العدد 874 صدر بتاريخ 27مايو2024
تحدثنا عن مسرحية «أولاد الحلال»، ونقلنا كافة تفاصيل وظروف عرضها، بل وذكرنا قصتها بصورة موسعة، ورغم ذلك فهناك تفاصيل أخرى ومواضيع مهمة داخل المسرحية ظهرت عندما عُرضت على خشبة المسرح، لاحظها ناقد مجلة «المصور» ونشرها في مقالة بتاريخ مارس 1932، وما لاحظه الناقد ونشره لم نذكره سابقاً، مما يُعدّ جديداً ومفيداً لا سيما وأن نص المسرحية لا نملكه، مما يعني أن أية معلومة منشورة فهي إضافة للمسرحية!! وأهم ما لاحظه الناقد خلو العرض من أهم عاملين من عوامل نجاح عروض الريحاني، وهما الغناء والرقص، وفي ذلك يقول:
إن الرواية خلت من الألحان التي اعتدنا سماعها في روايات الفرقة، والتي تحبب إلى الجمهور ارتياد مسرح الريحاني. كذلك خلت من الرقص وهو الآخر عامل من أهم العوامل لنجاح الفرقة، إلا أن الرواية مع ذلك كانت خفيفة الروح ناجحة في كل ناحية من نواحيها. فالحاج «شطانوفي» مزارع ريفي تربى ابن أخيه في كلية الطب وخرج منها فتعرف إلى شاب عاطل هو «قراقيش» فرأيا تأليف شركة وهمية لابتزاز أموال البسطاء والسذج وكانت فريستهم الأولى أحد سكان الوجه القبلي وهو «المقدس فلتس» فسلباه مبلغ مائتي جنيه وأفهماه أنهما سيمنحانه بموجبهما أسهماً في شركة الدواجن. إلا أن العهد قد طال بهما دون أن يرى الرجل أثراً لشركة أو ما شابهها، فجاء يرغي ويزبد ويطالب بأمواله أو برفع شكواه لأولي الأمر. وجاء الحاج شطانوفي لزيارة ابن أخيه وهو يعتقد أنه أصبح طبيباً يؤمه المرضى للاستشفاء. وكانت أول مقابلة له في العيادة مع قراقيش الذي ظل يهرف معه من غير حساب ظناً منه أن الحاج شطانوفي هذا دائن وفد للمطالبة بماله. وأخيراً تبينت له الحقيقة فأفهم العم أنه طبيب أمراض عقلية وأنهم اعتادوا أن يخاطبوا زبائنهم على هذا النحو تخفيفاً لوطأة الألم عليهم، فيقتنع الحاج شطانوفي بذلك. ويعود «المقدس فلتس» للمطالبة بماله فيلتقي بالحاج شطانوفي الذي يظنه معتوهاً فيهرف له الحاج ببعض خرافات يثور لها فلتس فيهتاج غاضباً إلى أن يصل الطبيب ومعاونه وخدمه فيعتقلون الرجل. وأخيراً يبدو للعم أن ابن أخيه يسير سيراً معوجاً، فيأمره بالسفر معه إلى الريف على أن يفتتح له عيادة هناك. فيصطحب الطبيب صديقه العاطل، وهناك يتزوج من فتاة غنية ترفعه من حالة الاحتياج التي كان يقاسيها إلى حالة الرغد والرفاهية التي ينعم بها هو وصديقه أيضاً. ولكن أمراً واحداً هو الذي كان يلبسه الطمأنينة ذلك هو أمر العيادة التي أجبره عمه على افتتاحها غير أن صديقه يحمل العبء عنه ويأتي بكمية من «بودرة العفريت» يعطيها لكل مريض يفد إلى العيادة. وأخيراً ينشأ سوء تفاهم مستحكم بين الطبيب وزوجته التي ضبطت فتاة مع زوجها فتفر هذه تاركة كل شيء ثم تلجأ إلى أحد الفنادق إلى أن يتدخل الصديق وبحيلة ظريفة يجمع شمل الزوجين فتعود السعادة مرفرفة بأجنحتها عليهما من جديد.
