كلاكيت «سابع مرة» (ريا وسكينة) رؤية خاصة

كلاكيت «سابع مرة» (ريا وسكينة) رؤية خاصة

العدد 873 صدر بتاريخ 20مايو2024

على مسرح الجمهورية قدمت فرقة «فرسان الشرق» عرضها العشرين منذ تأسست عام 2009م كإحدى فرق وزارة الثقافة، مستلهمة التراث المصري فى معناه المطلق تاريخيا وحضارة لتقديم فن مسرحي راقص يخرج فن الباليه التقليدي فى صورة رقص حديث غنى بالحركة والحيوية والنشاط.
 ومخرجة العرض «كريمة بدير» نجحت اليوم، كما نجحت من قبل فى تقديم عرض عالي الاحترافية صعب الأداء الحركي المرهق لكلا الطرفين الشباب والفتيات، والدقة عنصر جوهري فى الأداء المسرحي لأن النص – أيا كان نوعه – يٌصنع أمام المشاهد كل ليلة بنفس الطريقة من شخصيات العرض، فما بالك إذا كان العرض راقصا.. إنه يحتاج مزيدا من الدقة والانضباط والتحكم فى حركات الجسد على المسرح أمام المتفرجين ومع أن هذه العناصر لم تعد غريبة على صاحبة العرض ومخرجته الفنانة «كريمة بدير» فهي تستحق الإشادة لجديتها.. هذه الفنانة جادة جدا فى عملها وتقدم مشروعها الفني خلال ستة عشر عاما من الجهد والإنتاج فى تقديم عشرين عرضا مسرحيا راقصا فيه الجمال والمتعة بالرغم مما يحمل الموضوع – أحيانا – من معاناة وألم كما فى عرض «ريا وسكينة».
  الجديد فى العرض أن محرجته تقدمه للجمهور من منظور الطفلة «بديعة» ابنة «ريا».. الطفلة التى شاخت فى طفولتها من هول ما رأت من أمها وخالتها وعصابتهما.. الطفلة التى لم تعش الطفولة، وإنما شيعت من مقبرة البيت إلى مقبرة الموت من هول المأساة التى دفعت ثمنها وليس لها ذنب إلا أن عينيها رأتا وأذنيها سمعتا ما لم يكن لها أن تراه وتسمعه.
 صمم ديكور العرض وهو ديكور رئيسي بلون رمادي مقبض كالسجون أو المقابر وهو «البدرون» الذى كانت الطفلة «بديعة» تطل عليه من نقطة فى أعلى المكان.. ليس فيه أثاث تتدلي من السقف أحبال المشانق التى تؤكد المعني الذى يراه المتفرج فى مقدمة خشبة المسرح وهو الجماجم المتراكمة فى شكل هرمي وهو حصاد أعمال العصابة.
  وهذا هو جو العرض الذى يستشعره المتفرج بمجرد جلوسه للمشاهدة، أما التهيئة النفسية للجمهور فبدأت قبل أن يحتل مقاعده فى الصالة العرض، قدمته فرقة «أولاد النيل» بملابسها البيضا، وأدواتها الموسيقية من دفوف ومزامير وإنشاد ورقص يوحي بالرغبة فى التطهر من الخطايا إلى رحمة المغفرة لإخراج الجمهور من أجواء الواقع المُعاش إلى أجواء خاصة بالإنشاد والفن والموسيقى والإيقاع العنيف الذى يستدعي مشاعر الحضور ويخرجهم من بلادة الواقع اليومي إل عالم الفن. بدخول الفرقة المنشدة من باب دخول المشاهدين إلى الصالة إلى المسرح ثم الخروج ينتهي دور المستشعر المحرك للمشاعر ويتهيأ الجمهور لحالة «التمسرح» أو «التمرقص» – إذا صحت العبارة – ليبدأ العرض بارتفاع بطئ مخيف حزين قبل أن يندفع عبر مشاهده إلى اللهو والعنف والغواية.. إلى القتل.
