«نساء بلا غد».. صرخة لضمير العالم من ضحايا الحروب

«نساء بلا غد»..  صرخة لضمير العالم من ضحايا الحروب

العدد 880 صدر بتاريخ 8يوليو2024

  من إنتاج مركز الهناجر للفنون بقيادة المخرج (شادي سرور) التابع لقطاع الإنتاج الثقافي بقيادة المخرج (خالد جلال) قدم العرض المسرحي نساء بلا غد من أعداد وإخراج الفنانة السورية (نور غانم) عن النص الدرامي نساء بلا رب للمؤلف 
والمخرج العراقي (جواد الأسدي) الحائز على جائزة الأمير كلاوس للمسرح عام 2004م وعبر النص عن الواقع المرير الذي تسببه الحرب من وجع وفقد وسبي للنساء وقامت المخرجة بتغير العنوان إلى نساء بلا غد، وتم إضافة وحذف بعض التفاصيل حتي يتناسب مع رؤيتها كمخرجة عن الواقع السوري المعاش، وقد تم تقديم هذا العرض في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 2017م في مهرجان المسرح العربي، كما شارك في مهرجان المسرح النسوي، والذي قدم أيضاً على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية، وحصل على عدة جوائز، كما شارك العرض في الدورة الرابعة والعشرون من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر(أضيف في هذا التوقيت كلمة المعاصر) وقدم العرض على مسرح مركز الإبداع الفني بالأوبرا، وحالياً أنتج العرض مرة أخرى وبشكل جديد وتم تغير بعض المشاركين في العرض، فجميعا يرى ما يحدث الآن  في منطقتنا العربية من دمار وخراب تسببه ويلات الحروب.
 حافظت المخرجة علي الرسالة التي طرحها جواد الأسدي، وقد ذكر على لسان الشخصيات أن  الحرب ليست في سوريا فقط ،لكن الحرب في العراق وليبيا واليمن والسودان وفلسطين، وعندما يفقد الإنسان الوطن يصاب بشرخ نفسي وتتشوه شخصيته ويفقد كل شيء في حياته.
  تدور فكرة العرض الرئيسية حول ثلاثة نساء من سوريا لجأ إلى ألمانيا هرباٍ من ويلات  الحرب والمعاناة والقسوة  التي حدثت لهن في وطنهم الأصلي سوريا، وهن ينتظرن الآن  للحصول على حق اللجوء من السلطات، وتحكي لنا الأحداث معاناة جديدة لتلك الشخصيات من تكرار التحقيق معهن من قبل السلطات الألمانية، وتوضح مدى العلاقات المتوترة بينهن حيث يعشن في ملجأ واحد، فتلك النساء قدمن من ثلاث بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة في داخل الدولة السورية وهن أديل (نهال الرملي) من اللاذقية، متحررة تحب الحياة وتخرج وتسهر وتحتسى الخمر، ومريم (بسمة ماهر) من حمص، متدينة، وفاطمة (لونا أبو درهمين) من دمشق، ممثلة ولها ثقل وذاع صيتها في سوريا وهي مثقفه ولها آراءها المعتدلة، ونتعرف على ظروف كلاً منهن وسبب هروبهن من سوريا، وما تركته الحرب من أثر نفسي عليهن وعدم الشعور بالأمان. 
  يبدأ العرض بوقوف الممثلات الثلاث صفا واحداً وسط مقدمة المسشرح ليشرحن للمحقق الذي لم يظهر مطلقا خلال العرض (فهو الحاضر الغائب) لتقديم مبرات سبب اللجوء إلى بلادة (المانيا) وترك الوطن الام (سوريا) 0 ونستطيع القول بأن هذا المحقق يجلس في صفوف الجماهير ليشاهد الجميع مخاطبة تلك النسوة ضمير العالم وما فعلته الحرب بهمن لعلها صرخة لأيقاظ ضمائرهم والمطالبة بوقف الحروب التي لا تسبب إلا الدمار والخراب، وعلى مدار الأحداث يتكرر مشهد التحقيق معهن بصور مختلفة للتيقن من وجودهم بألمانيا بسبب الحرب في سوريا، لكن نجدهن في نهاية العرض مازلن يقفن أمام المحقق ولم يحصلن على اللجوء رغم معناتهن، فقد أصبحن بلا وطن ولا يعلمن ماذا يحدث غداً، فهن بالفعل نساء بلا غد.
تنقلنا الاحداث إلى مكان إعاشة الشخصيات الثلاث اللاتي تجمعن مصادفة، فهن يعشن في مكان ضيق عبارة عن غرفة في أحد ملاجئ إعاشة النازحين الفارين من ويلات الحرب.

