العدد 876 صدر بتاريخ 10يونيو2024
يحدد جلدي، بشكل فيسيولوجي، فضاء جسمي. ففي داخل هذا الجسد، توجد الفراغات كأنها أماكن أو فراغات. وهذه الفراغـات ربما كانت مفاهيم محسوسـة، مثل المواضــع التشريحية للأعضاء التي لن نراها، إلا مرسومة في الكتب ويمكن أن يظهر الفراغ نفسه كاحساس أو كثافة، أو رغبـة داخل جسمي مطلوب حضورها بالرغم من صعوبة وصفها أو رسم حدود حولها.(اليزابيث ووترهاوس)
الجسم، وهو وسيلة إدراكنا للفراغ، هو نفسه فراغ – شيء يمتد مكانيا والكينونة الواعية التي تشغله ، وتتحرك بداخله، وتملأ الفراغ . وبالتالي يمكن (كما فعلت اليزابيث ووترهاوس في الفقرة المذكورة أعلاه ) تخيله كجزء من مساحة أكبر من العالم، مقطوعة ومحاطة بحاجز من الجلد الذي يرسم الحدود بين داخلها وخارجها . وهذا الحاجز هو نوع من المرشح (الفلتر) ؛ وهو نفاذ وليس مصمتا ؛ ولا يعزل الجسم عن العالم من حوله، ولكنه يسمح لمساحة الجسم أن تكون قابلة للتغير، والتحول المستمر، والامتداد، والتقلص . وهذا يحدث بطرق فعلية ومادية، خلال عمليات مثل التنفس، أو تناول الطعام، أو النمو . ويحدث الغير أيضا بطرق لامادية، مثلا، عندما تؤثر الحالة العاطفية أو النفسية لشخص ما على كيفية اختبار الفراغ الذي يشغله جسمه – كم هو صغير أم كبير، خفيف أو ثقيل، ضيق أم واسع، حر أم مقيد .
الغرض من مصطلح «الفراغ المتجسد embodied space” هو بالضبط للتعبير عن التالي : أننا لسنا منفصلين عن الفراغ ولكننا جزء جوهري من ذلك الفراغ الذي ندركه . ومن ثم فهو مصطلح مفاهيمي، استخدمته، على سبيل المثال عالمة الأنثروبولوجيا سيثا م. لو لكي تنظر للتقاطع المعقد بين الجسم والفراغ . وقد اعترفت بأن الباحثين بحاجة إلى صيغ نظرية توفر أساسا ماديا يوميا وفهما تجريبيا ومعرفيا وعاطفيا للتقاطع وتفسير الجسم والفضاء والثقافة (1)، وتفسر لماذا يكون الفراغ المتجسد مفيدا وأن مثل هذه :
الصياغة المكانية غالبا تهمل الجسم بسبب صعوبات في حل ثنائية الجسم الذاتي والموضوعي والتمييز بين الجوانب المادية والتمثيلية لمكان الجسم . ومع ذلك . يجمع مفهــوم الفراغ المتجسد هذه المفاهيم المتباينة معا، مما يؤكد على أهمية الجســم ككيان مادي وبيولوجي، وتجربة معاشــة ومركز للفاعلية، وموقع الكلام والتمثيل ، وموقع للكلام والتفاعل مع العالم .
وتوجد عدة أفكار هنا سوف تُستغل على مدار هذا الفصل . وغم ذلك يكفي الآن أن نقول إن مفهوم الفراغ المتجسد هو مزيد من التطور للفكرة التي تؤسس نقطة انطلاق هذه الأطروحة، وهي تحديدا أن الفراغ المعاش هو الفراغ كما يُختبر من منظور داخلي . وفي الفصل السابق نظرنا إلى تضمينات تناول هذا المنظور الداخلي من وجهة نظر الإدراك البصري . وقد تحدثنا عن الفراغ المعاش في إطار المنظور، الذي هو بصري في الغالب : فكيف توجه رؤية الفراغ المعماري من منظور وموقف محدد ( على سبيل المثال حالة كونك عضوا من الجمهور، أو مؤدي، أو في حالة وجودك على أحد جوانب القاعة ) الفراغ المُدرك . ولم ننظر حتى الآن إلى طرق أخرى لإدراك الفراغ والوعي به . ويفعل هذا الفصل ذلك : يوضح أن الفراغ المعاش ليس فقط موجها بل أيضا مجسدا، وأن الفراغ المعاش هو فراغ جسدي، لدرجة أن باقي الجسم بكل قدراته الحسية منخرط في التجربة المكانية للمسرح، وأن المؤدين والمتفرجين يشاركا في هذه التجربة .
