العدد 878 صدر بتاريخ 24يونيو2024
ادراك المكان كفعالية جسمية
توصف الفينومينولوجيا، بين أشياء أخرى، بأنها دراسة الادراك . ولعل أحد اسهاماتها الرئيسية في مجال البحث هذا هو اعادة تقويم الكيفية التي تجعل الادراك عملية فعالة تشمل الجسم كله – فعالية الجسم الذي يتطلب مهارات، يجب تعلمها وممارستها . ويتعارض هذا الفهم مع النموذج الادراكي الديكارتي « الكاميرا الغامضة camera obsecura « الذي يتصور المخ البشري على أنه مجرد شاشة تُعرض عليها صورة تفصيلية للعالم، والتي لا يمكن، بعد ذلك، الا مشاهدتها ( أو قراءتها ) بعين العقل mind’s eye لكي نعرف العالم ونفهمه (21). واليوم، على الرغم من الانجاز المشترك للفلسفة والعلوم العصبية والادراكية في تسليط الضوء على تكافؤ الادراك والفعل، فان النموذج الديكارتي السلبي يظل متجذرا بعمق في الفهم العامي لماهية الادراك وكيفية عمله . فمثلا يقول باتريك هيلان : البنية الديكارتية للادراك البصري هي شيء مألوف وواضح بشفافية لدرجة أننا نعتبرها معيارية للملاحظة العادية (22) .
فيما يلي أقدم وصفا للكيفية التي طرحت بها الفينومينولوجيا نظرية الادراك وترجمتها مجالاتها العلمية المرتبطة بها الى فكرة الكيفية التي يعمل بها ادراك المكان . وسوف نولي عناية خاصة لربط فكرة الادراك كممارسة جسدية – انتاج الادراك المكاني ان صح التعبير – بمجال النشاط الكامل المتاح للجسم . وأعني بهذا حقيقة أن الادراك يحدث ليس فقط عن طريق أعضاء الحواس الخمسة الأساسية، ولكنه نشاط الجسم كله . كما أنه تذكير أيضا بالمبدأ الفينومينولوجي الأساسي، ألا وهو ما يُدرك هو ما يدركه الجسم وشكله المادي وقدرته المتأصلة، كما هو الحال من خلال الفراغ المُعاش في العالم المحيط . ويشكل الاثنان نسقا لا ينفصم .
وبالمقارنة مع الاستقرار الظاهري وديمومة كثير من المعرفة الموضوعية، فان الادراكات تكون عابرة وزائلة . وبالتالي، في عمليات الادراك، يتم استبدال الانطباعلا الحسية غير المستقرة في أقرب وقت ممكن بأشكال معرفة أكثر صلابة وموضوعية . ويتم تذكر المعرفة من هذا النوع بسهولة أكبر ويمكن الاتصال من خلالها بسهولة أكبر، وبالتالي تعمل بمثابة اختصار ادراكي، بينما يتلاشى الوعي بالعملية الفعلية لادراك أن الشيء يتلاشى في الخلفية . وقد تم وصف هذا بأنه شفافية الادراك في التجربة المعاشة – واختفاءها، رغم ذلك . ويقول الفيلسوف ديفيد موريس مثلا ان « الأشياء اليومية العادية تخفي انعكاس نظرتي هذه ؛ فأنا أرى فنجان القهوة فضلا عن رؤية الكيفية التي أنظر بها الى فنجان القهوة (23) . ويسمي ميرلوبونتي هذا الحذف للرؤية « خطأ التجربة experience error”(24)، موضحا أنه بدلا من الاهتمام بتجربة الادراك، فاننا نتجاهلها من أجل الشيء المُدرك(25) . ويقول :
نعتقد أننا نعرف تماما ما هي الرؤية والسمع، لأن الادراك قدم لنا منذ فترة طويلة أشياء ملونة أو أشياء تصدر أصوات
وعندما نحاول تحليلها، فاننا ننقل هذالأشياء الى الوعي . ونلتزم بما يسميه علماء النفس خطأ التجربة « مما يعني أن ما نعرفـه موجود في الأشياء نفسها، فاننا نعتبره على الفور موجود فـي وعينا به . فنحن نجعل ادراكنا خارج الأشياء المدركـة . ونظرا لأن الأشيـاء المدركة نفسـها متاحـة بوضوح من خــلال الادراك فقط، فاننا ننتهي الى عدم فهم أي منهما (26) .
