ستانسلافسكي ودراسات المسرح الإدراكي (1)

ستانسلافسكي ودراسات المسرح الإدراكي (1)

العدد 881 صدر بتاريخ 15يوليو2024

«إننا ندخل عصرا لا يتمثل فيه الهدف الفكري الرئيسي في الاحتفاء بالخيال، بل بتحويله إلى علم»
(فوكونيه وتيرنر 2003 ) 
    
 لقد أثار النطاق المذهل من الأبحاث في علم الأعصاب التجريبي المعاصر مجموعة متنوعة من الممارسات التفسيرية التي طورت - بدرجات متفاوتة من الدقة النقدية والتجريبية – مجموعة من تفسيرات العلاقة بين الإدراك الإنساني والفهم الإدراكي ( العقل )  وتفاعلهما مع البنيات الفيسيولوجية وعمليات المخ وتأثيرهما في العمليات الفنية ومن خلالها . ويلاحظ جوناثان كرامنك أن بعض الحماس لاستيراد الممارسات التفسيرية المستمدة من مجموعة فرعية واحدة من هذا المسعى, وهو علم النفس التطوري evolutionary psychology، ينشأ من الضجر الذي يثير العداء للحالة الراهنة للعلوم الإنسانية، ويعتمد التركيز الملحوظ على «تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها العلوم الإنسانية «حول تحديد المقاربات ذات التوجه الإدراكي باعتبارها صيغا تأسيسية ومعرفية للنقد : باعتبارها طرقا للمعرفة وليست مجرد صيغ تفسيرية أو نقدية – أي أنها ليست مجرد أطر لحيل تنظيرية، كما قال بروس ماكوناتشي (1). وفي دراسات المسرح، يقال إن الافتراضات التجريبية وإجراءات التصحيح الذاتي للعلوم الإدراكية توفر أداة لضبط المجال  مما يؤكد أن المفهوم المنطقي لعلم المسرح سوف يقود إلى مقولات حقيقية مؤقتة ومعقولة وقابلة للدحض والتي سوف تسمح بنشر القواسم المشتركة على مستوى الأنواع الفنية باعتبارها قيودا تفسيرية، بحيث يمكن الفصل في الاختلافات الحرجة وحلها، ويمكن توحيد المعرفة في مجال المسرح وتطويرها . 
 بالرغم من الطبيعة المثيرة للجدل في هرم التفسير هذا، حيث أن نوع الادعاء الذي يمكننا تقديمه حول الانتقاء الطبيعي، يضع حدودا لما يمكن قوله عن علم النفس، وما يمكن قوله حدود علم النفس فيما يمكن أن نفعله مع الأدب، أو غيره من أشكال التعبير الفني . وقد أثبت المسرح – وهو دائما شكل من أشكال الإدراك – أنه أرض خصبة لاستخدام مناهج النقد الإدراكي، لأسباب ليس أقلها أنه ينشأ من أشكال منفصلة من التفاعل القابل للتنفيذ . ومن خلال تكثيف تفاعل القصد الغامض، والوساطة والفعل، والمعنى في السلوك الاجتماعي، يقدم التمثيل تركيزا إيحائيا في دراسات المسرح الإدراكي ؛ وليس من المستغرب أن ترسم دراسات المسرح الإدراكي خريطة تبادلية غنية بين أفعال الإدراك الفطري، ونظام التمثيل الذي يهتم أساسا بتكرار السلوك الاجتماعي المماثل وإنتاجه كأسلوب للمسرح : التقنيات الجسدية والنفسية التي طورها كونستانتين ستانسلافسكي . وتوفر الواقعية المنسوبة إلى ستانسلافسكي، باعتبارها علامة الطبيعة البشرية ووسيلتها، نقطة مميزة للوصول إلى بعض الافتراضات التي تواجه الممارسة المعاصرة في دراسات المسرح الإدراكي .  
