العدد 875 صدر بتاريخ 3يونيو2024
بناء الجسور – أي جسور – يتطلب مهارة كبيرة . تتطلب الجسور بين الشخصية انضباطا وتقنية كبيرة بشكل مخيف . ولا توجد تدريبات ممكنة ؛ اذ لا يمكننا أن نستشعر أو نشعر بما حولنا ونتذكر التجارب ونشعر بالإمكانيات والعقبات والمزالق ... ثم نفعل ذلك , وننجح أو نفشل . انه « قدر الحظ « كما يسميه ستانسلافسكي (10) , مؤكدا أن المؤدين يجب أن يفعلوا خلاف ذلك . ويفعلون في الواقع .
إنهم يبنون مادة أدائية , ويطورون اختلافات لا حصر لها من التفاصيل الدقيقة, ويظلون معلقين , ويفتحون لحظات تستدعي الدوافع الإبداع في الأداء . ولا يمكن التنبؤ في معظم أشكال التفاعل حيث يرتد فناني الأداء في مجموعات عن بعضهم البعض في حرارة اللحظة , ويفاجئون أنفسهم كما في الحياة ويجدون قناعاتهم الخاصة – لكي يفعل المتفرجون نفس الشيء . ويقول ستانسلافسكي « فننا حي . فما كان جيدا بالأمس , لن يستخدم اليوم , والأداء اليوم سوف يختلف عن الأداء في الغد « (11) . الاختلافات المكررة والمنضبطة وغير المتوقعة تميز كل فن : ضربات الفرشاة في الرسم ؛ والأزميل في النحت . فعندما تضرب الفرشاة يحدث ذلك . وتبقى ثابتة على تلك اللوحة , ولا يوجد شك في تكرارها أم لا : اللوحة لا يمكن أن تتكرر . ونظرا لأن الزمن هو أساس الأداء , فانه يختلف بشكل أساسي , إذ أن إبداعه ينبض بالحياة , وعلى عكس الرخام والأصباغ , لا توجد نتيجة ثابتة لأي فعل يبقى يمكن أن يتأمله الفنانون , أو الناتج الذي يمكن أن نملكه . وقد نشبهها بالتنويعات الموسيقية الدينامية شديدة الانضباط من خلال الموسيقى , فالفحص الدقيق للموسيقى يمنح الموسيقيين جسرا ثابتا للترابط في حين أن أفعال الإنسان المعقدة للغاية والمتعمدة تتحدى أي فحص من هذا القبيل (12).
تأمل ذلك التعقيد : نحن قادرون على أن نبدأ أي فعل قبل سبع ثواني من معرفة أننا نريد القيام به (13). والشخص الذي في حالة غيبوبة لمدة اثني عشرة سنة يقدم إجابات « أجل /كلا» على أسئلة محددة(14) . والطلاب الذين يدونون ملاحظات بخط اليد يتعلمون أسرع من الآخرين الذين يأخذون ملاحظات الكمبيوتر (15) , إذ يجسد نظامهم الحركي ككل تدفق الكتابة والمنحنيات والتوقفات والخطوط والنقاط والتغيرات في الطاقة والزمان والمكان – تتجلى خصائص الكتابة اليدوية . وفي المقابل فان عمليات إزاحة الأصابع المتكررة تضغط على لوحات المفاتيح رأسيا وأفقيا وقطريا .
المفتاح الذهبي للإنسان هو استجاباته المتجسدة للمحفزات والدوافع والنوايا التي لا يمكن التعرف عليها في الغالب . وفي هذا التدفق المتجسد , تتطور الاستجابات إلى الأفعال التي تجعلنا ما نحن عليه , مع احتفاظنا بكل ما كنا عليه (تجريبيا ووراثيا وتطوريا) , وتهيئنا لما قد نواجهه . وهكذا فإننا نبني جسورا مع بيئتنا – وبالتالي نبني جسورا إلينا . والعمل مع الممثلين في الأستدويو , سؤال يظهر بانتظام . انه يسأل عن الجسور بين المؤدين في الأداء , كما يسأل أيضا الجسور بين الشخصية : « كيف يمكننا تسريع عملية التفكير من أجل الوصول بشكل أسرع الى القرار الأمثل للفعل العادل فيما يتعلق بالآخر , وبالتالي فيما يتعلق بأنفسنا ؟
فقد نشأت مع التمارين المصممة على مدار السنوات , وأعيد تفصيل هذه التمارين نفسها . وتدور مثل هذه التمارين حول الحرية والانضباط الذي يتيح الحرية , وهذا الانضباط يشبه نظام الخلايا العصبية المرآتية . فلكي نفهم أفعال الآخرين , يردد نظام الخلايا العصبية المرآتية صداهم من خلال التجسيد , وبالتالي نكتسب بعضا من البصيرة في تلك الأفعال . وفي نفس الوقت , مع صرامة الذاكرة, تتلاعب بتاريخنا , وتصقله في هذه العملية . وفي الازدهار النهائي , من خلال القيام بكل ما هو ضروري لتنفيذ هذه الأفعال المنعكسة , يتعرف نظام الخلايا العصبية المر آتية عليها باعتبارها لا تخصنا – وبالتالي يمتنع عن تنفيذها فعليا .
