العدد 875 صدر بتاريخ 3يونيو2024
أنهى الريحاني موسمه الصيفي في تياترو الفانتازيو بالجيزة في صيف 1932، وفجأة اختفى هو وفرقته عن الساحة المسرحية المصرية لمدة عام ونصف!! ثم عاد إلى الظهور مرة أخرى في مارس 1934 .. أين كان طوال هذه المدة؟ كان في رحلة فنية إلى بلاد المغرب العربي «تونس والجزائر والمغرب» ثم إلى فرنسا لتصوير فيلم «ياقوشت» .. وكافة تفاصيل هذه الرحلة نشرتها – من قبل في سلاسل مقالات أخرى - في جريدة «مسرحنا»، ولعدم التكرار يستطيع القارئ أن يعود إلى موقع الجريدة وقراءة مقالة «ورطة نجيب الريحاني في تونس» عدد «743» يوم 22/11/2021 من سلسلة «العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس»، وأيضاً قراءة المقالات الخمس في الجريدة أعداد «815، 821، 822، 823، 824» ابتداء من يوم 10/4/2023 في سلسلة «مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة»، وعناوين المقالات الخمس، هي: فيلم ياقوت بين الفشل الحقيقي والنجاح المصطنع، وماذا حدث للريحاني في تونس، وماذا حدث للريحاني في الجزائر، والريحاني يعرض مسرحياته في المدن الجزائرية، وماذا حدث للريحاني في مراكش.
عاد الريحاني بعد غياب إلى نشاطه المسرحي في مصر، وعرض مسرحيته الجديدة «الدنيا لما تضحك»، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1953 بالاسم نفسه، وقام ببطولته الفنان «إسماعيل ياسين»، وهو الدور نفسه الذي قام به نجيب الريحاني في المسرحية. وهناك عدة مقالات منشورة حول العرض المسرحي، من أهمها مقالة جريدة «كوكب الشرق» المنشورة في أبريل 1934، وجاء فيها الآتي:
غاب نجيب الريحاني عن المسرح، فكان الفراغ الذي تركه كبيراً، وطالت غيبته حتى خفنا أن تجنده السينما ضمن الذين جندتهم في صفوفها من الممثلين القادرين في المسرح! غير أنه ما انتهى من تمثيل شريطه الجديد «ياقوت» لحساب شركة جومون في باريس حتى عاوده الحنين إلى المسرح فعاد إلى أحضانه وألف فرقته الجديدة وبدأ عمله منذ خمسة أسابيع يمثل رواية «الدنيا لما تضحك». وهنا يبدو فرق جوهري بين المسرحين الهزلي والجدي. فرواية المسرح الجدي لا تقوى على الاستمرار أكثر من أسبوع واحد ما يكاد الممثلون في نهايته يبدأون في التمكن من أدوارهم حتى يعلن عن الرواية الجديدة التي لم يستعدوا لها أكثر من بضعة أيام. بينما يستمر تمثيل الرواية الهزلية أكثر من شهـر يجري في أثنائه الاستعداد الجيد للرواية الجديدة فيكون لدى الممثلين متسع من الوقت لفهم أدوارهم وحفظها و إجراء التجارب الكثيرة عليها. ومن هنا نقول إن المسرح الهزلي في مصر أثبت أساساً وأقوى ركناً من المسرح الجدي.
بعد ذلك يشير كاتب المقال إلى الريحاني فقط كونه مقتبس المسرحية أو كاتبها دون الإشارة إلى شريكه في الاقتباس والكتابة بديع خيري!! فيقول في ذلك: «يقتبس نجيب الريحاني أساس رواياته التي يضعها بنفسه من الروايات الغربية، ولكنه مع ذلك يضفي عليها ثوباً من الروح المصرية الصميمة، فتخرج صورة صادقة من الحياة المحلية». سبب وقوفي عند هذا القول أن فيلم «الدنيا لما تضحك» عندما تم عرضه عام 1953، جاء في «تتر» الفيلم أن القصة والحوار لبديع خيري، دون الإشارة إلى الريحاني أو إلى أن الموضوع اقتباس!! رغم أن في بعض إعلانات الفيلم المنشورة في المجلات كانت تحمل هذه العبارة «الكوميديا الرائعة «الدنيا لما تضحك» أعظم ما قدم الفيلسوف الريحاني في حياته»!! ولو قرأنا إعلانات المجلات عام 1934 عن المسرحية، سنجدها تعلن أن المسرحية مؤلفة أو مكتوبة بالاشتراك بين الريحاني وبديع، ومنها هذا الإعلان الذي يقول: عودة نجيب الريحاني إلى المسرح، ببرنتانيا من اليوم رواية «الدنيا لما تضحك» تأليف بديع خيري والريحاني، بطولة: الريحاني، بشارة واكيم، أستفان روستي، عبد الفتاح القصري، زوزو حمدي الحكيم، فيوليت صيداوي، شفيقة جبران، زوزو لبيب [وهي الفنانة زوزو نبيل]، مصطفى فالنتينو، مرجريت صفيري، جبران نعوم، فيليب كمال، والديب.