والمثال المفيد لتفسير خطأ التجربة في الادراك هو عمق مجال التجربة، أو ادراك العمق . وهناك مفهوم شائع مفاده أننا قادرون على ادراك العمق لأن لدينا عينان تقع على مسافة قصيرة من بعضهما البعض، وكلاهما ينتجان صورة مختلفة قليلا عن المجال البصري . وبدمجهما بواسطة المخ، تسمح لنا التناقضات هاتين الصورتين المتداخلتين بحساب موقعنا بالنسبة للصورة باستخدام عملية تثليث . في حين أن مثل هذه الرؤية المجسمة تلعب بالتأكيد دورا في كيفية ادراكنا للعمق في ظل ظروف معينة ( أي على مسافة معينة، وتحت ظروف اضاءة معينة ) فهي ليست الاجابة الكاملة بأي حال . وقد أوضح جيبسون، مثلا، الخيول لايمكنها التثليث من أجل العمق بسبب وضع عيونها، وأن لديها بالتأكيد احساسا جيدا بعمق المجال وقادرة أن تحسب المسافة بدقة .
وبالتالي فان الصورة الكاملة لكيفية عمل ادراك العمق يجب أن تأخذ في الاعتبار مجموعة واسعة من العوامل . واذا نظرنا من وجهة نظر الفينومينولوجيا وفروع علم النفس التجريبي التابعة لها، ومع الأخذ في الاعتبار أن الادراك هو فعالية، فيصبح من الواضح أن ادراك العمق والقدرة على قياس المسافة أو العمليات والمهارات الجسدية هي التي يجب تعلمها في الطفولة المبكرة . وتتضمن، على أقل تقدير، الرؤية وحركة الجسم بالكامل وذاكرة لكل من أمثلة الرؤية السابقة والحركة بالاضافة الى القدرة على تجميع كل ذلك معا . ويقدم جيبسون الأمر على هذا النحو : « لقد قيل لنا ان الرؤية تعتمد على العين المتصلة بالمخ، وسأقترح أن الرؤية الطبيعية تعتمد على الموجودة في رأس على جسم تدعمه الأرض، والمخ هو العضو المركزي الوحيد لنظام الرؤية الكاملة»(28) . وحقيقة أن مجموعة متنوعة من العناصر يجب جمعها معا للوصول الى شيء يمكن أن يُسمى « الرؤية»، تقود على سبيل المثال ادوارد ت هول الى استنتاج مفاده أن الرؤية ممارسة تركيبية، وأنها شيء يجب اتقانه :
النظرية التي مفادها أن الكلام والفهم عملية تركيبية أسهل في القبول من فكرة أن الرؤية مركبـة، لأننا أقـل وعيــا بالرؤية الفعالة من ادراكنا للكلام . فلا يعتقد أحد أن عليه أن يتعلم كيف يرى .ومع ذلك اذا كانت هذه الفكرة مقبولة فهناك العديد من الأشياء القابلة للتفسير بشكل أكبر ممــا هو ممكن في ظل الفكرة القديمة والأكثر انتشارا والتي مفادها أن واقعا ثابتا واحدا يتم تسجيله على نظام الناقل البصري السلبي، بحيث يكون ما يُرى هو نفسه بالنسبة للجميع، وبالتالي يمكن استخدامه كنقطة مرجعية عامة (29)
فكيف يتم تعليم ادراك المكان في مرحلة الطفولة المبكرة ؟ . أجرى ريتشارد هيلد وألان هاين في الخمسينيات دراسة على القطط حديثة الولادةلاختبار ما اذا كان من الممكن أن تتعلم كيف ترى في غياب الحركة الجسدية . وبعد تربيتهم في الظلام, عرض الباحثان مجموعة من القطط للضوء لفترة محدودة من الوقت، ولكن مع السماح لها بالتحرك بحرية خلال هذه الفترات . والمجموعة الأخرى من الحيوانات تعرضت للضوء بنفس القدر من الزمن في نفس البيئة مثل المجموعة الأولى، وبالتالي شاركت في نفس التجربة من الناحية البصرية البحتة . ورغم ذلك, لم يكن مسموحا لهم أن يتحركوا، بل كانوا محمولين، لابقائهم سلبيين بدنيا . ونتيجة التجربة كما ذكرها فرانشيسكو فاريللا، وضحت أنه عندما تم تحرير الحيوانات بعد بضعة أسابيع من هذه المعالجة، أن مجموعة القطط الأولى تصرفت بشكل طبيعي، ولكن تلك التي كانت محمولة تصرفت وكأنها عمياء : اصطدمت بالأشياء وسقطت على الحواف(30) . وعلى الرغم من أن بصرهم كان سليما، الا أن قدرتهم على الرؤية تعرضت للخطر . وبالتالي، فان التفكير الحالي في العلوم العصبية والادراكية يستند الى الموقف القائل بان القدرة الادراكية لا تعُطى بل تُكتسب، علاوة على أنها تتشكل بحسم من خلال البيئة التي يتم فيها التعلم (31) .