 النقد الإدراكي – الذي يعتمد على الإدراك الموزع، أو الصورة، أو المخططات، أو نظريات التكيف التطوري – هو نقد غني ومتنوع في نطاقه، وفي الوقت نفسه، تشارك معظم النصوص في الحس السليم بأن التنوع الواسع لممارسة المسرح ( كمثال على الاختلاف الثقافي عموما ) هو التعبير السطحي عن الموهبة الإنسانية الأصيلة  . وكذلك أيضا اتجهت المقاربات الإدراكية في المسرح الى التقليل من الخصائص الفريدة للوسيط، وخصائص المسرح التقليدية المتنوعة تاريخيا وثقافيا . في الواقع، عندما تكون مناقشة المسرح في المتناول، فان الأجندة الفلسفية الواقعية للدراسات الإدراكية الثقافية – لتحديد الآليات العرضية، وكيفية عملها، وكيفية توليد نتائج معينة، غالبا ما تفترض شريحة ضيقة نسبيا من الممارسة المسرحية باعتبارها ممثلة لكل من المسرح والطبيعة الإنسانية . ففي حين يميز توبين نيلهاوس بدقة الواقعية الجمالية – أي جهد إبداع مظهر الحقيقة على خشبة المسرح – عن الواقعية النقدية الملهمة بشكل إدراكي، غالبا ما يُفترض أن الأداء الواقعي المشابه وراثيا والذي تم تنفذه خلف خشبة المسرح في مسرح السلعة المظلم في القرن الماضي هو البنية الإعلامية للإدراك المسرحي . ومع ذلك تعد الواقعية المسرحية بمنظور تفسيري – وهي كلمة مختارة بعناية – تميز بشكل وثيق مع الحداثة المسرحية والتحديث : إسقاط مجال متميز من الموضوعية الجمالية، وفعل مناسب للاستهلاك المشروع، وهو الفعل الذي يميل إلى إزاحة الظروف المادية وممارسات الأداء في مجال منظم للتفسير العادل للعمل الفني . علاوة على ذلك، تميز واقعية خشبة المسرح بشكل منفصل غياب المتفرج من مشهد الفن مع قوة التفسير وتميزه المعرفي، وهو ما يمكن أن يسميه جاك رانسير « التوزيع المفرط للمحسوس الذي يميز تخيل القوة التفسيرية (المعرفة من خلال الرؤية) مع ممارسة الإخفاء السلبي .    
 إن القوة المفاهيمية للمسرح الواقعي مرئية ولاسيما في بعد واحد من أبعاد الدراسات المسرحية : تحليل التمثيل في المسرح كوسيلة نقل لتقديم الشخصية . فالشخصية، في عدة صيغ من المعالجة الإدراكية، توفر وسيلة مفيدة، وربما حتمية – طريقة لتحديد الفاعل، وإسناد القصد إليه، وبالتالي استخلاص استنتاجات حول سلوكه الحالي أو المستقبلي . وكما يقول جيل فوكونيه ومارك تيرنر في مناقشتهما المؤثرة حول « المزج الادراكي cognitive blending” على سبيل المثال “ الشخصيات مثل الأطر، هي أدوات ثقافية إدراكية أساسية . ونشكك في كل جوانب دقتها أو شرعيتها، أو حتى وجودها ذاته، ولكن لا يمكننا الاستغناء عنها إدراكيا “ . 
في الأوديسة، يعمل أوديسيوس تقريبا في كل موقف يمكن تصوره – القتل والإبحار والاختلاف والتأنيث والإخفاء والتوسل والإقناع – ويظل أوديسيوس طوال الوقت .  انه جانب أساسي من الفهم الإنساني، أن نعتقد أن الناس لديهم شخصيات تظهر مع تغير الظروف، وعندما يتصرف شخص ما بطريقة معينة في موقف جديد، يمكننا أن نقول « هذا مثله تماما، ولم أكن لأفعل ذلك أبدا .» وتنتقل الشخصية عبر الإطارات، ويظل من الممكن التعرف عليها كلها، إلى حد أنه يمكننا أن نتساءل « ماذا سيفعل أوديسيوس في هذه الظروف ؟ . على الرغم من أن تلك الظروف غير معروفة في عالم أوديسيوس . 
يمكننا أن نسأل، ولكن لا توجد إجابة، على الأقل لا توجد إجابة مقنعة خارج ديناميات الأدب . وكما لاحظ نايت أن أسئلة مثل (كم عدد الأطفال الذين أنجبتهم ليدي ماكبث، وماذا كان سيفعل أوديسيوس ؟ ) تخطئ الأدب على أنه الحياة، مثلما فعل موريس مورجان من خلال الإشارات المنافية للعقل بالنسبة لتلك الجوانب من الشخصية، إذ يصعب على أوديسيوس أن يبقى كما هو بغض النظر عن ظروفه لأنه مخلوق من ظروفه، إذ يبدو في الواقع أن أوديسيوس ذو العقلية الواسعة، مصمم كشخصية، تفاجأ في كل موقف، لكي يعاد ابتكاره من جديد بشكل متكرر في ظل الظروف الجديدة . ويمكن لقراء الأوديسة أو مستمعيها أن يطورا شخصية مؤقتة لأوديسيوس، ولكن هذه الشخصية تنتمي إلينا، ولا يمكن فصلها عن الموقف الذي يؤدي فيه أدويسيوس : وضع جديد أو أوديسيوس جديد.  في الواقع يمكننا القول إن هذا الموضوع – ثبات الشخصية عبر الفعاليات المختلفة – معقد للغاية ويُستكشف بلا حدود في الأدب العالمي لأنه يظل ذا إشكالية خارج الأدب . فالشخصية في الأدب وفي المسرح ليست مجرد تكرارا في مواقف جديدة، بل يتم ابتكارها من خلال هذه المواقف . 
