حكم قراقوش والناقد المحامي!!

حكم قراقوش والناقد المحامي!!

العدد 880 صدر بتاريخ 8يوليو2024

ما زلنا مع الناقد «إبراهيم عز الدين المحامي»، الذي كتب مقالة كبيرة حول عرض «حكم قراقوش» لفرقة الريحاني، ونشرها في جريدة «الجهاد» في نهاية نوفمبر 1935 تحت عنوان «الأستاذ الريحاني على مسرح رمسيس .. رواية حكم قراقوش». وقد تتبعنا تفاصيل الفصلين الأول والثاني من المسرحية، أما الفصل الثالث فيروي الناقد تفاصيله، قائلاً:
يبدأ الفصل الثالث في غرفة بالقصر وبندق معلق بأمله في حب الأميرة تعلق الغريق بالقشة الطافية يلازمها ملازمة الظل مفرغاً في أذنيها كل ما أوتي من سحر البيان ممنياً إياها بالنجوم بجلبها في علبة تعمل منها «شخشيخة» وبالقمر ملفوفاً في منديل وبالجواهر قرطاً وعقوداً وهي لإيمانها بشدة حبه وإعجابها بخفة روحه، ويقينها من كرمه تكاد تلين، ولكنها لا تعد وتطلب منه مهلة للتفكير ... والزمن يمر والساعة تدق والموعد يقترب فيلجأ المسكين  إلى الدموع ينفس بها عن كربه. وإذا بابنة الملك وعشيقها المهندار داخلان يبكيان أيضاً فيظن أنهما يواسيانه ويشفقان عليه فيطيب خاطرهما ويهدئ نفسيهما ويشكر لهما رقيق شعورهما ويعجب في نفسه من طيبة قلبيهما. والكلام في هذا الموقف وحيث يحاول بندق إيقاع الأميرة في حبائله يبلغ أرق وأعذب وأقوى ما يصور به مثل هذه المواقف دفقة في الشعور وجمالاً في التعبير وحلاوة في اللفظ ودلالة على ما يدور في نفس الممثل من أمل ويضطرب في صدره من عواطف وإحساسات وشعور. وما أسرع أن يتكشف لبندق أن الأميرة وحبيبها لا يبكيانه ولا يندبانه كما كان يظن بل يبكيان للفرقة ويندبان للنوى الذي دهمهما من حيث لا يدريان إذ قرر السلطان أن يزف كريمتيه إلى أميرين أختارهما لهما. والفتاتان ترفضان. وهذه إحداهما تشكو لحبيبها الفراق وقد أجمعت أمرها هي وأختها على أن تختارا الموت بعلاً على أن تزفا حيتين إلى قبر أسموه زواجاً. وتدق الساعة فإذا الموعد قد حان إلا ثلاثين دقيقة. وإذا بالمشنقة تنصب والملك يحضر داعياً أهل القصر جميعاً لمشاهدة إنفاذ الحكم في بذيء اللسان سليطه. وبندق يبكي ويسترحم والملك يرفض تخليصه من الموت إلا إذا تقدم من الحضور إنسان يفتديه ويموت بدلاً عنه. ويشاهد النظارة هنا مشهداً طريفاً من بندق يستنهض الهمم للفداء ، ويستحث أهل الكرم  إلى النجدة، ويبشر المستشهدين بالجنة والمنتقدين بعقبى الدار!! وفجأة تتقدم كريمة السلطان التي تحب المهمندار ويحبها لتفتديه فهي قد يئست من الحياة بعيداً عن قلبها فاختارت الموت على هذه الحياة. وخير لها أن تموت في سبيل نفس أخرى من أن تموت في غير نفع لإنسان. ويذهل الجمع فلا ينطق أحد بكلمة حتى يستجمع السلطان نفسه ليقول لابنته إن تفديتك بلا قيمة لأن المرأة شرعاً لا تساوى إلا نصف الرجل. وإذا بصوت آخر ينتشر معلناً أنه النصف الثاني لذاك الفداء وإذا بكريمة السلطان الثانية تشق الصفوف لتأخذ مكانها إلى جانب أختها. أيقبل بندق فداء كهذا؟ لقد سبق أن عرض نفسه للموت دفاعاً عن سيدة استنصرت بجدته. فكيف يقبل لفتاة بل فتاتين بل أميرتين رطبتي العود أن تعرضا نفسيهما للموت فداء عنه. وهو الفقير الصعلوك الذي لا يساوي شيئاً؟ أنه ليسخر من قسمته. وأنه ليهيب بالجلاد أن يعجل باختصار هذه المأساة التي لا تسر. وتأتي الأميرة شمس على عجل تسأل عن الخبر وفيم هذا الجمع الحاشد؟ فلا تكاد تتبين الحقيقة حتى تفصح عن حبها لبندق وتعترف بارتضائها إياه بعلاً. فلا يسع الملك إلا أن يعجب بشهامة الرجل الذي رفض فداء ابنتيه. ويهنئ شمساً به ويثبته في مكانه بالقصر ويعرف الأميرة بنجاته على يديها لسبق وعده. وكان وعداً مقضياً.