 كل هذا والطفلة «بديعة» تجلس على سلم فى أعلى المسرح تنظر إلى أسفل ولا تتكلم. ترى ما يجرى ولا تتكلم حتى تحين لحظة الإفشاء بما رأت.
   إنه عرض صعب جدا وجميل جدا بالرغم من قسوة الحدث الذى يعبر عنه، كما له وجود مخيف فى ذاكرة الناس سواء داخل المسرح أو خارجه فمنذ عرفوا حوادث أو جرائم «ريا وسكينة.
  من حق الشخصيات التى قدمت العرض أن يعرفها الناس ويتعرفوا على نوعية نادرة من النجوم قد لا يكون لها انتشار شعبي عام، ولكنهم لوجودهم «قيمة» فنية رفيعة يعتز بها من له صله بالفن وفن الرقص بشكل خاص، هذا الفن الذى عبر عنه العلامة «الطهطاوي» فى كتابه الفريد «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» وهو يصف ما شاهده هناك فى فرنسا عن فن الباليه وأطلق عليه «الباللو» قال «إنه نط مخصوص ليس كرقص نسائنا وإنما هو رياضة فيها «الشَّلْبَنَة» أي القوة والفتوة والبطولة.. هؤلاء الفنانين والفنانات فيهم «ياسمين سمير»، و»نوران محمد»، اللتان تبادلتا دور «ريا»، و»دنيا محمد» و»نورهان جمال» اللتان تبادلتا دور «سكينة» و»فاطمة الشبراوي» التي لعبت دور «بديعة» ومن الرجال «هاني حسن» و»محمد هلال»فى دور «نابش القبور» ويطول الحديث فى كل من لعبوا دَوْرْا فى تقديم العرض سواء ديكور «أنيس إسماعيل» الذى صمم الملابس أيضا واستوحى عصرا قديما نسبيا فى مطلع القرن الماضي فى الإسكندرية التى جسد نساءها «محمود سعيد» فى لوحته العالمية «بنات بحري» وكان استلهامه فرحة بالحياة على بساطتها، بينما جعل «أنيس إسماعيل» من ملابس البهجة الصورة المعاكسة للمعني المناسب للموضوع «المحزنة» كأن الملاءة السوداء البهجة عند «محمود سعيد» صارت ثوب حداد، وكأن جمال العينين عند «محمود سعيد» تحول إلى ظلمة سوداء عند نساء العرض.
 * الحقيقة الشكر موصول لكل من ساهم فى تقديم العرض الجميل الناجح الذى أرجو أن يستمر، وهو بالفعل مستمر، لتقديم المزيد من الجهد والاكتشاف.
* وأخيرا.. لماذا «ريا وسكينة»؟ لقد حول الفن جرائم المرأتين «لجندا» استلهمها فنانوا المسرح والسينما لتقديم تراجيديا مصرية منبعها الواقع وليس خيال المسرح كما فى الأساطير. قدمها «نجيب الريحاني» فى عام 1922 على مسرحه بعد الحادثة بسنة، وقدمها «صلاح أبو سيف» للسينما فى تراجيديا مقبضة مخيفة بعد اثنين وثلاثين عاما فى فيلم «ريا وسكينة» عام 1953، ثم قدمها «حسين كمال» بعد تسعة وعشرين عاما من إنتاج الفيلم السينمائي مسرحية غنائية راقصة، كوميديا كتبها «سمير خفاجي» عام 1980، وبتأثير نجاح المسرحية طهر سنة 1983 فيلم «ريا وسكينة» إخراج أحمد فؤاد، وفد فدمها المخرج جمال عبد الحميد مسلسل بنفس الاسم «ريا وسكينة» كتبها صلاح عيسي عام 2005، وهاهي المخرجة «كريمة بدير» تقدمها مأساة واقعية بعد عشرين عاما من إنتاج المسلسل ومازالت تتمتع بنفس البريق الجاذب كل مرة.      


عبد البديع عبد الله