نعود إلى مقالة ناقد جريدة «كوكب الشرق»، الذي سرد موضوع المسرحية، قائلاً: الموضوع أن أفلاطون أفندي ملاحظ التنظيم البائس يلتقي بمليونير مصري له روح شاعرية، فيتحدثان عن الثروة والفقر والسعادة والشقاء فيسخط أفلاطون أفندي على فقره وبؤسه فيرغب الثري أن يبرهن له على أن السعادة لا تشترى بالمال وأن المال يمكن أن يكون مصدر هم وشقاء، فيتفق معه على أن يعطيه ستة آلاف جنيه شهرياً بمعدل مائتي جنيه يومياً شريطة ألا تنتهي المدة حتى يكون قد صرف آخر قرش من المبلغ! فإن نجح في ذلك سيخصص له معاشاً شهرياً كبيراً. ويذهب مع أفلاطون «شانتوفلي» سكرتير المليونير في حله وترحاله ليراقب صرف الأموال. ويرحب أفلاطون بالفكرة، ويذهب كالمجنون يعلن إلى أسرته التي تسكن في سطح أحد المنازل في درب عجور، خبر هذه الثروة، ويطلب إليهم أن يحرقوا الأثاث الفقير ويلقوا من النافذة جميع ما في المنزل من الصحون والحلل إلخ. فيصرف ببذخ ويبعثر النقود في حيثما يستطيع أي يبعثرها لكي يكسب الرهان، ولكنه يبذل كل جهد في ذلك من غير جدوى إذ لا يجد وجوهاً لصرف النقود، وينهمك في الملذات بين محال الرقص والخمر واللعب، فتضمحل صحته، وتتفكك أسرته وتسوء أخلاق أولاده وهو مع ذلك يأبى أن يسلم بالهزيمة وخسران الرهان، ولكن المليونير يكون قد أحب ابنته ويريد الزواج فيعفيه من الشروط وتنتهي القصة.
ويعلق كاتب المقال على شخصيات المسرحية قائلاً: يدخل في سياق القصة صور ناطقة محكمة من المجتمع المصري مثل شخصية «المعلم عوف» صهر أفلاطون أفندي –زوج أخته «فلة» - ورئيسه في مصلحة التنظيم، فموضوع الرواية بحث نفسي، ولكنه يعرضه للجمهور من ناحية سهلة هينة إذ يستعين على تفسيره بكلمات بسيطة بلدية، ويوضحه بحوار شيق ظريف غاية الظرف .. فأفلاطون أفندي رجل فقير وهو يحب المال ويلعن حظه الأنكد. وإذا بالمال يهبط عليه فجأة من السماء، فيجعل هذه الشخصية تحليلاً نفسياً بطريقة سهلة لا تعقيد فيها. فالرجل يميل إليه في مبدأ الأمر أنه يستطيع أن يصرف الهبة التي وهبها له المليونير، بل يستطيع أن يصرف أضعافها، ولكن لا يأتي وقت العمل والتجربة حتى يحس بالعجز عن خلل وجوه لصرفها فيتلمس هذه الوجوه بعد أن اشترى كل ما ظن أنه يحتاج إليه مع امرأته وأولاده، فلا يجد إلا أن عليه أن يدفع للحلاق خمسة قروش!! وتنقلب حياته انقلاباً ويتغير تفكيره تغيراً شاذاً، ولا يعود ينظر إلى الدنيا