريحاني!!
لذلك رضخ الريحاني أمام مزاج جمهوره ورضخ أمام قاعدة «الجمهور عاوز كده»!! فعاد إلى شخصية كشكش بك سريعاً حفاظاً على جمهوره وما يدفعه هذا الجمهور، فأعلن عن عرضه الجديد وهو مسرحية «المحفظة يا مدام»!!
شاهد «سماحة» - الناقد الفني لمجلة «المصور» - المسرحية ونشر مقالة عنها في أواخر يناير 1932 عنوانها «المحفظة يا مدام على مسرح الكورسال»، قال فيها: أخرج نجيب الريحاني في هذا الموسم روايته الجديدة الأولى «الجنيه المصري» وفي الحق كانت الرواية تحليلية انتقادية خلقية من الطراز الأول. وقد وفق مؤلفاها بديع خيري ونجيب الريحاني أيما توفيق في تصوير ناحية من النواحي الخلقية في الإنسان في وقتنا الحاضر تلك هي عبادة المادة. صورت الفكرة وأخرجت على أحسن ما يكون التصوير والإخراج وشهد كل من رأى الرواية بنجاحها حتى لقد عدّها البعض أحسن ما أخرج نجيب. هكذا كان مبلغ متانة الرواية ونجاحها كرواية قوية ممتازة. أما نجاحها مادياً وأما الإقبال عليها فللأسف لم يكن كما يجب. ولعل السبب الأول هو خلو الرواية من المناظر الاستعراضية والرقص وما إلى ذلك. ولقد حدثنا نجيب قبل ابتداء الموسم عن عزمه على أن تكون رواياته كلها هذا الموسم من نوع «الجنيه المصري» خلقية انتقادية تحليلية لاذعة في فكاهتها خالية من الرقص والاستعراض، ولكنه لم يلبث - أمام ما رأى من نفسية الجمهور واتجاه ميوله وعدم استساغته لروايته الأولى - أن رجع عن عزمه الأول وأن يعود سيرته الأولى في إرضاء رغبة الجمهور لا في إرضاء فنه الذي كان جديراً بكل تشجيع وتقدير. وأعلن عن روايته الاستعراضية الجديدة «المحفظة يا مدام» وأتيح لنا أن نشهدها ثاني ليلة لتمثيلها إذ تعذر علينا مشاهدتها في الليلة الأولى لكثرة الإقبال وامتلاء جميع المقاعد. وهي كرواية استعراضية نشهد لها بالتفوق والإجادة فقد كانت غنية بمناظرها وملابسها بديعة فيما شهدنا من مختلف أنواع الرقص وسمعنا من جميل الأغاني الأفرنجية وكذا لحن «العمدة» الذي أنشده نجيب وقوبل بالاستحسان من الجميع.
بعد هذه المقدمة التوضيحية، تحدث الناقد سماحة عن موضوع العرض قائلاً: يبدأ الفصل الأول من الرواية فإذا نحن في كازينو يختلف إليه الرواد حيث يقعون في شباك الغانيات، ويصرفون في تبذير تحت تأثير مصانعتهن وخداعهن. ويصور لنا كيف أن الغانيات يلعبن بعقول الرجال ويرددن عبارات واحدة لكل طامع فيهن. كما يبرز لنا على لسان إحداهن كيف تنظر الواحدة منهن إلى الرجال فنجدها تقسمهم إلى ثلاثة: واحدة تقدره لجماله، والآخر تحتفظ به لمعاشرتها، والثالث تستغله فتبتز ماله. ويدخل الكازينو بعض السائحين ومعهم المترجم فنشهد تصويراً حقيقياً لأخلاق المترجمين عندنا، ولو إنّا نلاحظ أنه كان من الأنسب أن يلبس المترجم لباس المترجمين العرب لا البذلة! كما يلاحظ أن المترجم «جمجوم» كان يصب الشراب للسائحين وهم جلوس في الكازينو وهذا لا يتفق مع مهنة المترجم ولا مع نظام