وهكذا تنتهي مسرحية «حكم قراقوش»، ويبدأ الناقد حديثه النقدي التحليلي، فيبدأ بالنص، قائلاً: تلك آخر الروايات التي اقتبسها الأستاذان بديع خيري ونجيب الريحاني وهي أحسنها جميعها حواراً. والفصل الثاني منها مليء بالمفاجآت والنكات حتى ليضحك المتفرج بلا انقطاع. ويرى البعض أن موضوع الرواية لا يستقيم في غير موضع ضارباً لذلك مثلاً تصديق الأميرة شمس أن نائب الملك الجديد لا يمت إلى بندق بصلة مع أنه هو هو لم يتغير من ملامحه شيء ومع أنه سبق لها أن رأته وعرفته وكان بينه وبينها أشياء. وذلك لا يقال في الروايات الكوميدية التي تقوم على غرابة الموضوع ودقة الحوار وبارع النكات. فالتساهل في مناقشة الحوادث واجب في مثل هذه الروايات وبخاصة إذا أمكن تعليلها كما سبق لنا تعليل عدم معرفة الأميرة لبندق بجلال المنصب وأبهة الملك وبعد الشقة بينه وبين السلطان. وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن الإخراج الذي يتحمل عبئه الأستاذ الريحاني وحده نحب أن نشرك معه الأستاذ بديع في الوضع الذي أجريا عليه الفصلين الثاني والثالث من الرواية لأنه إذا كان الموضوع كما أسلفت يجوز التساهل في مناقشته فإن الإناء الذي يصب فيه الموضوع لا سبيل إلى تفويت مناقشته بحال. فالفصل الثالث من الرواية تدور وقائعه في «غرفة» من غرف القصر، وفي هذه الغرفة تظهر ابنتا السلطان ومربيتهما تشكوان لها سوء حظهما في زواجهما. وفيها يظهر بندق وحيداً يندب حظه مترقباً دنو ساعته. وفيها تقابل ابنة الملك عشيقها المهمندار لقاءها الأخير! وفيها يغازل بندق الأميرة شمس ويلقي من حولها الشباك. وفيها يجتمع رجال القصر ونساؤه كلهم ليروا إنفاذ حكم الشنق في بندق! أية غرفة هذه وكل ما فيها ينادي بأنها بهو فسيح من أبهاء القصر تتوسطه نافورة أو تتصدره درجات تأخذ بالصاعد إلى الشرفات والحجرات؟ والفصل الثاني يمثل بهواً كبيراً فيه عرش السلطان وفيه يجتمع مجلس أبحاث الدولة لمناقشة أمورها. ولا يجري مثل هذا الاجتماع في بهو ولا يكون حول العرش. أليس الأستاذان المؤلفان معي في أنه كان من الأفضل أن تجري حوادث الفصل الثاني في منظر الفصل الثالث وحوادث الثالث في منظر الثاني مع تعديل طفيف ملائم؟
بعد ذلك انتقل الناقد في حديثه إلى التمثيل في العرض، فقال: قام الأستاذ نجيب الريحاني بدور «بندق أبو غزاله» فكان هو يندق بعينه الذي رسمه المؤلفان ولم يكن الريحاني يلعب دوراً تمثيلياً. وليس لدينا ما نقول أكثر من ذلك في براعة لاعب وإيفائه دوره كل حقه من العناية والفهم، بل والحب. ويسرنا أن نسجل أن نجيباً كان كذلك في كل أدواره التمثيلية التي لعبها. فهو لا يفهمها فحسب ولا يجيدها فحسب بل هو فوق ذلك يحبها حباً ويتعشقها عشقاً. وأذكر أنني ذهبت أهنئه مرة عقب النجاح الباهر الذي أحرزه في رواية «الجنيه المصري» الممصرة عن «توباز» الفرنسية وأسأله عن حال العمل فأجاب: بأن الجمهور لم يحب الرواية كما كان يود. فظننت أن ذلك يثني عزمه عن الاشتغال بها فقال: ولكنني أنا أحبها وسأقوم بتمثيلها ما دامت لي في ذلك لذة لا تعدلها لذة الكسب ... وقد كان. وأخذت الرواية دورها في الموسم بلا انقطاع. فهذا الرجل لا يعمل للكسب قبل لذة العمل بل يحب الفن