العدد 880 صدر بتاريخ 8يوليو2024
عندما بدأ فن التمثيل ينفصل عن أساسه في مجموعة مقننة من الايماءات والحركات المنصوص عليه مسبقا، وتطور نحو فهم نفسه كفن لرد الفعل بشكل طبيعي وواقعي تجاه المواقف الخيالية، برزت مسألة كيفية ابتكار أو تصنيع ادراك خيالي وأصبحت أكثر الحاحا . وقد طور المنظرون الممارسون، بما في ذلك ماكس هيرمان وستانسلافسكي أفكارا حول كيفية اهتمام المؤدين بحالاتهم الجسدية وحركتهم من أجل تعلم كيفية الاستفادة منها واعداها للعمل لاحقا في التدريبات والأداء . وأكدوا على حقيقة أن الادراك يتعلق بالجسم كله ويعتمد كثيرا على التجارب السابقة وذكريات الاحساس والحركة كما يحدثا بدنيا في المساحة الحالية . وكما يحدد هيرمان، فالمساحات المختلفة تولد طرقا مختلفة للحركة والكلام : فنحن نمشي ونتحدث بشكل أكثر اختلافا في المساحات الواسعة عن الكلام المشي في المساحات الضيقة، وتؤثر الايحاءات الاجتماعية والثقافية لمختلف الأماكن على كيفية سلوكنا الخاص أو العام، الممتع أو القمعي، الحر أو المقيد، الآمن أو الخطير، الرسمي أو القذر ... ويمكن أن يلي ذلك، اذن، أنه من خلال تجسيد هذه الطرق المختلفة في الحركة ورد الفعل، فلابد أن تظهر المساحات المعنية، ويدركها الآخرون . وتؤكد شيتس جونستون، مثلا، أن مختلف خصائص الحركة يمكن أن تنتج مختلف أنواع المساحات :
تخلق الحركة الخصائص التي تجسدها والتي نجربها . فالحركة في الواقع لا تحدث في المكان والزمان ببساطة . فنحن نخـلق نوعيا سمة مكانية معينة من خلال طبيعة حركتنا . فالمساحـة الواسعة المفتوحة أو المساحة الضيقة المقيدة، مثـلا، همــا اختلاف مكاني يوحي بالمكانية المميزة للفرح والخوف .(51)
هذا فكر مثمر للتمثيل، لأنه يوحي أن عملية التمثيل نفسها هي التي تصنع الفراغ، بغض النظر عن السينوغرافيا أو حتى العمارة المسرحية . والتفكير مرة أخرى في تصنيفات الأماكن المسرحية في الفصل الأول، فان هذه الفراغات الناتجة بشكل أدائي يمكن أن تندرج تحن تصنيفات « الفراغ الايمائي gestural space أو الفراغ التقديمي presentational space”، ويمكن القول انها تشمل أشكالا مثيرة للاهتمام ومتعددة الاستخدامات لفراغ العرض المسرحي .
ولكن كيف يرتبط هذا بادراك الفراغ والتجسيد . وكما أوضح علماء الاجتماع والفينومينولوجيين، هناك العديد من الطرق المشروطة اجتماعيا وثقافيا لفعل ادراك الفراغ . إذ تجادل مارتينا لاوف، مثلا، أن كيفية ادراكنا للفراغ هي جزء من العادة وبالتالي تعتمد على أمور الطبقة ونوع الجنس والقوة (52) . وبالنسبة للتمثيل، فان هذا يعني أن التأكيد ينبغي أن يكون أقل على محاولة انتاج مساحة معينة خلال الحركة، بل ننتبه إلى الكيفية التي تدركه بها الشخصية الموجودة فيه . فالفراغ الذي يفهمه الممثل باعتبار أنه يقدم مجموعة من الفرص للحركة والفعل يمكن تجربته بواسطة الشخصية الدرامية باعتباره فراغا مليئا بالمحرمات والقيود (53) .