بعد هذا الملخص السريع، بدأ الناقد يناقش ظاهرة مرّت علينا كثيراً دون الوقوف عليها بصورة جدية، وهي ضعف الفصل الثالث في أغلب عروض الريحاني، بعكس قوة الفصلين الأول والثاني! لدرجة أن بعضهم قال – فيما سبق – إن الريحاني وبديع يقومان بتأليف الفصلين الأول والثاني ويقوما بالبروفات والتقدم إلى الرقابة بالنص للموافقة عليه، رغم أن النص مكوّن من فصلين فقط!! وبعد الموافقة الرقابية وعمل البروفات، يضغط عليهما وقت الافتتاح مما يجبرهما على كتابة الفصل الثالث بصورة متسرعة غير محبوكة، لذلك يظهر أمام الجمهور في صورة أضعف من الفصلين الأول والثاني!! وهذا ما لاحظه الناقد، واستفاض في شرحه والتدليل عليه، قائلاً:
إن أخذنا شيئاً على تأليف هذه الرواية، فليس إلا عدم تناسب الفصل الأخير في القوة مع سابقيه، ذلك لأن الفصل الأول مليء بالحوادث والمفاجآت والنكات الظريفة، كذلك كان الفصل الثاني، أما الأخير فهو المشكلة الكبرى في جميع روايات الريحاني. ويرجع هذا بالطبع إلى ما سبق أن قلناه أكثر من مرة وهو أن الفرقة قد لا يشاهد أحد من أفرادها آخر فصول الرواية إلا يوم تمثيلها وقد تبدأ البروفات بعد نهاية تأليف الفصل الأول ثم يستمر الممثلون في أدائها إلى ما قبل ظهور الرواية بيوم أو اثنين حتى يفاجئهم المؤلفان ببقية الرواية. تلك هي الطريقة العقيمة التي يجري عليها العمل في الفرقة وهي السبب المباشر لضعف الفصل الأخير في أكثر روايات الريحاني.
وبدأ الناقد بعد ذلك شرح فكرته والتدليل عليها بضرب أمثلة من العرض، قائلاً: قلنا إن الفصل الأول حوى كثيراً من المواقف المثيرة للضحك، سواء في كيفية تكوين الشخصيات أو فيما كان يخرج من أفواه الممثلين من نكات، ولعل مما يدعو إلى الإغراق في الضحك أن يحاول الريحاني إفهام المقدس فلتس أن في استطاعة شركة الدواجن أن تأتي بأرباح جمة إذا اشترى المساهمون دجاجتين اثنتين، ويسير في الإقناع بطريقة فلسفية يتخيلها «المقدس» حقيقة واقعية ويرتاح لها ارتياحاً يطمئنه على ماله. ذلك لأن الدجاجة الواحدة تبيض في اليوم بيضة، وبما أن عدد أيام السنة 365 فيكون نتاج الدجاجة مثل هذا العدد من البيض تخرج منه 65 (ما بين مفشش وممشش - على حد تعبيره) فيكون الصافي 300 بيضة في السنة وهو مبلغ جسيم يمكن تفريخ الدجاج منه، وبمعنى آخر يمكن أن تكون الدجاجتان رأس مال لشركة كبيرة لتربية الدواجن، فيرضى «المقدس فلتس» أن يساهم فيها وحده بمائتي جنيه فقط لا غير. كذلك يحاول كشكش أن يدخل في روع المقدس أيضاً أن حدأة [حداية] تضاربت مع بازي [نسر] فوق سلك التليفون لأنها لم تشأ أن تنظف له «ياقاته» وأنه نشأ عن ذلك تعطيل الخطوط التليفونية لأن القوى الكهربائية تأثرت وعطلت السنترال.
ويستمر الناقد في وصف بعض مواقف العرض، والتي لم نقرأ عنها من قبل، قائلاً: ومن المواقف الظريفة في الرواية أن وفدت فتاة مع عشيقها، وهو رجل مخيف عملاق إلى عيادة الطبيب لأخذ حقيبتها التي جاءت خطأ في أمتعة الطبيب بدل أخرى وجدتها في أمتعتها وكان الاثنان مسافرين في قطار واحد، وكانت لهما لحظة هناء في القطار بقى أثرها عالقاً في الفكرين. وظن عشيق المرأة لكثرة ما رأى على الجدران من صور أن الطبيب مصور فتوغرافي وأوهمه هذا بذلك أيضاً، فطلب العشيق أخذ عدة صور له ولخليلته، وارتبك الطبيب ارتباكاً فرأى صديقه المنقذ «قراقيش» أن يأخذ بيده في ورطته ودخل إحدى الحجرات ثم عاد بعد هنيهة يحمل معه ما يشبه آلة التصوير مغطاة بقطعة كبيرة من الشاش الأسود، وظل الطبيب يوهم بأنه يأخذ الصورة الفتوغرافية بتلك الآلة إلى أن نفذ صبر الرجل فاستشاط غضباً وهجم على الآلة وإذا هي ثلاث مقشات مثبتة من أعلى في «وعاء القمامة». هذه بعض مشاهد الرواية ولسنا بطبيعة الحال في صدد تعداد تلك المواقف، إلا أننا أردنا أن نقرب للأذهان ما شعرنا به من ارتياح وابتهاج حين مشاهدة الرواية.