هذه هي الطريقة التي يعمل بها نظام الخلايا العصبية المرآتية . وهذه هي الطريقة التي يعمل بها المؤدي . يرسمون خريطة لبعضهم البعض .
وكيف ننضج هذا الانضباط الذي يتيح الحرية ؟ . وكيف نسّرع عملية الانعكاس؟ . في الحياة , تتبع أفعالنا التي لا تحصى القرارات التي اتخذناها دون علم ( أو دون إدراك ) – إذ نجني الثمار , وندفع الثمن , انه الحظ . وكثير من الجسور الرومانية مازالت قائمة . لقد مكّن النظام والتقنية والمهارة – وليس الحظ – روما من تحقيق إمكانياتها المادية ورؤاها الإبداعية . وبالمثل لا يمكن أن يركن المؤدون إلى الحظ .
يوجد عمل المؤدين في زمان ومكان ومشترك فقط – ومع معرفة كيفية إقامة الجسور بين المؤدي والمتفرج , وكيف تؤثر هذه الجسور في المواجهة التي ربما تبدو مفيدة بالتالي للبعض . ويحذر ستانسلافسكي من أن دراسة الظروف التي تساعد على الإبداع لا تعني ابتكار الإلهام من ظروف مصطنعة(16) . وقد يكون ذلك نفعيا وغائيا , فهو مثل المنظور , سوف يكون بمثابة سياسات تعليمية تنبؤية « من يبني بيتا للسعادة في المستقبل يبني سجنا للحاضر «(17) . يؤدي المؤدي من احتياجاته الشخصية , والمتفرجون هم نتيجة هذه الحاجة الحتمية , وليسوا الهدف . إذ يقول جروتوفسكي « التعبير الحقيقي هو تعبير الشجرة(18)» – فالشجرة لا تريد أن تعبر , إنها تفعل فحسب . ومرشد المؤدي هو حقيقته وقناعته .
وبدلا من ذلك , فان فا يثير اهتمامنا هو تأثير التدريب على المؤدين باعتبارهم بشرا . فالمؤدون هم المادة الإنسانية التي تحقق نفسها بنفسها ومن خلال نفسها (19). والتشبيه الملائم هو آلة الكمان( وهو تشبيه جزئي لأنه يستثني التأليف الموسيقي) التي تعزف بنفسها على نفسها . ففي الرقص أو الغناء أو الموسيقى أو المسرح أو الرياضة , لا ينشغل المؤدون بشيء خارج أنفسهم : يقومون بعملهم , ولن ينفصل العمل الفني عنهم (20) . وقد سمى ستانسلافسكي كتابه « عمل الممثل على نفسه the work of the actor upon himself « , من خلال إبراز الطبيعة التكرارية للتدريب . ولكن لماذا التدريب , مادامت أفعال المسرح متطابقة مع الأفعال في الحياة اليومية ؟
فهل هي بالفعل كذلك ؟ تختلف الأفعال في الحياة اليومية جذريا . لأن نتائجها غير متوقعة . علاوة على ذلك , فانها غير متدرب عليها , وتنفذ مهما كان شكلها , فانها تكون ساذجة وغشيمة , حتى لو تم التخطيط لها بعناية , ان الأعمال الفعلية هي أعمال صادقة , ولا يمكن التنبؤ بنجاحها أو فشلها . اذ أننا نقول بفرح « لقد فعلناها « ؛ أو بدلا من ذاك سقطة صغيرة وحزن .