وفي نصه الغريب «عمارة المسرح : امتداد الكهف البدائي Theater Architecture : A Derivation of the Primal Cavity”، يربط الباحث الباحث المسرحي دونالد كابلان ( والذي يحاول فيه صياغة نظرية للمكان المسرحي باعتباره كهفا بدائيا معدا لتكرار تجارب الطفولة المبكرة ) قدرتنا على الرؤية بالطرق التي يستكف من خلالها الأطفال الصغار العالم من حولهم في داخل أفواههم:
ان العمليات الكهفية البدائية المتكررة سوف تعلم احاسيس الجـهاز البصري الناضج وتوضحها وتثقفها داخل الادراك . وبحلول الشهر الثامن من العمر، تنشئ فعالية الكهفية البدائية ادراكا بصريا يميز الحي من الميت . وعلى الرغم من أننا نرى بأعيننا، الا أن مــا ندركه فعليا يعتمد على العديد من الحواس الأخرى غير البصر (33).
والخلاصة التي نستنتجها من كل هذا أننا عندما نفكر نرى «مكان»، وما نفعله في الحقيقة هو الرؤية والسمع والحركة، والشعور بملمس البنية, وأن تدفقات الهواء تلمسنا، ونتذكر التحرك، ونتذكر ماهية الشعور بالفهم، ونتذكر اللعق والزحف ..الخ . وكما توضح تجربة القطط، الشيء الأكثر حسما يبدو أنه الاحساس بالحركة : الحركية kinaesthesia . وتأمل الادراك كتركيبة من انطباعات الحس المتباينة, وأيضا وذكريات المشاركة الطويلة في نفس الأشياء, يعني أن الادراك يجب أن يُفهم باعتباره مجموعة دينامية من المعرفة التي تدمج المكان . فالعالم يبدأ في جعل نفسه معلوم لنا لأننا نصبح قادرين على فعل الأشياء . واذا لم نشارك في العالم من خلال الممارسة، فلن نعرف ما الذي نراه .
ومن الجدير بالذكر، نتيجة لذلك، أن ما يُدرك يعتمد بالضرورة على الجسم المدرك وحجمه وشكله واتجاهه ومهاراته وقدرته . وبالتالي فان خصائص وسمات الأشياء ليست مطلقة، بل مرتبطة بمصدر الادراك : يجب ادراك نفس الشيء بالتالي باعتباره صغيرا ( أي قابل للادراك) من خلال جسم جسم كبير جدا وضخم (أي لا يمكن فهمه، أو قابل للتسلق ) بالنسبة لجسم صغير . ويقول ميرلوبونتي :
يكون الشيء كبيرا اذا لم يتمكن نظري من استيعابه بالكامل وصغيرا اذا استوعبته بسهولة، ويمكن تمييز الأحجام المتوسطة وفقا لأنهــا عندما توضع على مسافة متساوية مني، فانها تسبب اتساعا أكبر أو أصغر في عيني، أو ما يسـاوي ذلك التمدد على مسافات مختلفة .