واختتم الناقد مقالته بالحديث عن الممثلين، قائلاً: فقد أتقن الجميع أدوارهم وخصوصاً الأستاذ نجيب الريحاني الذي كان مصدر مرح متواصل من أول القصة إلى آخرها. كذلك كان عبد اللطيف جمجوم في دور «شطانوفي» وليسمح لنا الجميع بأن نؤدي شهادة لا ريب فيها وهي أن محمد مصطفى كان في دور «المقدس فلتس» أظهر الممثلين وأقدرهم على فهم الشخصية التي اضطلع بها، ولعل لنشأته «الصعيدية» دخلاً كبيراً فيما شاهدنا منه من إبداع وإتقان لا يمكن أن يكونا إلا من «رودلف فالنتينو الأسيوطي». أما الآنسة كيكي والسيدة فكتوريا كوهين فقد نجحا نجاحاً لا غبار عليه وخصوصاً الثانية التي تقمصت شخصية الوالدة ولم تفتها فيها صغيرة أو كبيرة. كذلك أعجبنا بالقلعاوي في دور المريض العصبي وبالتوني والفريد وعبد النبي وحسين إبراهيم في أدوارهم، والخلاصة أن الريحاني يهنأ على تلك المجموعة الفذة التي لا ينقصها إلا موالاة العمل في إخراج روايات جديدة تستطيع بها أن تتملك أعنة إعجاب الجماهير.
بعد أيام قليلة من هذا العرض، نشرت مجلة «الحسان» إعلاناً للعرض الجديد لفرقة الريحاني، قالت فيه نصاً: «تياترو برنتانيا بشارع عماد الدين يقدم ابتداء من الاثنين 21 مارس والأيام التالية بدعة هذا الموسم لأول مرة «الرفق بالحموات» .. تحفة من أمتع تحف الأستاذ أمين صدقي، يقوم بدور أبو رابية «نجيب الريحاني»، الآنسة كيكي في دور زوزو، الآنسة إيفا الراقصة الفاتنة. كل يوم خميس وجمعة وسبت وأحد حفلات نهارية للعائلات، أسعار مناسبة للحالة الحاضرة»!! وبالبحث في هذه الفترة لم أجد دليلاً واحداً يثبت أن الريحاني مثّل هذه المسرحية!! ولم أجد مقالة أو إشارة في مقالة تُفيد أن هذا العرض قدمته فرقة الريحاني، فظننت أنها مشروع مسرحية لم يتم عرضها .. ولكن في منتصف أبريل 1932 وجدت الريحاني ينشر إعلاناً في جريدة «البلاغ» بمناسبة عروض عيد الأضحى المبارك، جاء فيه الآتي نصاً: «احتفالاً بعيد الأضحى المبارك، جوق نجيب الريحاني «كشكش بك» بتياترو الهمبرا بإسكندرية، السبت 16 إبريل سنة 1932 الساعة 9,30 مساء أول يوم العيد «أولاد الحلال»، الأحد 17 إبريل ثاني يوم العيد حفلتان الأولى نهارية 5,30 «أولاد الحلال» والثانية ليلية 9,30 «الجنيه المصري». الاثنين 18 إبريل سنة 1932 ثالث يوم العيد حفلتان «الرفق بالحموات»، والأخرى «علشان سواد عينيها». الأسعار زهيدة جداً بالنسبة للحالة الحاضرة». وهذا الإعلان يثبت بلا شك أن مسرحية «الرفق بالحموات» تم تمثيلها من قبل!! وللأسف لم أجد شيئاً عنها نعرف منه موضوعها أو أي شيء عن عرضها أو ممثليها وأدوارهم .. إلخ!!
