العدد 879 صدر بتاريخ 1يوليو2024
تعددية المكان المتجسد
تميز الادراك سابقا بأنه فعالية، ولكن ربما من الأفضل أن نتحدث عن «الفعاليات» بصيغة الجمع، نظرا إلى تعدد الطرق التي يؤدي من خلالها الجسم هذه العمليات الادراكية التي لا حصر لها . وبنفس الطريقة يمكننا أن نتكلم عن تعدد الأماكن الادراكية بصيغة الجمع، فضلا عن المكان بصيغة المفرد، على الرغم من أن فصل هذه الأماكن المتعددة يظل بالضرورة تمرينا مفاهيميا . وأنهما، في حقيقة التجربة المعاشة، مترابطان بشكل وثيق، في أغلب الأحيان، باعتبارهما بحيث يمكن تقويمهما بشكل منفصل . ومن أجل هذه الفكرة، وسوف أقوم في المحاولة التالية بمثل هذا الفصل النظري للمساحات الجسدية للتجربة المعاشة . والفضاء البصري هو الأكثر هيمنة بين هذه الفضاءات، وقد نوقش بالفعل في سياق ادراك العمق ونظرية المجال، وسوف يتم استبعاده إلى حد كبير من هذه القائمة، لتجنب زيادة تعزيز المفهوم الخاطئ الشائع بأن الفضاء هو بطريقة أو بأخرى مساحة بصرية .
وعلى أية حال، سوف أبدأ بشكل المساحة البصرية التي نادرا ما تعد بأي تفاصيل : «مساحة محيطية peripheral space”، والتي تُفهم حركيا والى حد ما بصريا، طبقا للمعماري يوهاني بالازما(38) . إذ تظل الأشياء أو الحركات خارج مجال الرؤية المركزة أو غير محددة على محيطها، ولكنها في الواقع تشكل الجزء الأكبر من المجال البصري . وتأكيدا على أهمية الفراغ المحيط في العمارة، يقول بالازما أن « يبدو أن خاصية الواقع المعماري تعتمد أساسا على طبيعة الرؤية المحيطة، التي تطوي الذات في الفراغ (39) . بينما الفراغ البصري المركز يقع مباشرة أمام الذات المدركة، ويبدو أن الفراغ المحيطي يتبعه ويتداخل فيه، وينزلق منه، عندما ننظر اليه مباشرة، ولكنه مع ذلك يوفر احساسا قويا بالموقع (40) .
وبشكل دوري، يتحول الفضاء البصري إلى فضاء مظلم، كما أوضح الطبيب النفسي والفينومينولوجي يوجين مينكوفسكي (41) . مثل هذه المساحة الليلية المظلمة (أو الناتجة بشكل مصطنع) لها صفات وخصائص مختلفة عن المساحة المرئية المركزة أو المساحة المحيطية . الجسم المُدرك محاط بالكامل بمساحة مظلمة، فليس هناك أمام وخلف، ولا حتى قريب أو بعيد – فالأشياء اما أنها تلمسني أو أنها غير موجودة . ويصف مينكوفسكي خاصية العمق في الفراغ المظلم بأنها تختلف تماما عن خاصية الفراغ البصري ( المضيء) :
بعكس الفراغ المضيء، لن يكون له بجانب أو بعيد، ولا سطح ولا امتداد، اذا تحدثنا بشكل صحيح، ومع ذلك هناك شيء مــا مكـاني يتعلـق به، فسـوف يكون له عمـق، ليس العمـق الذي يضاف إلى الطول والارتفـاع، ولكن البعد الواحد والفريـد الذي يستخدم نفسه فورا كعمـق . انه مثل مجال مبهم وغير محدود حيث تكون جميع أنصـاف الأقطـار متماثلة، ولها جميعا نفـس نفس طابع العمق، ويظل هذا العمق أسودا وغامضا . (42)
وفي اطار الموقع، يشعر الجسم الواعي بنفسه دائما وكأنه في وسط فضاء مظلم، بغض النظر عن الشكل الموضوعي للغرفة أو الفراغ الذي يجد نفسه فيه .
وفي هذا الصدد، لا يختلف الفراغ السمعي aural space عن الفضاء المظلم: هنا أيضا الجسم الواعي في وسط المجال السمعي الذي يمتد بشكل متساوي في كل الاتجاهات . فالأمامي ليس مهيمنا كما هو في الفراغ البصري، ما يمكن أن يختبر كحدود للفراغ في اطار بصري ( مثل الجدران المحيطة بالغرفة الصغيرة) يمكن أن يخرقها الصوت، وغالبا يجعل المساحة الصوتية هي أوسع المساحات التي نوجد فيها . ويشرح هذه الظاهرة باري بلسير وليندا سالتر، في كتابهما حول العمارة الصوتية « المساحات تتحدث : فهل تصغ ؟ (43) . ولأن الحدين السمعي والبصري وسائل مستقلة في ضم الفراغ، فان خبرتنا البصرية والسمعية بالحجم، والمساحة بين الحدود، ربما لا يتوافقون . فمثلا الزجاج تقسيم سمعي وليس بصري، والستارة السوداء تقسيم بصري وليس سمعي(44) . وغالبا ما يُستهان بقدراتنا على الاحساس بالفضاء أو اعتباره أمرا مفروغا منه، لذلك فان معظم الناس لا يدركون مدى دقته كوسيلة للتوجيه . فمختلف الفراغات المعمارية بارزة، لا أكثر ولا أقل، اعتمادا على شكلها وموادها : فعندما نتحرك، يرمون خطواتنا إلى الخلف، ونتكلم فيردون لنا الصدى . وبدون هذه الاستجابة، سنضيع في الفراغ حرفيا .