الرابطة الوثيقة بين ادراك الفراغ والحركة هي الأكثر وضوحا في الكيفية التي يعالج بها الراقصون الفراغ، وتسمح لنا أيضا أن نتأمل انتاج الفراغ المسرحي ليس في اطار خيالي، بل في اطار تجريدي فخصائص الفراغ كما يُفهم وينتج من خلال الحركة ربما لا تكون متاحة أو موصوفة فكريا، ولكنها تظل ملموسة على المستوى العاطفي أو الحركي أو الحسي . فمثل هذه الأشكال الجسدية ذات الوعي المكاني، والتي تفلت أحيانا من الفهم الفكري لها أهمية حاسمة بالنسبة للمؤدين عموما، والراقصين خصوصا : فوعيهم المكاني وقدرتهم لايمكن أن تكون مرئية فحسب، بل يجب أن تكون حركية (بالنسبة للراقصين) وشفهية أو صوتية (بالنسبة للممثلين والمغنين). فقد تطلبت المهارات الادراكية أن نتفاوض مع الفراغات المسرحية ونتحكم فيها لكي تشمل كل مجموعة العمليات الجسدية، بما في ذلك العناصر الحسية والعضلية والشفهية للجهاز الادراكي . إذ يمكن تعلم الادراك الحركي والاستجابة واعتيادهما، ولكنها أيضا مسألة بديهة، أو ربما أحد أشكال الموهبة، كما تقترح آن تريزا دو كيرزماكر عندما علقت على قدرة بعض الراقصات في فرقتها أن يشعوا مكانيا :
تختلف الطريقة التي يعرض بها الراقصون الفراغ ويشعرون به ويشحنونه للمساحـات الكبيرة أو الصغـيرة . وهـذا شـيء يمكنك تعلمه . وبعض الناس لديهم طريقة بديهية وطبيعيــة لكي يشعوا مكانيا والوعي بالمساحة الاجمالية من حولهــم، ولكـن المشكلة غالبا هي أن العديد من الراقصين يحـددون صورتهم في الفراغ من خلال ما يشعرون به بداخـل مجــال الرؤية وليس أي شيء خلفهم (54).
يمكن تخيل عملية الاشعاع المكاني باعتبارها شكلا الادراك بتقنية انتشار الصوت : يرسل الجسم موجات أو اشارات ويصبح متناغما بشكل متزايد مع مدى تأثره بانعكاسها مرة أخرى على الجدران والأحجام والأشياء في الفراغ، سواء كانت متحركة أو ساكنة . فالتناغم السمعي والحركي مع الفراغ هو بالتالي عملية توسع امتداد مكان الجسم مكانيا إلى ما وراء حدود جلده .
العلاقة بين الموقع والحالة الجسدية
بدأت هذا الفصل باستدعاء وصفا للجسم كشكل مكاني منحوتا من مساحة العالم الأكثر عمومية . وأريد أن انتهي باستكشاف المزيد من الأصداء والتكافؤات بين هذا الشكل الممتد مكانيا – الجسم كمساحة، باستخدام عبارة جورملي – وبعض الأماكن والمواقع في الممارسة المسرحية .
ولعل أحد هذه المواقع هو الفراغ المجاور مباشرة للمكان الخفي عن الجمهور : الذي يُرف باسم «الأجنحة wings”، وهو حافة مجال خشبة المسرح الموجهة بقوة، حيث يستعدون، والذي يعرضون منه أدائهم . وقد بحث أندرو فليمر في الطرق التي يتم فيها يجسد فيها المؤدون الفراغات خلف الكواليس ويصلون إلى نتيجة أن «الوجود في الأجنحة « أكثر من مجرد الوجود في الموقع أو المكان الجسدي . وهو أيضا موقف مجرب باعتباره حالة جسدية خاصة :
في تجربة المؤدين المعاشة لا توحي الأجنحة تلقائيا بمساحة محددة معماريا . وبدلا من ذلك، لكي تكــون الأجنحة للتجربة والاحساس المتجسد بالزمني، وبالتالي المكاني في الأداء (...) ففي سياق الأداء الوشيك أمام الجمهور المتجمـع، يدرك المؤدون أنهم يدخلون أو يتحركون في الأجنحة من خلال ظهور اشارات نفس جسمية لا ارادية تتضمن غالبا ارتفاعا في معدل ضربات القلب، وضيق التنفــس، وزيادة العرق واضطرابات في المعدة والعصبية والتوتر العضلي . (55)
تُدرك مساحة الأجنحة، التي تفهم بأنها القرب من الأداء، بطرق أكثر من مجرد فهمها من خلال أعضاء الحواس . وتترجم إلى حالة توتر جسدي، وتنفصل بشكل فعال عن موقعا الثابت ويحملها الجسم مادام الموقف في الأجنحة مستمر . وفكرة فيلمر في تناول تجسيد الفراغ صراحة بهذه الطريقة هو مفهوم مثمر يمكن تطبيقه على أنواع الفراغات المسرحية الأخرى . ويمكننا أن نسأل، مثلا، عما اذا كان فراغ خشبة المسرح مجسدا بشكل مختلف في التدريبات عنه في الأداء، وكيف يمكن أن يغير هذا توجهه المُدرك وامكاناته. ويتطرق فيلمر إلى هذا عندما يستكشف الرحلة من مساحة التدريب إلى مساحة الأداء كما يختبرها الممثلون المنخرطين في العرض الجديد . ففي مختلف بيئات العرض المسرحي، ولاسيما في القطاع التجاري، فان هذه الرحلة محفوفة بالتوتر نظرا لأن هناك عادة وقت قليل للتدريب على خشبة المسرح بالمقارنة مع مقدار الوقت الذي يقضيه الممثلون في غرف التدريب(56).
