العدد 882 صدر بتاريخ 22يوليو2024
تدور منذ منتصف القرن التاسع عشر نقاشات حامية الوطيس حول موضوع مثير للدهشة: ربما لم يكن الشاعر العظيم هو مؤلف مسرحياته وأنّ هناك العديد من الأسماء التي يُدّعى أنها صاحبة أعماله مثل بيكون ومارلو وإدوارد دي فير وقد تحولت هذه الخلافات إلى ظاهرة ثقافية تثير الفضول لدى عشاق الألغاز. هل تم خداعنا إذاً؟
تجبرنا بعض الأسئلة الحياتية على اختيار طرف دون آخر، ففي أنظمة تشغيل الحواسيب يتم التفضيل بين «ماك» و»بي سي» وبين فرقتي الروك الأشهر «ستونز» و»بيتلز»، وتتصل هذه الأسئلة أيضا بمصطلحي «ستراتفوردي» و»أوكسفوردي». هذان المصطلحان يشيران إلى القوتين الرئيسيتين في الجدل الكبير الذي يهز العالم الأنجلوسكسوني منذ قرن ونصف: هل كتبت مسرحيات شكسبير من قِبَل شكسبير؟ قد نضحك على هذا إلاّ أنّ الفرنسيين لا يملكون دروسا ليقدموها، فقد عرفوا جدلاً مماثلاً حول موليير، وفيما يتعلق بشكسبير فقد بدأ كل شيء في القرن التاسع عشر عندما وصلت أعماله إلى ذروة الشعبية، إذ تحدث جورج برنارد شو عن «عبادة شكسبير»bardolâtrie، نسبة إلى الوصف الشهير لشكسبير بـbarde الذي يطلق عليه تكريما لمكانته البارزة)
دفع هذا الجدل البعضَ إلى طرح سؤال مهم: كيف يمكن لشكسبير، التاجر البسيط من مدينة صغيرة في وارويكشير والمولود لأبوين كانا يوقعان أسميهما بعلامة الصليب أن يكتب عملاً غنياً وكثيفاً وصافيا كهذا؟ في محاضرة عام 1846، يعترف إيمرسون بِحيرته قائلا: «لا أستطيع أن أوفّق بين حياته وأشعاره». هذا الشك كان منتشراً بشكل كبير نظرا لأنّ تلك الفترة كانت تشهد إعادة النظر في الشخصيات التاريخية. أثار المؤرخ ديفيد شتراوس ضجة عام 1835 بكتابه «حياة يسوع»، حيث درس المسيح كشخصية تاريخية وردّ عليه الأمريكي صامويل شمكر في عام 1848 بكتابه «شكوك تاريخية حول شكسبير»، مدعياً تطبيق منهجه نفسه على شكسبير. وللأسف، فقد أراد شمكر السخرية من شتراوس لكنه خلق الشك حول شكسبير!
اسم مستعار لجماعة:
شاركت الصحافة في هذا الجدل: «من كتَب شكسبير؟»، تساءلت مجلة تشامبرز إدنبره في عام 1852 وبعد أربع سنوات قادت الكاتبة المسرحية داليا بيكون المتخصصة في مؤلِّف «ماكبث» تحقيقاً في مجلة بوتنام ثم جمعت حججها في كتاب بعنوان «فلسفة مسرحيات شكسبير المفصّلة»، وبالنسبة لها فإنّ شكسبير اسم مستعار لجماعة يقودها والتر رالي وفرانسيس بيكون للترويج لأفكار سياسية وفلسفية جديدة وبما أنّ بيكون كان متورطًا في الرمزية والتشفير فإن مسرحيات شكسبير المزعوم مليئة بالرسائل المشفرة. اندفع العديد من المحققين في هذا المجال مثل الفيزيائي أورفيل وارد أوين مخترع آلة تدعى «عجلة الشيفرة» زعم أنها تمكنه من العثور على رموز تحمل توقيع بيكون في كل مسرحية من مسرحيات شكسبير بل لقد ادعى بأنه اكتشف تعليمات تقوده إلى صندوق مخطوطات لبيكون مغمور في نهر واي بالقرب من قلعة تشيبستو. ومع ذلك لم تسفر عمليات التجريف التي قام بها عن شيء كما لم تسفر أبحاث تلميذته إليزابيث ويلز غالوب في برج كانونبري. يجب القول إن طرقهما كانت تفتقر إلى الدقة، كما أظهر علماء التشفير الأمريكيون ويليام وإليزابيث فريدمان في كتابهم النقدي «فحص شيفرات شكسبير».