الكازينو الفخم الذي كانوا فيه. ثم يدخل الكازينو أحد العُمد «كشكش بك» ومعه تابعه فنشهد منظراً طبيعياً لأخلاق العمدة الذي يعرف «أن ساعة لقلبه وساعة لربه»، والذي لا تمنعه الأزمة الطاحنة من أن يأخذ بنصيبه من الحظ. ويجيد نجيب تمثيل هذا الدور وتسمع له حواراً «أنجلو أراب» جميلاً مع السائحين ومغازلة «وارد كفر البلاص» مع الراقصات. ويتحسس كل من العمدة والتابع محفظته فلا يجدها، وفي الأولى ثلاثون جنيهاً وفي الثانية عشرون. ولا أنكر أني لم أجد قرينة واحدة تثبت أنهما فقدتا في الكازينو، ولو أن واضع الرواية يقصد ذلك. وكان في استطاعته عند الإخراج أن يهيئ الأسباب لضياع هاتين المحفظتين .. كما ألاحظ أن الحالة التي ظهر بها العمدة وتابعه بعد فقد خمسين جنيهاً - وهما يدركان الأزمة وكانا يتحدثان عنها منذ دقائق - لم تكن طبيعية حين كتما الخبر، وكأن ما فقد كان خمسين قرشاً. وألاحظ أيضاً أنه لم يكن طبيعياً أن يدخل رفيق الغانية «كيكي» - بعد أن أنذرها مراراً - ويضربها ويعاملها بعنف وقسوة ثم ينتهي الأمر على ما انتهى إليه وهو بقاؤها في الصالة بل وبقاؤه هو أيضاً واشتراكهما في الحظ والسرور!! وكان الأنسب أن تخرج معه أو أن تتلطف معه وتخدعه حتى يوافق على البقاء. وفي الفصل الثاني نشهد استعراضاً جميلاً لكثير من الرقصات أعجبنا منها رقصة الشمسية وكانت بديعة جداً والرقص القوقازي. وكم كانت مفاجأة ظريفة حين نزلت إحدى الراقصات إلى الصالة وداعبت أحد النظارة وقبلته ثم صعدت إلى خشبة المسرح. وقد توقع ظريف أن هذا الفصل ربما يتكرر فعرض على صاحب هذا المقعد أن يعطيه إياه نظير خلو رجل فأبى!! ثم كان أن أسدلت الستار وخرج شخص من إدارة الفرقة يعلن أن محفظة وجدت وعلى صاحبها أن يدلل على أنها محفظته لترد إليه فوضع الكل أيديهم في جيوبهم يتحسسون محافظهم وأنا منهم. وبعد برهة ينادي أحد النظارة أنها محفظته وبجواره زوجته تؤيد قوله وتلوم عليه أنه يضيع حاجته زي العيال! ويتضح أخيراً أن هؤلاء ممثلون وأن ذلك منظر من مناظر الرواية فكانت مداعبة ظريفة. ولعل الرواية كما سميت باسمها «المحفظة يا مدام» بسبب هذا الفصل أو لعل هذا الفصل أدخل خصيصاً ليبرر تسمية الرواية بهذا الاسم. وفي الفصل الثالث ينتهي الأمر بحضرة العمدة وتابعه إلى أن يعملا في مهنة «الحانوتية» نتيجة بذخهما وتبذيرهما في الشراب والملاهي فيحترفان هذه المهنة ويكون نصيبهما في أول «دفنة» تصادفهما أن يحدث إشكال غريب حين استدعائهما لنقل ميت في الدور الثالث فيدخلان في الدور الثاني وكان به فرح حرص أهله على إقامته في صمت «على السُكيتي» مجاملة لجارهم المتوفى. وهنا نشهد موقفاً يغرق فيه الكل في الضحك حتى يتضح الأمر ويطرد الحانوتية وتدخل الراقصات لإحياء ليلة العرس .. إذن هي رواية استعراضية متينة لا يُستعرض فيها مناظر ورقص فحسب بل يُستعرض فيها مواقف تحليلية دقيقة في غاية الدقة لوصف نفسيات وطباع مختلفة.