رؤية المخرجة
دمجت المخرجة بين الواقعية والتعبيرية، فنجد الديكور (أحمد جمال «جيمي”) عبارة عن برتكبل مرتفع بحوالي 60سم ملصق به آخر بارتفاع 40سم، موجود على يمين عمق المسرح، وضع عليهما اسفنج مبطن بالجلد الأسود تشبه تماما المقعد الأخير (كنبه) الذي يجلس علية خمسة أشخاص في اتوبيسات النقل العام، يمثلا سرير أديل وسرير فاطمة، وامامهم وضع علي المستوي صفر صفوف من بعض الكتب الخاصة بفاطمة، وعلي سرير أدل وضع الراديو الخاص بها، ويتضح تناغم أدل مع فاطمة، كما نعلم أن أدل تحب التمثيل، ويسار المسرح يوجد برتكبل وضع عليه نفس الاسفنج والجلد يمثل سرير مريم ، ونعلم مدي التنافر وتشاحن أدل مع مريم، ونستنتج مدي معاناة تلك النسوة، حيث أن السرير مكان الضجوع والنوم غير مريح لهؤلاء النسوة، وخلف سرير مريم يوجد استند معلق عليه بعض الملابس الخاصة بهن، وفي منتصف عمق المسرح نجد طرابيزة من المفترض أنها خاصة بالطعام ليجلسوا حولها حيث التقارب والالفة والانسجام الذي لم يحدث، فلم يجلسوا عليها إطلاقاً، بل استخدمت كمكان للتحقيق ، وأيضاً كمسرح تمثل عليه فاطمة، وكرس واحد من الخشب استخدم لجلوس مريم عندما كانت تسألها فاطمة عن علاقتها بالشخص البوسني، واستخدم الكرسي أيضاً كسلم للصعود على الطرابيزة، وخلف الطرابيزة وجدت الثلاث شاشات عرض عليها بعض مشاهد فيلميه (محمد البدري  Video Mapping، مونتاج يوسف أبو دان).
  جعلت المخرجة الممثلات يقفن صفا واحداً في بداية العرض لتعبر عن وقوف الثلاث نساء أمام المحقق الذي سيصدر قرار اعطاءهم حق اللجوء بعد التيقن من سبب وجودهن في بلادة، وفي موقف أخر نجدهما يقفن أعلى المنضدة الموجودة في منتصف منتصف المسرح كأنهن يقفن مرة أخري أمام المحقق لسؤالهن، وفي مرة ثالثة تعرض لنا الثلاث شاشات المتجاورة والموجودة خلف المنضدة بعض اللقطات على الشاشات فيظهر على شاشة المنتصف شفاه واسنان لاحداهن وكأنها تتحدث إلى المحقق، ويظهر على شاشتي اليمن واليسار أحد أعين الاثنتين الأخرتين وكأنهما يتحدثا بلغة العيون وينظرا إلي المحقق ليترقبا قراره، لتظهر لنا أدق التفاصيل ومدي المعاناة والتوتر لهؤلاء النسوة.
تنقلنا المخرجة من خلال الاحداث بين أماكن التحقيق ومكان إعاشة الثلاث شخصيات معا في مكان ضيق، عبارة عن غرفة في أحد ملاجئ إعاشة النازحين من ويلات الحرب، وتستكمل حكاية هؤلاء النسوة، لتبرز لنا مدى الاختلاف والمشاكل البسيطة التي تحدث بينهن والتي فجرت الصراعات التي تحدث بينهن والواقع السيء والظروف القاسية اللاتي يعشن فيها، وتشرح لنا بواسطة الحوار على لسان الشخصيات الثلاثة ماذا حدث لهن في الماضي فترة تواجدهن في الوطن (سوريا)، فنتعرف على شخصية أدل البسيطة والتي ليس لديها مفردات كثيرة، فقد أحبت شخص وتزوجته وحملت منه وعندما ولدت كانت المولودة طفلة مريضة، وأبلغها الأطباء بأنه لديها ثقب في القلب، وبعد سنوات قليلة تدخل الطفلة غرفة العمليات وينجح الأطباء في رتق الثقب، ولكن الطفلة تموت برصاصة في قلبها، رصاصة الخسة والغدر، رصاصة الحرب الذي يدفع ثمنها المواطن المسالم. ماتت الطفلة وتشردت الأم بخروجها من الوطن مجبرة إلى بلد لا تعلم ماذا يخبئه لها الغد، أما مريم المتدينة