وعلى العكس من ذلك , يتم التدرب على ديناميات أفعال الأداء , ويتم تحليلها جماليا وتصميمها من خلال تعقيد الموسيقى النحت والرسم : فعبارة « لقد فعلتها « تكتسب معنى فقط فيما يتعلق بخاصية الأداء , فيحين أن نتائج الفعل لا تنطوي على عدم القدرة على التنبؤ – ماكبث سوف ينفذ جريمة قتل دنكان . والأمل في العثور على اقتناع بالأفعال الأدائية على الرغم من هذه الاختلافات العميقة يجب على المؤدين أن يتشربوها بثقة في الحياة وإحساسها التناقض بالعواقب .
والقواعد المجسدة – غير المدركة – تجعل أفعالنا اليومية إنسانية . والتدريب هو مسار المؤدي لإتقان وتهذيب وتنظيم هذه الأفعال , ويصبح فنانا وعملا فنيا في آن معا . وهذا ما يثير اهتمامنا .
وحدة الكينونة
التدرب لتحقيق هذه الحالة يؤثر في الوحدة التي نكون عليها(21) .
منذ عام 1994 , كشف بحث جوتفريد شلوج تدريجيا أن التدرب على الآلات الموسيقية يؤثر في التطورات البنيوية للعقل , ويؤدي في بعض القطاعات ( الجسم الثفني corpus callosum والمخيخ cerebellum) إلى زيادة في الحجم (22). ويجب أن يقوي المؤدون الكثير من الطاقات البشرية التي أسميها عشاريات الفنون decathlonists of the arts . إذ ينسق المؤدي الصوت والصمت وينحت نفسه , وشاعري في اللغة , وعالم نفسي بالمشاعر , ورياضي في تسخير الطاقة , وراقص في كل إزاحة , ورسام في التكوين المكاني . إن التدقيق الذاتي التحليلي الضروري أمر شاق , مثل تسخير الذاكرة . ويؤكد ستانسلافسكي أنه» لا يمكننا أن تكون مبدعين ونراقب أنفسنا في نفس الوقت «(23). ويجب على المؤدين مقاربة ذلك الحد .
ربما يساعدنا تعريف ما نسميه « الأفعال الدقيقة micro-actions» في التوضيح .الأفعال الدقيقة الأدبيات العلمية العصبية هي مكونات الفعل , ويشار إليها على أنها الحركات , مجرد إزاحة لأجزاء الجسم , ولا تتضمن فكرة الهدف (24) . بينما في تكوين أنواع الدراماتورجيا , يراجع المؤدون تحليليا النوايا المفرطة في الأفعال الحاكمة . وفي كثير من الأحيان تظهر الأفعال الدقيقة مع نوايا يمكن التعرف عليها بدقة بشكل تشخيصي من بين النوايا التي لم يكن يعيها المؤدون . ومن خلال احترامها , فإنها تحدث تغيرات تركيبية حاسمة . ويفعل ذلك مؤلفو الموسيقى باستمرار , إذ يغيرون الاهتزازات , ولهجات التوقف , والوتيرة المتفاوتة, ويساعدنا نظام التعليقات التوضيحية للموسيقى على فهم ذلك – تناولها بالملعقة ؟! . فهل التناول بالملعقة هو فعلا كذلك , كلا . مثلما أن التناول بالسكين ليس كذلك فحسب ! تكمن حقيقة التقاط أي شيء مقنع أو غير مقنع , في دينامياته التي لا تعد ولا تحصى , نتيجة للتحولات القصدية ( غير المعترف بها في كثير من الأحيان ) . وتظهر تنويعات منضبطة لا حصر لها . وعند فتح البوابات أمام حدوث تلك التنويعات دون سيطرة , عندما تغني لى الأغنية(25) , ينتج التدفق – تحدث معجزة الأداء . يحرر التدريب هذه الطاقات , يتعرف على غير المعروف قبل السماح به مسبقا والسيطرة عليه بشكل منضبط . ويتصاعد اهتمامنا عندم يتم تسليط الضوء على النوايا غير المعلومة في أفعال الحياة اليومية , وتظهر المؤدي متمكنا أيضا من انه إنسان .
لقد ولد بحثنا تمرينين أساسيين بشكل مذهل , يبدوان على حدود الابتذال :
(1) يتحرك شخصان , يوازنان عصا طولها 5ر1 متر بينهما عند البطن , يضغطان قليلا على طرفيها أسفل البطن , فوق العضلة الهرمية .