ملاحظة حول «التجسيد» وحدود المصطلح
تجدر الاشارة في هذه المرحلة الى أن مصطلح “ الفراغ المتجسد “ أو “التجسيد” بالمعنى الأعم، ليس الطريقة الوحيدة للتعبير عن مفهوم الوعي الممتد مكانيا وبالتالي الموزع والمتضافر مع الجسم ككل . واستخدامه كما فعلت في هذه الدراسة حتى الآن يوحي بأن المصطلح قد رسخ معنى عاما . ففي حين أنه بالتأكيد تعبير مستخدم على نطاق واسع، فلا شيء قريب من الاجماع حول استخدامه ومعناه . وهذا جزئيا له علاقة بحقيقة أن الباحثين يحاولون، في مجموعة مجالات متنوعة، التعامل مع العلاقة بين الوعي والجسم، من خلال مجموعة متنوعة من الزوايا . وتتراوح هذه المجالات من الفلسفة الى علم الأعصاب وعلم النفس الادراكي وصولا الى المسرح والرقص ودراسات الأداء والأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية . فأولئك الذين يدرسون التجسيد لا يشكلون مجالا يمكن وصفه بأنه قائم بذاته : هناك العديد من الخلافات ووجهات النظر المتضاربة حول ماهية التجسيد ومعناه، وكيف يمكن وصفه على أفضل وجه . وفي هذا الجزء الذي يشكل نوعا من الحجة الفرعية بالنسبة للحجة الرئيسية، أقدم وصفا موجزا لبعض المصطلحات الأخرى المتداولة، بالاضافة الى أسباب الاحتفاظ باستخدامي الخاص لمصطلح «التجسيد» .
وأبرز أولئك الذين يرفضون مصطلح التجسيد هي الفيلسوفة الفينومينولوجية وأستاذة الرقص ماكسين شيتس جونستون(3). فهي تنتقد من يؤيدون المصطلح وتشرح تحفظاتها ضد المصطلح بشكل مقنع . وسوف استشهد بها بشكل مطول، لأنه لا توجد طريقة مختصرة في الاستشهاد بها:
ان الميل للحديث عن أنفسنا أو جوانب من أنفسنا وتفسيرها على أنها متجسدة – كما في النزعة الترابطية المتجسـدة، أو حتى كعقل متجسد ومخططات متجسدة ووسطاء مجسدون وأفعال مجسدة وتجسيد فينومينولوجي– لا يستدعي ببساطة امكانية وجود علاقة تجسيد وتكرار للمعنى القريب أو الصريح كمـا في الوسـطاء المجسـدون والأفعـال المجسدة، فالعقل المتجسد جزء من الجسم الحي, ولكنه يستدعي شبح النزعة المنســوبة الى ديكارت. وبهـذا المعنى، فـان مصطلـح المتجسد هو عبارة عن ضمادة معجمية تغطي جرحا عمره ثلاثمائة وخمسـين عـاما نشأ واستمـر في دعمـه من خـلال ميتافيزيقا فصامية . انه يتهرب من المهمة الشاقة ( وفقــا لمعايير حياة الانسان) التي لا نهاية لها في توضيح طبيعـة الطبيعة الحية من أسفل الى أعلى . والأشكال المتحركة هي نقطة بداية التطور البيولوجي . وهم موجودون حيــث تبدأ المفاهيم .انها المكان الذي تتجذر فيه العواطف، وليست الشيء الذي يمكن أن نطلق عليه «الحياة العقلية»، العقلية التي لا تتجسد أو ربما لا تتجسد، بشكل أو بآخر، الا فـي أشكال حية في المقام الأول . يصرف التجسيد انتباهنا عن مهمة فهـم الأشكـال المتحـركة بافتراض مفاهيمي مـن خلال التعبئة المسبقة بشكل ملائم لشيء يسمى بالفعل «العقلي» أو العقل، وشيء يسمى بالفعل «الجسدي» أو الجسد دونمــا شرح – باعادة صياغة ايديلمان – لكيفية وصول العبـوة الى هناك في المقام الأول (4).
....................................................................................
• هذه المقالة تمثل الفصل الثالث من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» تأليف ليزا ماري بوللر الصادر عام 2016 ...