العدد 877 صدر بتاريخ 17يونيو2024
في هذا الفصل من مقال « العاطفة والحركة « تجادل بقوة بأن العقل والجسم لا يجب أن يُفهما باعتبارهما كيانين وعمليتين منفصلتين، وأن كلمة « تجسيد embodiment «، معدة لتجاوز انقسام العقل/الجسم، وتستخدم لتعزيز هذه الثنائية بشكل أكبر .
وفي الدفاع عن المصطلح، رغم ذلك، يمكن القول انه برغم عدم وجود هذه الثنائية، أو لا ينبغي أن تكون موجودة (5), فانها راسخة في ثقافتنا وفي فهمنا لأنفسنا كبشر لدرجة أنه يبدو أن الفهم الأفضل لتضافر الجسم والعقل سوف يأتي دون دعم الاطار النظري . ويمكن القول ان سبب عدم حاجة ماكسين شيتس لمثل هذا المصطلح هو أنها تبرع في وصف الأساس الجسدي للفكر والفعل بشكل استثنائي – أكثر من أي كاتب آخر تقريبا قابلته . ورغم ذلك تستخدم مصطلحات بديلة مثل « الوعي-الجسم «(6)، و”الجسم العاقل mind-full body”(7) والتي يمكن أن نرى أنها معنى آخر « للتجسيد « ولو بتـأكيد مختلف .
والبديل الثاني للتجسيد هو كلمة «جسم leib” المستعارة من اللغة الألمانية وأحيانا تستخدم في النصوص الفلسفية . وتشمل الجسم العاطفي، والجسم الذي يشعر ويفهم, والجسم المعاش الذي نحن عليه، فضلا عن الجسم باعتباره الشيء الذي نملكه(8). ويترجم ريتشارد شوسترمان كلمة «leib” بأنها “ الجسم soma « ويسمي النظرية الفلسفية ذات التجربة في علم جمال التجربة الجسدية التي طورها « علم الجمال الجسدي somaesthetics “(9) . ورغم ذلك، لم يستخدم هذا المصطلح على نطاق واسع خارج دائرة شوسترمان .
ويمكن أن يوصف المكان المعاش المتجسد بأنه « مكان المحرك الحسي senso-motor space” لابراز اعتماده على الجهاز الادراكي والحسي . وقد اقترح مصطلح الحسية الحركية الفضاء sensomotorischer raum في اللغة الألمانية توماس فوكس Thomas Fuchs في دراسته الفينومينولوجية والنفسية للعلاقة بين الجسم والفراغ والشخصية (10) .
وفي المسرح يوضح بوريس ماكوناتشي أن الممارسين بحثوا طويلا عن طرق تجاوز انقسام العقل والجسم، للتوفيق بين الاثنين ( اذ يعرفون بشكل غريزي أن المسرح يحتاج الاثنين )، وأن يجدوا طرقا لصياغة هذا . ويشرح كيف طور كونستانتين ستانسلافسكي وجاك ليكوك، مثلا، مصطلحاتهما لوصف العلاقة بين الجسم والعقل .
عرف ستانسلافسكي أن الممثلين يحتاجون تجاوز انقســام العقل/الجسم فصاغ مصطلح « نفسي – جسمي psycho- Physical” لكي يصف منهجه في أداء التدريب. وفد فهم معلموا التمثيل الآخرين في الغرب, ومن بينهم جاك ليكوك ومايكل تشيكوف، حاجة الممثلين لمـزج الأجسام العاقلة Mindfull bodies مع « العقول المجسدة body-full Minds . وهذه ميزة ثنائية الجسم/العقل في لغتنا وفي طرق الكتابة عن التمثيل، رغم ذلك، لدرجة أن هؤلاء المنظرين لم يجدوا عبارات تتفادى الانقسام . (11)
مصطلح التجسيد هو بالتأكيد هو العبير حتى لو كان غير قادر على تفادي الانقسام، انه يسعى على الأقل الى تقريب العنصرين معا . ولا أرى بين البدائل التي أسهبت فيها آنفا مصطلحا أفضل من «التجسيد» . وسوف استمر في استخدامه – حتى في عنوان هذه الأطروحة وعنوان هذا الفصل – لأنه تذكرة مفيدة للدور التأسيسي للجسم ليس فقط في الفعل، بل أيضا في التفكير والمعرفة والتعلم والفهم .
مكانية الجسم :
بدأت هذا الفصل بابراز حقيقة أن عدة منظرين، بداية من ميرلوبونتي حتى الآن، يصفون الجسم والفراغ بأنهما ليسا متضافرين فقط، بل انهما من بعضهما البعض(11) . وهذا له آثار مهمة على كيفية فهم ادراك المكان حتى يعمل . ولاسيما أنه يلغي مفهوم الفراغ على أنه شيء ما هناك وخارج عن الجسم وعلى الوعي .وبدلا من ذلك، فان كل من الجسم والوعي –أي الجسم الواعي، أو الجسم الذي يشعر ويفهم – يجب تأمله باعتباره ممتد مكانيا وكذلك كجزء من الفراغ بالمعنى الأوسع .