كل من الفراغ الصوتي والفراغ المظلم جزء مكمل للتجربة المكانية لمشاهدة وأداء المسرح، وسوف نعود اليها فيما بعد في هذه الأطروحة في سياق أكثر عملية. والأقل أهمية بشكل مباشر للممارسة المسرحية، ولكن من المهم تأملها في سياق معماري هي مساحة اللمس tactile space، والتي توجد ملاصقة جدا للجسم . وتصبح مساحة اللمس أكثر تحديد وتعقيدا بالقرب من اليدين وأطراف الأصابع والفم وفي مواقف معينة (أو سياقات ثقافية) وأيضا باطن القدمين . وهي تُجرب هكذا باعتبارها موزعة عبر مناطق معينة من الحساسية المتزايدة – انها لا مركزية .
أخيرا هناك نوعان من المساحات الادراكية المهمة بوجه خاص لتجربة العمارة، وربما بشكل أكبر لممارسات العروض المسرحية ومن ضمنها الرقص : فالحساسية والفراغ الحركي، هما تقسيمان لمساحة اللمس . والحساسية هي احساس وعي الجسم الداخلي والتوازن والحركة، بينما الحركية هي احساس حركة الجسم في الفراغ . وكلاهما يؤدي دورهما عند الجلوس أو الوقوف أو الحركة في الفراغ المعماري، ويمكن أن يوصفا بأنهما يجربان داخليا فراغات جسمية، ويتعلقان بردود فعل عضلية ودهليزية من التغيرات في الارتباط بالجاذبية . فالدوار مثلا ربما يُحس كأنه تحول أو انسحاب الاحساس الموجود في تجويف المعدة . وارتفاع وزوايا الفراغات المعمارية ( أو النزول تحت ) مساحات وشرفات قاعة المسرح يؤثر علينا بشكل حسي . وتتضمن العوامل التي تلعب دورا هنا اسئلة عما اذا كانت الأرضية مرئية تحتنا من عدمه، أو بنية السقف، أو ما اذا كانت الممرات التي يوفرها المبنى آمنة للتحرك خلالها، علاوة على اعتبارات مثل نسيج الأرضية الحوائط (صلبة، وغادرة، أو زلقة مثلا) أو سهولة توجيه الفضاء. وتقدم المعمارية وعالمة الأداء بيث فاينستين وصفا فينومينولوجي لمنظور الفراغ في وصفها لما تسميه « الفراغ الذي لا يمكن استيعابه هندسيا « (46)، في تصميم جين نوفيل المستقبلي لمسرح أوبرا ليون :
يؤدي التضارب بين المعلومات الحسية والبصرية حول المسافة
ولاسيمـا المسافة إلى الأرض تحـت قدمينا، إلى تأثير في القنـاة
الهضمية ودوار . ونوفيل هو أسـتاذ الدوار كما هو موضح فـي التناوب المذهل والمربك بين الحركة المنخرطة جسديا والحركة السلبية، والفراغ المضغوط والفراغ المتسع بشـكل لا يقـاس .
إذ لا يمكن حل غموض العمق من خلال الأسطح المثقوبة فـي الممـرات، واهتزاز هذه الممرات بالأقدام، والانعكاسات المقلوبة والمشوهـة على الوعاء المطلي والحـواف، لا يمكنهــا تمييز أحجام الأسود على الأسود، لكي تركز انتباه رواد المســرح،
والمنظور الحركي وشبكة العين، فيما يتعلق باستشعار الفراغ والتفاوض عليه . (47)
والارتباك الذي تصفه هو نتيجة المساحات الجسدية المتضاربة: فهي تتداخل، وتوفر معلومات متناقضة عن نفس الفراغ المعماري .