لوجهه وذلك فضل يختص به وهو سر نجاحه الدائم أولا وأخيراً. كان في الفصل الأول وهو موضع اضطهاد سيده كشك أغا مستدراً لعطف الجمهور عليه وحنقهم على كشك أغا. وكان في سبه قراقوش وهو جالس بين يديه لا يعرفه مهزلة وحده. وكان في رفضه بشمم أن يأخذ هبة منه - إلا على سبيل التذكار – بالغاً صميم الصدق في تصوير أنفة الفقير من أمثاله. وفي تهكمه على رجال الدولة في مجلسهم بالفصل الثاني يجعل منهم ضحكة الساخرين. وفي ترقبه الموت آخر الرواية يخلط الحسرات عليه بالضحكات وينفذ في قلوب المتفرجين إلى الصميم من إعجابهم والبالغ الخالص من تقديرهم. فأما النجاح بين ممثلي الفرقة فلا يتمشى مع ترتيب الأدوار أهمية. وهذا دليل ملموس ندعو من شاء من الممثلين والممثلات خاصة إلى مشاهدته ليعرفوا أن الدور الكبير ليس يعني النجاح الكبير. وإنما يأتي النجاح من ملاءمة الدور لطبيعة الممثل أولاً. ثم فهمه فهماً صحيحاً ثانياً. ثم حسن أدائه أخيراً .. هذا بجانب توفر الموهبة ووجود الاستعداد خاصة في الصوت ومخارج اللفظ والروح الحية المميزة أو ما يسميه النقاد «بالشخصية المسرحية». فالآنسة فتحية شريف لم يكن لها دور يذكر في الرواية. ولكنها أقامت الدليل على وفرة استعدادها للمهنة حلاوة في الصوت وجلاء في مخارج اللفظ وروحاً حيّة دائمة الاتصال بالنظارة مرجوة البقاء فوق المسرح بلا انقطاع، وهي في بدء حياتها المسرحية حقيقة بأن تلتفت بانتباه إلى ما ينقصها لتعمل على استكماله. فعليها أن تتجنب في إلقائها نغمة التدلل في غير موجب وألا تكثر من التثني في الوقفة والمشية. والحق إنني لست أجزم إن كانت عازمة على الاشتغال بالتمثيل أم راغبة في ترك التمثيل إلى المصارعة. فإذا كانت الثانية فلها أن تكون من الوزن الثقيل أو الوزن الذي تشاء. أما إن كانت الأولى فعليها أن تنقص من وزنها عشرة كيلو جرامات لتكون ممثلة جديرة بمستقبل حميد يتوقعه لها جميع النقاد. والمثل الثاني لنجاح الممثل بالرغم من تفاهة دوره في الرواية تراه في محمد كمال المصري. كان كل عمله أن يقدم أعضاء مجلس الأبحاث مقرظاً نبوغهم معظماً أقدارهم. وبقطع النظر عن قلة كلامه كان مثيراً للضحك في جميع كلماته وحركاته. بل كانت له سكتاته لكلمات لا حركات فملأ دوره الصغير بروح كبيرة منشأها عن هذا الممثل دقة الفهم لكل ما يقول. هؤلاء هم الذين ميزوا أنفسهم في الرواية فاستحقوا من النقد تهنئة واستحقها أستاذهم نجيب مضاعفة وغيرهم من الممثلين والممثلات كانوا في أدوارهم ناجحين وإن لم يكونوا ممتازين. ونخص منهم بالذكر عبد الحليم القلعاوي، محمد مصطفى، ألفريد حداد، وتبقى بعد ذلك كلمة عن الآنستين الأختين أمينة وزينب شكيب. قامت الأولى بدور شمس أميرة يبلع من ذكائها أن تدبر اغتيال رجل عظيم لأنه يضايقها بالإلحاح عليها في الزواج منه وكل ذنبه أنها لا تحبه، ويبلغ من جمالها وقوة تأثيرها أن تحمل آخر على ارتكاب القتل من أجلها بلا أمل فيها أو في الخلاص من مغبة جرمه، ويبلغ من سحرها وفتنتها أن يقع في حبها قراقوش فلا يستطيع إخضاعها لسلطانه وهو من بيده الحياة والموت. إن كانت الآنسة أمينة قرأت شيئاً عن كليوباترا فهي قد عرفت صورة حية للأميرة التي تقوم بدورها دلالاً وسحراً