 وهذا لا يعني أنني أنكر أهمية الشخصية في تطور تاريخ الأدب والدراما، ولا أنكر تصوير الوسيط باعتباره جانبا من الإدراك الإنساني، ولا حتى عواقب تكيف الفن المحتملة – شخصيات تبدأ من أخيل المتغطرس، وأوديب وعقدته، وهاملت ومشاكله، وصولا الى جودو الغائب  الذين زودوا ثقافاتهم الأصلية والمتعاقبة الفاعلية والفعل . ولكني أقصد أن أقترح أن مجرد التباكي الأدبي على المفاهيم الإدراكية للشخصية يحجب تحديدا البعد الثقافي الأكثر جوهرية في الأشكال الفنية : ممارساتها وتقاليد تمثيلها . فمثلا يفهم فوكونيه وتيرنر المسرح – الذي يتميز بأنه بنية حديثة مخصصة للأداء – بأنه عملية مزج : «العروض الدرامية هي مزيج متعمد لشخص حي له هوية . ويقدما لنا الشخص الحي كمدخل واحد، وشخصا حيا آخر، وهو الممثل، كمدخل آخر» . ولكي نحافظ على هذا الفهم للأداء، فيجب أن يكون للشخصية مكانة «الشخص الحي»: «بالطبع، ربما تكون الشخصية المصورة خيالية بالكامل، ولكن تزال هناك مساحة خيالية، يكون فيها ذلك الشخص حيا» . في الأداء، يمتزج الممثل بوضوح مع هوية بديلة محسوسة، حيث أنه « في المزج، يصدر الشخص الصوت ويتحرك مثل الممثل وهو في مكان تواجد الممثل، ولكن الممثل في أدائه يحاول قبول الإسقاطات من الشخصية التي يصورها، وبالتالي يعدل لغتها ومظهرها وملابسها ومواقفها وإيماءاتها . “ نظرا لأن الجسم الحي والمتحرك والمتحدث بالنسبة للمتفرج هو مرساة مادية عليا”، فمن الطبيعي على سبيل المثال، “ أن تلعب ممثلة أنثى في منتصف العمر دور شخصية أنثى في منتصف العمر”. 
في كثير من تقاليد الأداء، لا يكون التشابه الجسدي بين الممثل والشخصية التي يمثلها ملائما بشكل لافت للنظر، وتكون ممارسات الأداء الأخرى مجردة أو طقسية للغاية بحيث لا تحمل سوى القليل من العلاقة المباشرة مع سمات الحياة الحقيقية للممثل، أو السمات المفترضة في الشخصية ( يتبادر إلى الذهن أسلوب الحركة والصوت في أداء مسرح النوه الياباني ) . وهنا رغم ذلك يحتفظ المسرح بالمفهوم الأدبي للأداء الدرامي بشكل أساسي – فإلقاء الشخص الحي لإبداع مؤلف أمام متفرجين ؛ في نفس العمر ونوع الجنس ( والعرق والبيئة الثقافية والقدرة )، اذ يقدم التمثيل المحدد فهما واقعيا ومقنعا للممارسة المسرحية والهدف والخاصية : 
تتطلب تجربة الأداء الدرامي مزيدا من التمازجات المعقدة : نحن جميعا لا ننظر إلى هذه الأشياء بالتفصيل، ولكن لها خصائص رائعة . ولعل الأمر الأكثر وضوحا هو أن المتفرج سيعيش في مزيج فقط من خلال الإسقاط الانتقائي : كثير من جونب وجود المتفرج ( مثل الجلوس في مقعده بجوار أشخاص آخرين في الظلام ) على الرغم من أنها متاحة له بشكل مستقل، إلا أنه لا ينبغي إسقاطها على المزج  . أن حيوية المتفرج الطبيعية وفاعليته وقواه الحركية ومواصفاته الحركية، ومسئوليته عن الفعل استجابة لما يراه, يجب تثبيطه . في حين ينخرط الممثل في نوع مختلف من المزج، حيث تلعب أنماطه الحركية وقوة كلامه دورا مباشرا، ولكن ليس إرادته الحرة أو معرفته المسبقة بالنتيجة . وفي المزيج يقول ما تقوله الشخصية، ويفاجأ في الليلة التالية بنفس الأحداث . 
....................................................................................
• نشرت هذه المقالة في كتاب Routledge Companion to Stanislavski الصادر عام 2013 
• ويليام بيل وارزين يعمل حاليا أستاذ بكلية برنارد في جامعة برينستون وله العديد من الكتب والدراسات في مجال المسرح والدراما . 
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح