المسرح والإذاعة .. ميلاد مشرق وحاضر غائم(1)

المسرح والإذاعة ..   ميلاد مشرق وحاضر غائم(1)

العدد 876 صدر بتاريخ 10يونيو2024

منذ بزوغ فجر الحياة على الأرض والإنسان يعيش في صراع محموم مع الحياة، وكانت البداية لصراعه الدائم والمتجدد مع الطبيعة، حيث وجد نفسه إما عاجزا أمام البيئة بكل تجلياتها ومكوناتها أو متحديا؛ وفي رحلة تحديه هذه برزت مواهبه المختلفة التي أعانته على مواجهة الحياة وأيضا ساعدته في عملية التكيف التي مكنته من اكتشاف سماته الذاتية، لاسيما التي تبرز من خلالها مواهبه الفنية وميولة الشخصية.
فمن خلال استماعه لأصوات الطيور مرن نفسه على الكلام ثم تطور الأمر وبدأ في محاكاتها؛ فاكتشف جمال الصوت الإنساني وبدأ يطرب له؛ فكان الغناء. ومن حركة الحيوانات وقتالها حول الطعام وامتلاك الإناث تعلم الإنسان القتال، لكنه أيضا تعلم الرقص.
وفي رحلة بناء المجتمعات وتطورها كان لابد من وسائل للتواصل والاتصال فيما بينها فخرجت إلى الوجود وسائل الاتصال التي كانت بدائية مثل:
- “الهيليوجراف” هي وسيلة اتصال كانت تستخدم لتبادل الرسائل عن طريق الانعكاسات الضوئية لأشعة الشمس، ولقد تم اختراعها قبل الميلاد بفترة طويلة وكان لها حضور واضح في المجتمع الإغريقي والروماني . 
- “السيمافور” وهى وسيلة كانت تستخدمها القبائل الهندية وهى تستخدم الرايات - الأعلام - في نقل الرسائل ويحدث هذا من خلال تحريك هذه الرايات وجعلها في وضع معين، ويستخدم الكشافة هذه الوسيلة حتى اليوم،  كما تستخدم بشكل ما في تسيير حركة القطارات. 

ثم وسائل الاتصال الحديثة مثل :-
-البرق:  حين نجح  «ماركوني» في إرسال إشارات لاسلكية «مورس» وهى عبارة عن نقط وشرط،  يتم ترجمتها إلى كلمات وجمل من خلال متخصصين يتم تدريبهم على هذا الفن،  ولقد ظهرت أهمية المورس في الأمور التجارية وفي تسيير حركة السفن وفي بداية استخدام الطائرات، كما استخدم بشكل مؤثر في الحروب وفي عمليات نقل المعلومات للصحف والمجلات، ثم استخدم بعد ذلك في التواصل بين آحاد الناس، ثم مدت له خطوط البرق لتسهيل عمله .
- الهاتف: تم الاستعاضة به عن استخدام الإشارات «المورس» وأصبحت الأسلاك تنقل الكلمات مما سهل من عملية التواصل ووسع قاعدتها وجعلها أكثر حميمية باستماع كل طرف إلى صوت الآخر، لكن ظلت هناك مشكلة تواجه البرق والهاتف تتمثل في سهولة  تعويقهما وشل حركتهما إذا ما قطعت الخطوط أو خربت، لهذا كان التفكير في استخدام وسيلة أخرى تكون أكثر انتشارا وتتلافي عيوبهما.
- الراديو: منذ بدء البث الإذاعي التجريبي عام 1910 بنقل حفل غنائي في مدينة نيويورك الأمريكية،  بدأ مولد هذه الوسيلة الساحرة « الإذاعة « التي لعبت دورا حيويا – ومازالت – في تطوير المجتمعات وتنويرها ونشر الثقافة والفنون ومساعدة الإنسان على السمو، فنشر الفنون يعمل على كبت نزعات الشر وطمسها وترويض النفس حتى تسهم في بناء المجتمع، ويرجع سرعة انتشار الإذاعة  هذا لعدة أسباب منها: ( السرعة الفائقة في إيصال المعلومة - سهولة الالتقاط والانتشار- القدرة على تخطى الحدود والعوائق - تدنى التكلفة، قياسا بغيرها من وسائل الاتصال الأخرى ).
 ولقد ظهرت الأهمية الكبيرة للإذاعة منذ دارت رحى الحرب العالمية الأولى أصبح من المتعذر تقديم العروض الفنية والترفيهية وسميت هذه المرحلة بفترة «الإعتام» حيث ساد الإظلام الروحي شتى بقاع الأرض، ومن هنا بدأ التفكير في الاستعاضة بالإذاعة عن الذهاب لدور السينما وللمسارح ولغيرها من أماكن الترفيه، بعدما تعذر ذلك بسبب أجواء الحرب.