وتتحدث شيتس جونستون عن الوعي باعتباره « الوعي الانعكاسي المسبق بذاته باعتباره كلية حاضرة مكانيا «(13)، وتعني بها أن الحضور الجسدي ليس الشيء الذي يجب أن نستدعيه الى انتباهنا أو نتأمله . ولاداعي لتأكيد موضع الجسم في الفراغ، أو حتى أعضاءه المختلفة أغلب الوقت . ولا من الضروري أن نخبر جسمنا أن يبدأ في الوعي بشيء يحدث، على سبيل المثال بالقرب من ركبتنا اليسرى أو فوقنا مباشرة . فنحن ببساطة موجودون فعلا، كوعي بالجسم . وحقيقة أن هذا الوعي مكانيا تفسر ما يراه الفينومينولوجيين ومنظري التجسيد كطريقة لتجاوز ثنائية الجسم-العقل التي تنتمي للفكر الادراكي : فالعقل ليس في مكان ما في الجسم، انه الجسم (14). ويستتبع ذلك أن الوعي جسدي (مجسد) ومكاني على حد سواء .
ويهتم النحات أنطوني جورملي بالجسم خلال ممارسته الفنية وفكريا أيضا على حد سواء، ويصوغ مشكلة مكانيته بوضوح : ففي محاضرة بعنوان « لغة الجسم « تحدث عن الافتتان بالجسم كشيء وكفراغ – دائما وفي نفس الوقت . وقد اشتهر بالقوالب البرونزية والحديدية لجسمه والتي عُرضت ليس فقط في معارض الفن بل أيضا في الأماكن الحضرية والمناظر الطبيعية، ويقدم أنطوني جورملي أعمالا للمسرح . وقد عمل مع مصمم الرقص سيدي العربي الشرقاوي وشارك في العناصر السينوغرافية وأعد التصميمات للأعمال الراقصة مثل « درجات الصفر» 2005، و»سوترا “ 2008، و”بابل “ 2010 .
وباستدعاء عمله في عرض « درجات الصفر « أثناء المحاضرة، أوضح : « في عرض « درجات الصفر « بوجه خاص، لم تكن السينوغرافيا هي التحدي، بل كان السؤال هو كيفية عرض الجسم كشيء وكمكان، كموضوع ومكان للوعي»(16). والحل السينوغرافي النهائي لفكرة الجسم كمكان وشيء هي ابداع جسمان بالحجم الطبيعي – والتي أصبحت تُعرف بالدمى – مصبوبة من البلاستيك الأبيض المرن كنسخة مطابقة لأجسام الراقصين شيدي العربي الشرقاوي وأكرم خان . ويقوم العمل على قصة حقيقية ويركز على مواجهة مع جسم ميت : تجربة أكرم خان الأولى في رؤية جثة، في القطار، أثناء رحلته الأولى الى الهند . وبالتالي هناك احساس بالانعكاس والمضاعفة التي تم استكشافها توصل الى عدة استنتاجات من خلال تصميم الرقصات ودراماتورجيا العمل . وقد وصفها جورملي بأنه تصميم الرقص الذي يرتبط بالأحياء والأموات – وأيضا فكرة الجثة، وفي النهاية الجسم كشيء(16) . فالأجسام الأربعة كلها على خشبة المسرح، وجسما الراقصين والدميتين، يتذبذبون بين كونهم مجرد كائنات، وكائنات واعية متحركة .
يوضح الجسم كجثة امكانية أن يصبح الجسم الحي شيئا مرة ثانية، وكشيء فقط(17) . وهذا دفع جورملي أن يتأمل ما سماه في المحاضرة « ظلام الجسم – لأنه غامض جدا بالنسبة لنا «(18) . فالمساحة التي يشغلها الجسم، حتى عندما تكون موقع الوعي، لا يمكنها الوصول الى هذا الوعي بقدر كبير . وقد وصف كيف أن عملية صنع الدمى، التي تضمنت وضع كلى الراقصين في قوالب جصية بكامل الجسم، أعطت احساسا بما يعنيه أن يصبح فراغ الجسم الحي مغلقا وثابتا وغير متحرك في مكان : « لحظة تحولك الى قالب، وعندما تكون مطوقا تماما، هي لحظة مخيفة جدا « (19) . انها تثبت المكان الذي هو الجسم، ولكنها أيضا توضح أن الحياة تحدث في التبادل بين الجسم والعالم ؛ وأنها حدا ليس مستقرا، وأن الجسم لن يبقى على قيد الحياة اذا كانت حدوده الخارجية مغلقة أو ثابتة .
يوضح المثال أن الفراغ المعاش كفراغ جسدي يعتمد على تبادل التدفق الحر بينه وبين الفراغ الأوسع للعالم من حوله . ويميز لوفيفر العلاقة بانها عملية مثمرة بشكل متبادل :
هل القول بان الجسم بكل قدرته على الفعل، وطاقاته المتنوعة يمكنه أن يخلق مساحة ؟ بالتأكيد، ولكن ليس بالمعنى الذي الذي يجعلنا نقول ان الاحتلال ينتج المكانية، بل هناك علاقـة مباشرة بين الجســم ومكانه، وبين انتشار الجســم واحتـلاله للأماكن. فقبل انتاج المؤثرات (الأدوات والأشياء) في المجال المادي، وقبل انتاج نفسـه باستخـلاص التغذية من المجال، وقبل توليد نفسه من خلال ولادة أجسام أخرى، فكل جســم حي هو مكان وله مكانه، فهو ينتج نفسه وينتج ذلك المكان.(20)
انه لا يؤكد على مكانية الجسم نفسه أو تضافر الجسم والعالم في الادراك، بل يؤكد على حقيقة أن ادراك المكان يرتبط بوقوع الفعل في المكان .
....................................................................................
• هذه المقالة تمثل الفصل الثالث من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» تأليف ليزا ماري بوللر الصادر عام 2016