وجرأة وذكاء وأظنها تعرف أن «جانيت مكدونالد» هي التي قامت بدور الأميرة هذا على الستار الفضي في رواية «الملك المتشرد» فعليها أن تحاول خلق هذه الفتنة على مقتضى طبيعتها ليقتنع النظارة بأن صرعى هواها لهم العذر في أمرهم معها. فأما طريقة أدائها الدور فلم تظهر بغير مظهر الأغبياء البلهاء المستحقين لكل ما جرى عليهم. ولست أشك في أن الآنسة تفضل التنحي عن دورها على أن تتسبب في مثل هذا. ويأتي دور الآنسة زينب شكيب فهي أميرة على شاكلة شمس فتنة وسحراً ولكنها كانت تحب على طريقة أولاد البلد لا على طريقة الأميرات – والحب واحد ولكن الطريقة تختلف – ولست أحب أن أصور للآنسة دورها لأنه والحق يقال يخالف طبيعتها ومن الظلم أن نأخذها بذنب غيرها، وغيرها هو الأستاذ نجيب الذي أسند إليها هذا الدور. وإني لأعده وعداً صادقاً بأن ألقي عليه بالمسئولية «علناً»، كلما عمل فينا «فصلاً» كهذا الفصل.
وأخيراً يتحدث الناقد عن «الإخراج»، فيقول: أسلفنا الكلام على التمثيل وهو أكبر مسئوليات المخرج ونقتصر الآن على ما بقي من عمله إيثاراً للوضوح والترتيب. فالمناظر والملابس موافقة في مجموعها للرواية متمشية بألوانها وهندستها مع روحها المرحة الطروب وقد عرفنا الأستاذ نجيباً صادقاً في تصوير مناظره بما يبهر العين ويرضي الذوق. وليس لنا إلا بعض ملاحظات نحب أن يكتمل بها ما يسمونه «بالجو الملائم» تنصب في الغالب على دقائق تافهة وإن كانت كبيرة الأثر في نفس المتفرج. ففي الفصل الأول تغرب الشمس وتظلم الدنيا ويقوم صبي القهوة بإشعال الشموع ولكن المتفرج يرى في الصدر شباكاً مضيئاً من أثر المصابيح الكهربائية المنعكسة عليه من خلف. فهذا الضوء يجب أن يطفأ إيذاناً بالغروب قبل البدء في إيقاد الشموع. وفي ختام الفصل يكشف قراقوش عن وجهه فيخر القوم ساجدين إلا شخصين يلعبان الشطرنج على مدى سهم من الطاغية! وفي الفصل الثاني تطلع الأميرة شمس على الجمهور الذي أتى للفرجة على حكم قراقوش بفستان من أحدث المبتكرات الباريسية! وفيه مجلس شراب للملك حيث يجلس القوم على الوسائد وأمامهم منضدة مرتفعة تحتاج قصّ أرجلها حتى تستوي مع القوم الجالسين. وترى القوم يخرجون من حضرة السلطان كما يخرجون من حضرة غيره مع وجوب اتجاههم نحو الباب وهم بالظهور [أي بظهورهم وليس بوجوههم] وخاصة أمام الطغاة المتجبرين. ويجتمع مجلس الدولة مصطفين على الكراسي في صدر المسرح لا وقوفاً يتشاورون ولا جلوساً حول مائدة .. وقد تكون مع الأستاذ نجيب في أن «الميزانسين» لم يكن يحتمل غير ذلك في منظر كالمنظر الثاني. وكلنا سبقناه إلى عدم ملائمة منظري الفصلين الثاني والثالث لوقائعهما ولا شيء أدل على ذلك من استحالة تنسيق الميزانسين اللازم لأولهما. [توقيع] إبراهيم عز الدين المحامي.
كل ما سبق حول مسرحية «حكم قراقوش» يُعدّ نصف ما نُشر عنها في الصحف من حيث النقد والتحليل، ولا يمكن أن أنقل النصف الآخر، حيث إن النصف السابق استغرق منّا ثلاث مقالات متتالية!! لذلك سأكتفي بما سبق، وأشير إلى أهم ما كنت أنوي نشره، والمتمثل في أكبر مقالة مكتوبة عن المسرحية، وكتبها «محمد نافع عبد الوهاب» ونشرها في جريدة «كوكب الشرق» في أوائل ديسمبر 1935.


سيد علي إسماعيل