(2) يبدأن برفع أصبع الإبهام والسبابة , يلف شخص خيوط حرير ويغزلها في الفراغ .
الوصف عادي , التمارين الملائمة تتجنب اللفظية . وتتطلب التجسيد . وتستغرق المراحل الخمس والعشرين حوالي ستة أشهر . ولا تكتمل أبدا – ونعمل بها لعدة سنوات . وتحاول المناقشة التجريبية التالية من عمل الخيط أن توفر لنا إمكانية الوصول , وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التجسيد .
بمواجهة عمل الخيط , نواجه آنيا تجربتي الذاتية والموضوعية (26). وعلى هذا النحو لا يتم تدريس شيء : انه يدعو إلى الوعي من خلال العديد من العوامل التي نكون حساسين لها ( رغم عدم إدراكنا ) . وأحد العوامل الحاسمة هو المقاومة , التي تعمل في كل من الأداء والحياة العادية . فعندما نسبح تتضح مقاومة الماء , ومع ذلك , فإننا نلاحظ , مع كثيرين آخرين وجود الهواء ونحن نسير , أو الأرض تحت أقدامنا . ونشعر أحيانا بالضغط عند الواجهة ولكننا نفشل في رؤيته باعتباره تفاعل بين المقاومات . وفي الحياة اليومية نحس ببضعة أحداث عضلية مصاحبة لنوايا عابرة . ويؤكد ستانسلافسكي على أهميتها في الأداء : « اشعر بنغمة عضلاتك « , وشعرت بها الآن , ونقول بلغتنا « الفهم هو الشعور «(27) . يستشعر الخيط دور المقاومة في حقيقة الفعل . وتكمن فيها كل أنواع الدراماتورجيا .
يبدأ عمل الخيط حولنا , فعلا عاديا : التقط خيطا من احد طرفيه واسحبه في الهواء , واتركه معلقا , ثم التقطه مرة أخرى , اسحبه , واتركه الى ما لانهاية , مئات الآلاف من المرات خلال مراحل تدويره , عندئذ سوف يتراجع الخيط ويتبدد, ويتسع الاهتمام لاستجابة مفتوحة للأحداث الجارية (28). نسيان الخيط لا يتعلق بمجرد الشكل , والقصد السابق – وحيث يغيب القصد , لا يوجد فعل . وبدلا من ذلك , ننخرط بسرعة البرق في حالات مدروسة ودقيقة للغاية , تنشأ «هناك وآنذاك» في بنية دقيقة بقدر متساو ومرسومة ذاتيا ( رغم أنها متطورة ) . ففي هذا الكون المزدهر الدوار , ندرك قدرتنا على تنظيم الأفعال في المكان والزمان – كما هو الحال مع القواعد : باكتسابنا منذ الولادة والطلاقة في سن الرابعة , فإننا نبدع الشعر فقط بعد دراسة وإتقان قواعد اللغة التي لم نعرف أننا نعرفها من قبل ... على الرغم من أن الشعر الحقيقي يحتاج منا أن ننساه مرة أخرى (29).
وهذا هو جوهر عمل الخيط (30). وعند هذه النقطة , نعمل على احتمالات القصد . إننا لا نعمل على النوايا , بل احتمالات النوايا . بالملاحظة , نرى المفاصل والأطراف وأجزاء الجسم تقوم بحركات مثالية من الناحية الجمالية في نقاط دوران متعددة , يتجاهلها الممارس , ويركز على أفعاله ( الموازية ) الأخرى في تطورها. ومن الواضح أن هذه الأفعال الغافلة تشغل وظائف دماغية عميقة , وتكون نواياها ضعيفة للغاية بحيث لا يمكن التعرف عليها . وهنا ربما يتوقف المدربون بشكل مفاجئ ويطلبون منهم أن يتذكروا أفعالهم الخمسة الأخيرة . في البداية يكافحون ويجدون ذلك مستحيلا – هذا الفراغ الذهني المألوف المتمثل في توقفهم في منتصف الكلام , « ألا يمكنك تكرار ذلك ؟ « . يستخرج المؤدون المدربون تسلسلات طويلة إلى حد كبير من الرواسب السريعة المتدفقة بحرية ثم يستكشفونها من خلال الاختلافات الدينامية ... وفي بعض الأحيان تغني لك الأغنية . فالصور تأتي , ويؤدي المؤدي . انه يقودهم ويقودونه . ويظهر المسار الى دراماتورجيا المؤدي .