وإلى أوضاعها الطبيعية إلا بنظرته وحده وظروفه وحده. فالذي يقول له «روح الله يخرب بيتك» قد أحسن إليه، والذي ينهه يعده صديقه، والذي يتعامل معه بالذمة والأمانة «مغفل»! وينهر خادم المرقص إذ يضبط اللص الذي سرق عقد امرأته الثمين ويدافع عن اللص ويقول إن اللصوص أصحاب مهنة فيجب أن يتركوا يمارسونها بإخلاص! وغير هذا أمثلة تحليلية كثيرة عن ذلك الرجل المعكوس المنطق المقلوب التفكير، والواقع أن هناك من يقدرون أو يستطيعوا أن يصرفوا أكثر من ستة آلاف في الشهر الواحد ولكن أفلاطون أفندي الموظف صاحب الخمسة جنيهات الشهرية لا يجد سبيلاً إلى ذاته. فهو يحب نشأته وبيئته يعجز كل العجز عن صرف مائتي جنيه في اليوم الواحد إذ يبدأ في التبذير فلا يشتري لنفسه أكثر من بدلة واحدة بأربعة جنيهات لأن هذا أقصى ما كان يتمناه أيام فقره، مع أنه يستطيع الآن أن يشتري عشرة بمائة!! ولا ينسى نجيب الريحاني أن أفلاطون أفندي عاش في سطح منزل في درب عجور، فبعد أن خلع ثوبه الأصفر ولبس بدلته الجديدة يدخل في قطعها سديرياً أحمر اللون فاقعاً، فيشير بهذا إلى ذوقه الفاسد الذي استوحاه من بيئته ومسكنه. وقد أدى نجيب هذا الدور الجميل بدقة ورشاقة، وكانت له مواقف صامته عند الاستنكار أو الاستفسار أو التأمل يؤديها ببراعة وإتقان، كما أن أجمل مواقفه كانت في الفصل الثاني حينما ذهب إلى أسرته يحمل إليها نبأ ثروته والكل يأبى أن يسمع له أو يصدقه فكان يدور في جوانب الحجرة كالمجنون يقلب الكراسي ويرفع صوته ليسمعوا قصته.
ويختتم الكاتب مقالته بالإشكالية الكبرى في تاريخ الريحاني المسرحي، وهي شخصية «كشكش بك»، قائلاً: أظن أني لم أكذب عندما قلت إن نجيب الريحاني قد أحسن إلى كشكش بك بقدر ما أساء له هذا العمدة المستهتر. فإن الأستاذ الريحاني ممثل مجيد جداً خارج نطاق هذه الشخصية، وكانت شخصية «المعلم عوف» شخصية مصرية صميمة، أداها ممثل اختصاصي في هذه الأدوار هو «عبد الفتاح القصري» فأتقن أداءها وقام «بشارة واكيم» بدور «شانتوفلي» في السكرتير السوري، وهو الآخر خير من يجيد إبراز هذه الشخصية غير أننا نأخذ عليه بعض الإشارات المتكلفة رغبة في إضحاك الجمهور. وهو عيب كبير بل هو إخلال بكرامة الفن أن يخرج ممثل عن حقيقة دوره ينزل عند رغبة الجمهور والتمثيل الهزلي ليس عمله الأول هو الإضحاك، ولكنه هو إعطاء وقت طيب للمتفرج يستطيع أن يفكر تفكيراً باسماً هادئاً.