في موسم الصيف انتقل الريحاني بفرقته إلى مسرح كازينو الفانتازيو بالجيزة، وحاول إعادة عوامل النجاح لعروضه، فأدخل الغناء والرقص في مسرحية «أولاد الحلال»، التي مثلها في الموسم الشتوي خالية من هذين العاملين الجاذبين للجمهور!! وكتب عن ذلك «مصطفى القشاشي» صاحب مجلة «الصباح» قبل أن ينشر كلمة الكاتب «واو» - كما وقع على مقالته - المنشورة في المجلة أواخر يوليو 1932، قائلاً تحت عنوان «فرقة نجيب الريحاني على مسرح الفانتازيو»: كوّن الأستاذ نجيب الريحاني فرقته من جديد وبدأت عملها على مسرح الفانتازيو من يوم الخميس الماضي برواية «أولاد الحلال» وكانت الفرقة قد أعلنت عن ظهور فرقة راقصات أثناء التمثيل فلما لم تظهر الراقصات على المسرح اعتذر عن عدم حضورهن بأنهن لم يحضرن من باريس وقد قوبلت هذه «النتشة» من الجمهور بالتصفيق والإعجاب وقد حضرت فرقة الراقصات وعملت من اليوم الثاني. والفرقة مكونة من الأستاذ نجيب الريحاني، محمد التوني، عبد العزيز أحمد، الفريد حداد، جبران نعوم، عبد النبي محمد، محمد مصطفى، القلعاوي، كيكي، فيوليت صيداوي، شفيقة جبران، فكتوريا كوهين، صالحة قاصين. فنتمنى للأستاذ الريحاني بعودته إلى العمل دوام النجاح حتى يؤدي ما يطلبه الجمهور بجد ونشاط وحتى لا يحرم المعجبين لشخصيته المحبوبة. وتلقينا من الأديب صاحب الإمضاء ما يلي: «وهكذا عاد الأستاذ الريحاني للتمثيل في حديقة «الفانتازيو» بعد تردده بين اليأس والأمل. وقد أسعدني الحظ أن كنت من شهود حفلة الافتتاح. فأدهشني ما رأيت من شدة ازدحام الجمهور حول «شباك التذاكر» قبل موعد افتتاحه بزمن طويل، وكأنني أشهد يوماً من أيام «حمار وحلاوة» حينما كان الجمهور يتقاتل في سبيل الحصول على تذكرة تمكنه من مشاهدة الريحاني في «الإجبسيانة» منذ اثنى عشر عاماً، وهذا رغماً من ضعف «الركلام». وما كاد الأستاذ نجيب يبدو على خشبة المسرح حتى سادت الحديقة عاصفة من التصفيق يتخلله الهتاف وقتاً طويلاً كان الأستاذ نجيب خلاله ينحني للجمهور شاكراً وقد بدا عليه التأثير الشديد حتى لم يتمالك روعه إلا بعد دقائق لما أبداه الجمهور من التقدير الشديد والعطف. وقد كانت، وأيم الله، ليلة الافتتاح زاهرة تجلت فيها عبقرية الأستاذ ونبوغه مما جعل الجمهور في مرح وسرور طول الوقت الذي استغرقته الحفلة! وقد أحسن الأستاذ أن جعل «المشروب» اختياراً، إذ أن هذا مما يزيد الجمهور إقبالاً خصوصاً في مثل هذه الأزمة الخانقة. ويا حبذا لو استغل الأستاذ القطعة الفراغ المخصصة للرقص فجعلها مكاناً لمشاهدة التمثيل لأنها بمواجهتها للمسرح تعد أهم مكان في الحديقة كلها، وخصوصاً لأن المخاصرة [أي الرقص الثنائي للزبائن] لا تلقى إقبالاً هناك لأن معظم جمهور الريحاني إن لم يكن كله من علية القوم ومن أرقى طبقاته، وهم لا ينظرون بعين الارتياح إلى الرقص أمام جمهور كبير من الناس. كما أننا نؤمل أن يكون الأستاذ نجيب عند حسن ظننا به من اليقظة والانتباه والحذر، فيحسب حساباً للفن فلا يعود يجزع إذا ما صدمته الظروف صدمة ما! وإن السرور ليملأ أفئدة جمهور الريحاني ومحبيه لعودته، ويكفيه دليلاً ما يراه بعيني رأسه من تشجيع الجمهور، وتهافته على شهوده، كما نؤمل أيضاً أن يستزيدنا من فنه لنزيده إقبالاً وتشجيعاً، ولكل مجتهد نصيب».