ما ذكره الناقد «حماسة» عن المسرحية كان من وجهة نظره، بوصفه ناقد مجلة «المصور»!! أما ناقد مجلة «الكشكول» فكانت له رؤية أخرى، يحب أن نقرأها كذلك، وفيها قال: عذراً إذا أنا كنت جريئاً وأسميت ذلك التهريج المعيب رواية، ويقولون عنه إنه نوع من الريفيو، أو الاستعراض!! ولكن شيئاً من هذا لم يكن .. أي شيء استعرضته فرقة الريحاني؟ لاشيء .. أبداً!! إذن ما الذي رأيناه؟ رأينا الأديبين النابغين – نجيب الريحاني وبديع خيري - يتمخضان عن تمثيل حكاية تقال في المجامع والمقاهي!! وليسمح لي القارئ: أقول إننا شاهدنا منظراً فخماً مثل حديقة مرقص، وشاهدنا في الفصل الأول صورة المغفلين تشرب على حسابهما مومس يبتز أموالها عاطل! وشاهدنا في الفصل الثاني رقصاً مختلفاً من فرقة الراقصات ولم نر شبحاً لممثل في الفرقة! ثم شاهدنا منظراً ثالثاً بين الفريد وهو على حافة المسرح مع جمجوم وحسين إبراهيم والقلعاوي وقد جلسوا بجوار الجمهور ليعلن عن محفظة وجدها أحد رجال إدارة المسرح. وفي الفصل الأخير شاهدنا كشكش في زي حانوتي بعد أن كان عمدة ومثل الحكاية التي يقولها الجالسون. وختمت الرواية بحيث لا نعلم لأي شيء خُتمت! وملاحظاتنا على ذلك تتمثل في: لم يكن للاستعراض أية فكرة، إذ ما هو الذي يستحق العرض .. هو جلوس امرأة تطلب شمبانيا على حساب جليسها بشيء يملأ فصلاً، ليمثلو إن هذا مُشاهد في صالة بديعة التي أنست الناس آلام مسرح کشکش! وأصل حكاية «صفع قفا علي بك» معروفة عند أولاد البلد من سنين، وحدثت في مجلس الشاعر حافظ بك إبراهيم، وذكرها لشوقي بك في مجلس كان فيه سامي الشوا وآخرون، وكان الجميع في قهوة الشيشة .. والحكاية عبارة عن أن جماعة مغرمون بضرب الأقفية كلما رأوا رجلاً عريض القفا صفعوه واعتذروا له بأنه شبيه صديقهم علي بك. وهذا ما رأيناه في استعراض الريحاني فقد أشبع محمد مصطفى صفعاً. وإذا كان الغرض من التأليف جمع حكايات فقل على التأليف والتمثيل والدنيا السلام وأي شيء مثله كشكش هل كان يمثل عمدة كفر البلاص؟! وهل كانت الليلة ليلة الصفع على الأقفية؟! أنه لتهريج حقاً، نربأ بنجيب أن يجعله أداة انتحاره الفني. وحكاية الحانوتي موجودة في كتاب من حُسن المقال في الحواديت والفوازير والنوادر والأمثال جمع و ترتيب أمين سيد أحمد الزيات وطبع مطبعة النجاح وثمنه مليمان!! وها هي الحكاية نرويها لك بنصها: كان فيه عروسة بيزفوها، وبعدين بنت الجيران ماتت، وكان أهل الفرح منتظرين العوالم قامت الندابة والحانوني دخلوا مسكوهم ضربوهم وقالوا لهم الغلطة غلطة من أعطاكم العربون، فقال الحانوتي والندابة زباينكم شايلين العيلة واحد واحد. فضحك هذه الحكاية الثانية التي مثلها كشكش، أخذها بديع أو نجيب من كتاب «بنكلة» [عملة مصرية قيمتها مليمان] مثلوها على مسرح الكورسال ولا يخجل الاثنان! أما وقفة الفريد ومخاطبة الجالسين في الصالة. فهذه ليست مبتكرة، فقد شاهدناها في رواية «نقاوة عيني» التي مثلها المرحوم محمد بهجت سنة ???? على مسرح كازينو دي باري. وكان صادق