والجدير بالذكر أن الناقد «عزيز» كتب مقالة كبيرة حول هذا العرض في مجلة «الكشكول»، جاء فيها بتفسيرات وتحليلات مفيدة، لم تأت في مقالة جريدة «كوكب الشرق»، نجتزئ منها هذا الجزء، وفيه يقول عزيز: أهو المال الذي يجلب السعادة للإنسان؟ أو يستطيع الغني أن يفعل بماله كل ما يريد وأن يحصل بماله على كل ما يريد، حتى قلب معشوقته يغزوه ويأسره، ويتحكم فيه؟ أما المليونير المصري «جوهر أبو الدهب» - ملك الصابون - فيقول إن الغنى شيء، والسعادة شيء آخر .. وأن الغني يستطيع أن يمد يده إلى المادة فينال منها ما يريد، و يحصل منها على ما يشاء .. ولكن قلب المرأة - المرأة الشريفة - کنز مفتاحه شيء آخر غير المال!! أما سكرتيره السوري «شانتوفلي» فيرى عكس هذا الرأي! لأن نظرته خالية من الفلسفة، خالية من التسامي بالإنسانية والترفع بها عن المادة، هي نظرة تعتبر الإنسان حيواناً متهافتاً على شهوات جسده!! وكان النقاش بينهما يدور أثناء وجودهما في شرفة بفندق «شبرد» .. فجوهر أبو الدهب يشكو لسكرتيره ما يعانيه في حياته من تشابه الأيام، وما يتسببه هذا التشابه من ملل. وسكرتيره تدهشه شكوى صاحبه، ويقول له إنه قد أوتي مالاً كثيراً، وأنه يستطيع أن يفعل بهذا المال ما يريد .. ولكن جوهر يقول إنه عجز بماله من أن يغزو قلب فتاة أحبها!! ثم يظهر لهما «أفلاطون» الذي يقضي وقته في الزلط والدبش، ومع ذلك يغنى ويضحك وغناؤه وضحكه يزعجان السكرتير فيسأله: كيف تغني مع أنك فقير؟ فيرد أفلاطون: أنا لا أغني إلا لأني فقير، فأنا أريد أن أنسى الفقر بغنائي! فيسأله المليونير: ماذا كنت تصنع لو كنت غنياً؟ فيرد: لو أنى أغتنيت لأصبحت سعيداً .. أتراهن؟! فيوافق المليونير على الرهان وتتم الصفقة. فقد تعهد أفلاطون بأن ينفق كل شهر ستة آلاف جنيه يأخذها من المليونير جوهر، فإذا استطاع أن يدوم على هذا عاماً من غير أن يبقي منه شيء، كان له من جوهر خمسون جنيهاً معاشاً!! وينتقل أفلاطون إلى منزله بين أولاده وزوجته، يحطم البيت بيده .. وكيف يتحمل رجل تُلقي الظروف بين يديه مائتين من الجنيهات كل يوم!! نتج عن ذلك أن ابنه خرج من المدرسة، وزوجته تترك الحشمة وتتبرج! وأخو زوجته يدع مهنة النجارة!! إنها قنبلة انفجرت في الأسرة، ونالت كل شيء فيه إلا فتاة من أولاد أفلاطون، تعمل مدرسة في مدرسة ولم تشأ أن تترك عملها .. أما أفلاطون فأصبح يضرب الأرض طولاً وعرضاً، ويبعثر المال ذات اليمين وذات الشمال .. حلم ذهبي حققته الأيام، فكل ما تتوق إليه نفسه امتدت إليه يده، وكل أبواب الإتلاف طرقها، ولكنه مع هذا غني!! فأيام كثيرة تمر من غير أن ينفق فيها ما يجب عليه إنفاقه! فأخذ يساءل الناس عن وسائل خراب البيوت، فنصحه ناصح بلعب القمار، فلعب ولسوء حظه ربح ولم يخسر!! وعندما فقد عقداً من اللؤلؤ ثمنه ستة آلاف من الجنيهات ففرح، لأن باباً من أبواب الصرف فتح أمامه، غير أن البوليس النشيط المحافظ على أموال الناس عثر عليه وأرجعه إليه!! وعندما اشترى أوراق اليانصيب لأنها خاسرة كالعادة، فيربح النمرة الفائزة بأضخم جائزة مالية!! وعندما يصدم ابنه امرأة مسنة بسيارته فيقتلها، ويطلب أهلها تعويضاً، يفرح أفلاطون ويقنع أهل السيدة بطلب تعويض ضخم حتى ينفق الأموال، إلا أن البوليس يكتشف أن ابنه بريء وأن الحادثة مفتعلة .. وهكذا تمر الأحداث ويكتشف المليونير جوهر أن معشوقته وفتاة أحلامه هي المدرسة ابنة أفلاطون، فيعفيه من الرهان، ويتزوج ابنته، وهكذا الدنيا ضحكت لأفلاطون .. وهذه هي الفلسفة التي طلع بها نجيب في روايته الجديدة، وهذا هو الأسلوب الذي عرض به نجيب قصته، وهذا هو الوضع العجيب الذي وضع به نجيب دوره.