وبالمقارنة، يبدو أن المثل الأعلى المعبر عنه في معظم مدارس التمثيل وأقره الممارسون بشكل عام، هو أن الانتقال من مكان التدريب إلى المسرح هو عملية يجب أن تستغرق عدة أسابيع أو شهور، لأنها لا تتضمن مجرد تغيير الموقع فقط، بل أيضا تغيير الحالة الجسدية . إذ يجب أن يكون المؤدون مستعدين بدنيا وعاطفيا للدخول في الحالة البديلة من كونهم قادرين على تجسيد فراغ خشبة المسرح . ويصف فليمر كيف يصف المؤدون رحلتهم للوصول إلى هذه الحالة في اطار مكاني، وغالبا توظيف الاستعارات الاتجاهية فيما يتعلق بأماكن التدريب وعملياته:
هناك خريطة مجازية وحرفية لمكان التدريب والذات المتجسدة في التدريبات التي لاحظناها، حيث قام الممارسـون بتنظيم مساحات التدريب في اطار الطبقات، حيث اجتاز المشاركون نقاط التفتيــش للوصول إلى غرفة التدريب، حيث تمـيزت هذه الغرفة بالمجــال الداخلي الخاص لعمـل التدريب . وفي نفــس الوقت، تحــدث الممارسون عن الاختراق للوصول إلى الأعماق الحميمة لذات الممثل الحميمة لتطوير الشخصية المطلوبة . (57)
ما يتضح من هذا هو المدى الذي تفهم من خلاله الذات - نفسيا باعتبارها كينونة متعددة الطبقات - من حيث الامتداد والتنظيم المكاني بقدر ما يكون الجسد . إذ تُرى باعتبار أن لديها داخل وخارج، ومناطق الحقيقة الأعمق والعمق، علاوة على وسائل لاظهار هذه الحقائق الداخلية على السطح . وقد ميز كيرت ليفين فعلا مناطق الطبقات المكانية داخل الانسان . فالانسان يظهر بشكل دينامي باعتباره النظام الطبقي الذي له بنية محددة والتي يمكننا من خلالها تمييز المناطق المركزية والحدودية (58) . إذ تُرى مختلف العواطف، أو الأفكار أو العمليات النفسية بأنها تكمن في مناطق معينة أكثر من أخرى، وتصنع الفرق سواء كانت هذه المناطق موجودة بالقرب من مركز الانسان أو أكثر على الحدود .
من الواضح أن الفراغ في ممارسة المسرح حيث يتم تجربة عمليات الاستنتاج أو التوضيح هذه لأول مرة وممارستها والتدرب عليها هي فراغ غرفة التدريبات . بالمقارنة إلى التوجهات الواضحة لفراغ خشبة المسرح، فان غرفة التدريبات تختبر باعتبارها آمنة ومحمية . وتوصف أيضا في الغالب باعتبارها فراغ متجسد – كالرحم مثلا – الذي يسمح للعمل أن ينمو ويتطور بشكل آمن . وتصف الممثلة جوليت ستيفنسون صدمة التحرك من المساحة المغلقة في التدريبات إلى خشبة المسرح، التي تبدو فجأة مربكة، وحتى غير متجسدة : « انك تخلق عالما داخل تلك الجدران، وتعيشه . ثم تنتقل إلى مساحة واسعة جدا حيث تمت إزالة أحد هذه الحوائط، وكأن جانبا من بيتك قد تم أخذه وأن العالم كله يمكن أن يرى الحمام (59) . ولكي يصبح فراغ خشبة المسرح فراغا معاشا ومجسدا مثل غرفة التدريبات، فيجب أن تتعلم الذات المتجسدة أن تمد نفسها وتتناغم مع هذا الفراغ الأوسع وغير المتوقع .
.............................................................................
• هذه المقالة تمثل الفصل الثالث من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» تأليف ليزا ماري بوللر الصادر عام 2016