(...) لذلك من الصحيح تماما أن يشير أي ادراك لشيء ما أو لشكله أو حجمه باعتباره حقيقيا، أو أي اتسـاق ادراكي، الى وضع عـالم ونظام من الخبرة يرتبط فيه جسمي بشكل لا مفر منه بالظواهر . (34)
لا يرتبط الجسم المدرك، ارتباطا وثيقا لا مفر منه، بالظواهر بالظواهر التي يدركها الجسم فحسب، ولكنه يكون على قيد الحياة بالنسبة لبيئته باستمرار من خلال العديد من الطرق الحسية والحركية . ومن ثم فان أفضل وصف للادراك هو أنه شكل من أشكال الاستجابة، أو الاستعداد للاستجابة، وليس تفسيرا لا مبالى بالمعلومات (35) .
والسبب وراء أهمية كل ما سبق لتحليل ادراك المكان المسرحي هو أن تجربة مشاهدة المسرح لا تزال تُفهم في كثير من الأحيان على أنها حالة سلبية، فضلا عن أنها فعالية تتعلق بالعديد من القنوات الادراكية . فحتى الجلوس بلا حراك على مقعد في المسرح، ستتحرك العينان وترتفع الرقبة، وتتكيف العضلات اذا ضبطت العيون المعلومات الحسية عن القرب والتقارب وحساب الحجم والمسافة وأنتجتها . ان كثافة وخصائص مثل هذه الأنشطة تنتج خصائص وكثافات مختلفة لكل ما يُرى. وتعتمد كيفية ظهور الأشياء بصريا، بطرق حقيقية، على عملية الرؤية وجودتها . وتقترح ألفا نوا التمرين التالي لكي تستدعي الى الانتباه العلاقة بين فعالية الرؤية والشيء المرئي . « اقترب من شيء ما وسيلوح في مجالك البصري، ابتعد الآن : فيترك مجال رؤيتك، والآن أغمض عينيك : لقد تلاشى، تجول حول الشيء فسوف تتغير صورته (36) .
وقد يساعدنا مثال من الممارسة المسرحية في توضيح هذه النقطة . لقد سلط عمل « رجال مرئيون Visual Men”، الذي قدمه ثنائي كوميدي تجريبي راقص لفرقة نيو أرت كلوب في عام 2007، الضوء على العمل الادراكي الذي قام به الجمهور أثناء العرض المسرحي وسخروا منه (37). وبدلا من استخدام مؤثرات اضاءة مثل الاظلام، وطلبوا من جمهورهم أن يغلقوا عيونهم عندما يكةن الاظلام ضروريا، ثم يفتحونها مرة أخرى بعد اشارة معينة، باظهار صورة خشبة مسرح من جديد . وتكمن الكوميديا في هذا النهج الى حد كبير في مدى نجاحه، وفي مدى تعقيد الأجهزة التكنولوجية في المسرح السائد . وفعل فتح عينيك وحده يجعل شيئا يظهر، واغماضهما يجعلها تختفي .
“ هناك واختفى “ هي احد المخططات الادراكية التي يجب أن نتعلمها ونمارسها في الطفولة المبكرة، من خلال اللعب واكتشاف أنواع الأفعال التي تجعل الأشياء تظهر أو تختفي . والمخطط الآخر وثيق الصلة هو مبدأ « في الداخل والخارج «، الذي يتم تعلمه من خلال التجريب على الأشياء التي يمكن أن تلاءم أو تتضمن أشياء أخرى، أو محاولة استخدام اشياء في أماكن الجسم الداخلي مثل الفم أو القبضة المغلقة . ومن بين كل التخطيطات التي طرحا منظرو الادراك المتجسد، يبدو أن هذين الأثنين هما الأهم والأكثر ملائمة للمسرح : أفعال الاخفاء والاظهار، والدخول والخروج، وفتح واغلاق الستائر والأبواب والصناديق والأبواب المسحورة ... هي بعض اللبنات الأساسية .
....................................................................................
• هذه المقالة تمثل الفصل الثالث من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» تأليف ليزا ماري بوللر الصادر عام 2016