تسييس الإذاعة :-
أدركت الحكومات ما للراديو من أهمية كبيرة في وقت السلم، حيث يستخدم في نشر الأفكار والثقافات والفنون، ولهذا بدا التفكير مبكرا في إمكانية استخدامه كسلاح مساند في الصراعات العسكرية من خلال الدعاية المكثفة داخليا وخارجيا ولغايات دفاعية تتعلق بالمواطنين، وهجومية تتعلق بالعدو، ومساندة فيما يتعلق بكسب تأييد المحايدين وتغذية مساندة الحلفاء.
أدركت بريطانيا أهمية استخدم الإذاعة كسلاح عسكري كونه وسيلة لنقل الأفكار ولنشر الثقافات والآراء السياسية وغرس ما تريده من أفكار في نفوس وعقول مواطني  المستعمرات البريطانية ومخاطبتهم بلغتهم مباشرة وبلهجاتهم المحلية دون اللجوء لوسيط، ولهذا أنشأت هيئة الإذاعة البريطانية B.B.C عام 1922م واضعة في اعتبارها أنها الوسيلة المستقبلية في الدعاية، وتبعتها بقية الدول الأوروبية – خاصة صاحبة المستعمرات – في الاعتماد على الإذاعة كوسيلة للسيطرة والتوغل وفرض الأفكار والآراء، وأسست ألمانيا إذاعتها عام 1929، وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان الاستخدام الأكثر للإذاعة في الترويج التجاري والترفيهي، لكن الحكومة أحست بخطورة هذا السلاح وبدا تنتبه لأهمية تطويعه لأهدافها السياسية، وأيضا فعلت ذلك روسيا وفرنسا وايطاليا .

حرب الأثير :
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية اندلعت بين طرفيها – الحلفاء والمحور – حرب إذاعية شديدة الضراوة وأصدرت بريطانيا قانونا يحرم الاستماع إلى الإذاعة الألمانية كما فعلت ألمانيا ذات الشيء وبلغت عقوبة من يفعل ذلك الإعدام !.
وفي المنطقة العربية دارت عبر سمائها حرب المحتلين فلقد سعت إيطاليا إلى السيطرة على فكر وتوجه مستعمراتها ووزعت أجهزة الاستقبال على المقاهي وفي البيوت بعدما أنشأت المحطات الناطقة بالعربية وبعدما استعانت ببعض الفنانين العرب  الذين قام بعضهم بالترويج لموسلينى على أساس انه حامى حمى الإسلام !  وأيضا كان يتم الترويج لهتلر على أساس انه عدو لليهود وصديق للمسلمين، وفي مصر كان هناك فصيل سياسي مهم يؤمن بالتحالف مع النازي للخلاص من الاحتلال الانجليزي .
وعقب قيام ثورة 23 يوليو 1952م في مصر تم إنشاء إذاعة « صوت العرب» عام 1953م  لتكون صوتا للشعوب العربية الساعية نحو التخلص من الاستعمار، ثم « إذاعة فلسطين» سنة 1960م  لتكون لسان حال القضية الفلسطينية، التي هي محور الصراع الدائم بين العرب والكيان الصهيوني منذ ثلاثينيات القرن الماضي.


عماد مطاوع