وهذا يعيدنا إلى النقطة التي قدمنا سابقا، وهي أن مختلف تجليات الفراغ الجسدي الناتج عن الادراك الحسي لا يمكن أن ينفصل في التجربة المعاشة . فهما يتدفقان في كل منهما الآخر، ويلون أحدهما تجربة الآخر . وبالنسبة للمسرح، فان هذا يعني أن المتفرجين يعيشون تجربة الفراغ البصري المهيمن أثناء الأداء – رغم كونه مُدرك كفراغ – الذي يظل يحمل معه آثار الذاكرة المكانية الحركية والحسية وتجربة اللمس . فالادراكات في الأساس متزامنة بشكل معقد . ويصف ميرلوبونتي كيف تلون خاصية تداخل انطباعات الاحساس اللغة التي نستخدمها لوصفها . « اننا نرى صلابة وهشاشة الزجاج، ومع رنين الصوت ينكسر، فينتقل هذا الصوت من خلال الزجاج المرئي (...) وأسمع صلابة الحصى وعدم انتظامه في خشخشة العربة، ونتحدث بشكل ملائم عن صوت ناعم أو ممل أو حاد (48). وعندما نحلل الفراغ المسرحي في الأداء، فمن الصعب أن نفصل بشكل مؤثر كيف يتم ابتكار انطباع معين، سواء بصريا، من خلال الحركة، أو صوتيا . وقد عبرت جرترود شتاين بطريقتها الخاصة هكذا :
ماذا يحدث على خشبة المسرح وكيف وما هو شعرنا نحوه. ذلك شيء يجب أن نعرفه، ونعرف كيف نرويه كما هو . فهل الشيء المرئي أو المسموع الشيء الذي يجعل كل الانطباع موجه إلينا في المسرح . وما مدى علاقته بالسمع وكم هو قليل. وهل يحل الشيء المسموع محل الشيء المرئي، وهل يساعده، أم هــل يتعارض معه (49) .
ان سؤال ما اذا كان الصوت يمكنه أن يغير أو يحل محل الأشياء المرئية على خشبة المسرح هو سؤال مثير جدا . بوضوح، يستطيع الصوت أن يفعل أشياء قوية للفراغ وفي الفراغ، ودراسة الحالة في الفصل الخامس سوف تقدم مثالا لهذا الحدث في الأداء : الشيء المسموع لا يحل محل الشيء المرئي، ولكن الشيء المسموع يجعل شيئا كان خفيا في السابق مرئيا . وما يبقى لنا هنا هو أن نسأل كيف تحدد أشكال ادراك الفراغ الجسدي المتعددة تجربة عمارة المسرح، أو بمعنى آخر، ما معنى أن نقول أن عمارة المسرح متجسدة .
تجسيد الفراغ المسرحي عند تطبيق أهم النقاط المثارة في هذا الفصل حول ادراك الفراغ المتجسد وتعدديته الأساسية في تجربة المسرح، تظهر نتيجتان تمهيديتان : أولا، ادراك الفراغ هو بفعالية انتاجه، ثانيا، هذا الانتاج يحدث على قنوات جسمية متعددة .
بداية بالأول، لا يوجد شيء جديد أو رائد في مقولة ان فعالية صنع المسرح تتضمن انتاج الفراغات - الفراغات المعمارية للمسرح وأيضا الفراغات السينوغرافية أو الجسدية . يشمل انتاج الفراغ المسرحي، من بين أمور أخرى، تخيل وبناء المشاهد وبناء الدراماتورجيا، وتكوين الصوتيات المكانية، ولا أقل من بناء أو ابتكار ( أو ملائمة ) فراغات المسرح بالمعنى المعماري . ورغم ذلك، فان ما حددته الأفكار والنظريات آنفا تسمح لنا أن نفعله هو تصور ادراك الفراغ نفسه كفعالية . وانه جهد تركيبي من جانب المتفرجين والمؤدين على حد سواء، وهو فعالية تحدث تقريبا على مستوى قبل تأملي، ولا يمتد إلى الفكر الواعي الا في بعض الأحيان . وحجتي هنا أن المسرح، يمكنه أن يجعل هذه العمليات الخفية غير المنعكسة مرئية، كما في مثال « التكنولوجيا المنخفضة « لفرقة نيو آرت كلوب المذكورة آنفا .
لقد اتبع التجديد المسرحي عن كثب دائما رؤى الادراك البصري والسمعي والتجسيدي . ويمكن القول ان القدرة على ابتكار فراغات خيالية وقصصية تتطلب فهما، أو بديهة، لكيفية ادراك الفراغ وتمثيله في اليومية العادية . وقد انشغل المسرح، طوال تاريخه بعملية المؤائمة والتطوير المستمرة لأشكال التمثيل المكاني الجديدة، التي نشأت من الاختراقات العلمية فيما يتعلق بالادراك الجسدي . والمثال على ذلك هو تقنية الوهمية للرسم المركزي ومنظور النقطتين التي شكلت أساس تمثيل الفراغ المسرحي لعدة قرون، وجاء بعد ثورة في كيفية فهم عمل الرؤية (50). ورغم ذلك، فان ما أريد أن أركز عليه هنا هو الطريقة التي ساهمت بها نظريات الادراك المتجسد في تنظير وتدريس تقنيات الأداء، أي التمثيل .
....................................................................................
• هذه المقالة تمثل الفصل الثالث من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» تأليف ليزا ماري بوللر الصادر عام 2016