التي كانت ترتدي حجاب يعجب بها شاب بمجرد رؤيتها وهي تسير في الشارع ويحدثها أنه يريد فوراُ الزواج منها، فلم تعيره أي اهتمام لطريقة حديثة المفاجأة والغريبة، ويقوم هذا الشاب باختطافها ويتزوجها على طريقة جماعته بما يعرف بجهاد النكاح، ويغتصبها أكثر من عشرة شباب، مما يسبب لها ألم وجرح نفسي ويجعلها شخصية مهزومة من أثر هذه الجريمة الشنعاء، وعندما تتهيأ لها فرصة للهرب تهرب، وفي ألمانيا نراها تصلي على الرغم من أنها تواقع شاباً بوسنياً في الغابة دون زواج، ودون أي ساتر، أما فاطمة الممثلة والتي تقول إنني أحاول أن أحافظ على توازني طوال الوقت فهي التي تحاول جاهدة تهدئة الصراع بين أديل ومريم والفصل بينهما. تعرضت فاطمة في سوريا للعنف والقهر والضرب بواسطة الامن، وتحكي لنا عن قصة هروبها فقد وقعت ضحية في يدى المهربين غير الشرعيين، وكيف وصلت إلى ألمانيا ومدي الإهانة الإنسانية حين تشحن في إحدى الشاحنات مع الحيوانات لعبور الحدود، ثم تسير في غابات يكسوها الثلج ودرجة الحرارة 30 تحت الصفر، ويزداد الامر تعقيداً بظهور أخت مريم على الشاشة نتيجة التواصل مع عائلتها في سوريا وتبلغها الأخت أن أخاها مات في الحرب، ويظهر والد فاطمة (أيمن الشيوي) ويبلغها بان تستقر في مكانها ولا تعود إلى سوريا مرة أخرى حيث أنه لا يوجد وطن   
وفي النهاية يتضح لنا التشوه الذي حدث لتلك الشخصيات نتيجة الحرب فنجد تشوه الحرية (أدل) والتي اتسعت لديها فكرة اللامبالاة، وتشوه الدين (مريم) الذي أصبح لديها انفصام في الشخصية، فهي تصلي ولكنها تزني علنا في إحدى الغابات، وتشوه الثقافة والفن (فاطمة) والتي كانت تستمد قوتها واتزان شخصيتها من الوطن والآن هي كالعاجز كالذي ينتظر الموت.
كانت الإضاءة (أبوبكر الشريف) ضعيفة أو متوسطة الشدة بألوان متداخلة (أزرق + برتقالي خافت) لتوضح مدي كآبة المكان ووضع بطريق مختفية (خلف الستارة) على جانبي مقدمة المسرح يمينا ويسار كشاف يعبر عن مصدر أضاء خارجي في إشارة على رص المخيمات بجوار بعضها البعض ويفصل بينهما ستائر فقط، واستخدم بؤر ضوئية لإنارة وجوه الممثلات وهن يقفن للتحقيق أمام القاضي.
أما الملابس (رحمة عمر) كانت من قماش واحد ولون واحد فهن من بلد واحد، ولكن التفصيل مختلف فنجد فستان أدل قصير ودون اكمام، وفاطمة طويل ودون أكمام، ومريم طويل وله أكمام، ليعبر كل زي على شخصية السيدة التي ترتديه، كما ارتدت فاطمة فستان سمي فستان جولييت، كما وضعت على جسدها وشاح أحمر وذلك عندما كانت تؤدي بعض المشاهد التمثيلية التي تذكرها بماضيها كفنانة مشهورة في وطنها (سوريا).
أما الموسيقي (مصطفي منصور) والاستعراضات (مناضل عنتر) فقد استخدمت لتكمل الحالة الدرامية مثل رقص فاطمة وأدل على نغمات استخدم فيها الآلات الوترية والإيقاعية، وموسيقي التوتر عندما كان يرسل والد فاطمة رسالة لها بأن لا تعود إلى الوطن حيث انه دمر بالكامل ولا يوجد بالمكان الذي يعيش فيه غيرة هو ووالدتها وقطط وكلاب الشارع.
تكون فريق الإخراج من مساعد مخرج العرض (فادي رؤف)، مخرج مساعد (محمود علاء)، مخرج منفذ (محمد جلال) والمخرجة (نور غانم).
 التحية واجبة لكل من ساهم في خروج هذا العرض إلى النور.


جمال الفيشاوي