الإنجليزي يمثل في الصالة وبهجت فوق المسرح، وكان هذا لحكمة، وهو أن بهجت كان يريد أن يلبس بدلة الدكتور ليشتغل طبيباً مزيفاً، وخوفاً من أن يترك المسرح بلا كلام فيبرد الموقف جعل المؤلف أحد الجالسين - وهو ممثل - ينتقده على لبس البنطلون وصنع مثل هذا أمين عطا الله في كازينو دي باري وكان جالساً مع الجمهور وكان بباوي أفندي - الممثل عند الكسار الآن - هو الواقف على المسرح. والرقص هو ما نشاهده كل يوم في الملاهي وممن رأيناهم راقص وراقصة كانا في روض الفرج عند عز الدين كشكش التقليد. والنتيجة أن ليس هنالك من جديد قدمه الريحاني لجمهوره، ولكن المسألة لم تخرج عن أن الريحاني عدو نفسه وقد قتل بيده لا بيد عمرو ولم تعد تلك الشخصية القوية تستطيع الاحتفاظ بكيانها ما دام المؤلفان يعتقدان أن السطو على كتب الحواديت ينفع لتأليف الروايات. وبعد هذا يقول مدير الكورسال إن التمثيل في مصر لا يجد إقبالاً من الجمهور والحقيقة أن الجمهور غير مغفل ولا يهمه من المسرح إلا الجديد القوي. أما تلك الخزعبلات فقد انقضى عهدها وأصبح الناس ذوي عيون ترى وألسنة تنطق بلا مواربة ولا خداع ولا ملق ويقولون للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت.
ويختتم الناقد مقالته بكلمة يوجهها إلى الممثلين قائلاً: «عذراً إخواني الممثلين إن لم أذكر أحداً منكم، فالصداقة لا دخل لها بالعمل وإن كنتم تريدون أن تذكروا كغيركم وأن تحافظوا على مراكزكم القديمة فلتطالبوا أستاذكم الأكبر بأن ينشط قليلاً حتى لا يهوى ويأخذكم في رجليه».
ظل الريحاني يمثل «المحفظة يا مدام» على مسرح الكورسال، وانتقل بعرضه إلى مسرح برنتانيا – لأن الكورسال كان محجوزاً لفرقة فرنسية – وظل الريحاني يعرض المسرحية مع إعادة لعروضه السابقة المعتمدة على شخصية كشكش بك، بل وبدأ يغري جمهوره بإشراك المطربة «أم كلثوم» لتغني قبل العرض أو بعده أو بين فصول مسرحياته! هكذا أعلنت جريدة «أبو الهول» في أوائل فبراير 1932، قائلة تحت عنوان «احتفالاً بثاني يوم عيد الفطر المبارك»: «حفلتان فقط بتياترو برنتانيا نهارية وليلية، الموسيقارة أم كلثوم ونجيب الريحاني كشكش بك. ثاني يوم العيد الثلاثاء 9 فبراير الحفلة الأولى نهارية الساعة 6 ونصف مساء والحفلة الثانية، ليلية الساعة 9 ونصف مساء وتطربكم في الحفلتين بصوتها الساحر ملكة الإنشاد والموسيقارة المحبوبة الآنسة «أم كلثوم» بقصائد وطقاطيق وأدوار جديدة لأول مرة لم يسبق سماعها على تختها المشهور وعلاوة على الطرب يمثل الأستاذ نجيب الريحاني كشكش بك مع فرقته الرواية المحبوبة «حاجة حلوة»، كوميدي فودفيل ذات ثلاثة فصول مضحكة بقلم الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري، ثلاثون راقصة باريسية تظهر على المسرح المصري. يمثل كشكش بك «الأستاذ نجيب الريحاني» والأسعار مخفضة كالآتي: 100 قرش صاغ بنوار ولوج، 20 قرشاً ممتاز، 15 قرش مخصوص، 10 قرش فوتيل، 7 قروش بلكون، 5 قروش عمومي. بادروا بحجز محلاتكم من الآن من شباك التياترو».