نحن كائنات غير عادية : الاستجابة رغم الغيبوبة , والبدء بشيء ما قبل أن نعرف أننا نريد ذلك , والتعلم من الكتابة اليدوية , وتوسيع قطاعات المخ , من خلال العزف على الآلات – كل ذلك غير محتمل . ويقول عالم الأعصاب الإدراكي مارلين دونالد « قبل مليوني سنة , دفع أسلافنا أنفسهم إلى خارج أنفسهم , وحققوا ذاكرة عرضية , أو قدرة فريدة على التذكر الإرادي الخالي من المحفزات – وهو مفتاح الكيفية التي أصبحنا عليها(31) . ويطور المؤدون هذه القدرة .
وقد لاحظ عدة علماء عمل الخيط , وتحديدا جياكومو ريسولاتي , وأخيرا تسوتومو فوجينامي . وبعد ملاحظته لأول مرة في مالطة , اقتنع ريسولاتي بأنه من الممكن أن يعيد تنشيط نظام الخلايا العصبية المرآتية عند الأطفال المصابين بالتوحد, بدأ ريسولاتي في عقد لقاءات بحثية في معمله في بارما . وتلا ذلك طلب كبير للمنح التي تشجع المحاولات في فلورنسا . وتمت الموافقة عليها في البداية , ولكنه فشل لسوء الحظ , في أعقاب التغيرات الإدارية الشاملة في ايطاليا . وقد قام عمل تسوتومو فوجينامي في المعهد الياباني المتطور للعلوم والتكنولوجيا على النقل المجسد واكتساب المهارات في عام 2009 , عندما بدأ في اكتساب متدربين جدد . وقد كانت دراساته وملاحظاته المستمرة , على الرغم من أنها لا تزال في مرحلة مبكرة , مشجعة للغاية , ولاسيما مع افتتاح فصل آخر : للمؤدي باعتباره إنسانا . وفي مواقف الحياة اليومية التالية , لاحظ المؤدون المدربون أن :
1- عند فتح زجاجة الماء , تحمل اليد اليسرى الزجاجة , بينما تفتح اليمنى الغطاء , وبلا وعي كانت اليدان تتبدل لصب الماء . وسرعان ما يظهر الفهم : كانت اليد المهيمنة تقوم بدون قصد بكل فعل حاكم –فك الغطاء والصب .
2- عند النزول من شارع شديد الانحدار ذي درجات واسعة , كانت الأرجل تسير بشكل مائل . وقد كشف الانعكاس عن الرياضيات التي تم وضعها دون وعي : الخطى الطويلة تقلل من إجهاد الركبة الضعيفة .
3- عند المشي , أصبع الإبهام يتجنب الضغط . وتغيرت الخطوة بلا تفسير ... مما أدى على الفور الى ألم شديد غير معلن .
4- عند التنزه في الحديقة , فان القدم بسبب الخطو الى الأمام تضغط بدلا من ذلك على الأرض – وفي تركيز , ترصد العيون ثعبانا لم يلاحظه أحد من قبل .
لاحظوه بحسم .. وبشكل حاسم سألوا لماذا ؟ . يلاحظون التناقض – يسألون لماذا – يتفهمون . ويلاحظون الأفعال الدقيقة – ويحللونها – ادراك القرارات المتخذة بشأن نوايا غير معترف بها (32).
يتباهى مهرج نيتشه , المصاب بجنون العظمة بقدوم المؤدي المقتول بشراسة ويحذره من البقاء « في البرج الذي ينتمي إليه « . يقفز المؤدي بتحدي راكبا الحبل الذي يسد الهاوية بين الحيوان والإله , ويمد يده لمعرفة ما كان وما هو وما يمكن أن يكون , موضحا أن تدريب الذاكرة العرضية قد يساعدنا في الوصول بشكل أسرع الى البديل الاختياري للفعل العادل , فيما يتعلق بالآخر , وبالتالي فيما يتعلق بالذات أيضا . ونأمل أن نتقن هذا الحبل بما يكفي لوقف المآسي التي تشوب مواجهاتنا الشخصية ... في بيئاتنا وفي عالما الممكن .
............................................................................
جون ج شرانز: يعمل محاضرا لدراسات المسرح في جامعة مالطة
هذه المقالة هي الفصل السابع من كتاب «المسرح وعلم الأعصاب» لصادر عن دار ننشر ميتوين في بلومسبري عام 2016 .