وفي وقت سريع نافست نظريات أخرى الأطروحة البيكونية، تحدث البعض عن كريستوفر مارلو والبعض الآخر عن روجر مانرز كونت روتلاند وآخرون عن ويليام ستانلي، كونت ديربي وهي نظرية دافع عنها المؤرخ أبيل ليفرانس في عشرينيات القرن العشرين. لكن المسار الأكثر جدية تم طرحه في عام 1920 من قبل أكاديمي أمريكي وهو توماس لوني، في كتابه «شكسبير المحدد»: شكسبير لم يكن سوى إدوارد دي فير (1550-1604)، كونت أوكسفورد، وهو نبيل إليزابيثي وشاعر غنائي. لاقت هذه النظرية نجاحًا كبيرًا، إلى حد أن توماس لوني أسس جمعية للتسويق لها عند الرأي العام.
هذه هي بدايات نظرية «الأوكسفوردية» التي تعزو أعمال شكسبير إلى كونت أوكسفورد على عكس «الستراتفوردية» التي تنسبها إلى شكسبير. عام 1952 دافع تشارلتون ودوروثي أوجبورن عن النظرية الأوكسفوردية التي كسبت عددًا كبيرًا من المؤيدين إلى يومنا هذا في عمل ضخم يزيد عن ألف صفحة بعنوان «نجم إنجلترا» وواصل ابنهما تشارلتون جونيور جهدهما في عدة الكتب مثل «ويليام شكسبير الغامض» الصادر عام 1984، وظهرت في عام 1957 جمعية علمية جديدة في الولايات المتحدة، «جمعية شكسبير أوكسفورد» Shakespeare Oxford Society ولا تزال نشطة حتى اليوم، زوروا موقعها وسيظهر مع شعار: «استكشاف الأدلة التي تشير إلى أن أعمال شكسبير كتبها إدوارد دي فير، كونت أوكسفورد السابع عشر»
شخص مجهول يحمل الاسم نفسه:
إذا كان من المستحيل تلخيص عشرات الآلاف من الصفحات حول هذا الموضوع، فإننا نلاحظ التشابه مع الجدل الفرنسي حول أعمال موليير. تعتمد العديد من الحجج في كلتا الحالتين على قلب المعادلة: الأوكسفورديون وغيرهم لا يثبتون أن شكسبير لم يكتب أعماله بل يطالبون خصومهم بإثبات العكس ويطرحون شكوكهم، كيف لرجل يبدو أنه غير متعلم أن يكتب مسرحيات جميلة كهذه؟ من أين استمد معرفته بحياة البلاط، وهو عالم بعيد تمامًا عن بيئته؟ كيف عرف فرنسا، التي كانت مسرح أحداث مسرحية «كما تشاء» أو إيطاليا مسرح أحداث «تاجر البندقية» بينما لم يسافر مطلقا؟ أين هي مخطوطات مسرحياته؟ لماذا لم تذكر وصيته أعماله؟ ألا تثير الاختلافات في اسمه سواء كان Shakespeare أو Shakspere أو Shakespear حسب الحالة، الشكوك؟
يبدو اليوم أن النظرية الأوكسفوردية لم تعد تحظى بالقبول في الأوساط الرصينة، خاصة في الجامعات، يمكن للنظرية الستراتفوردية أن تعتمد على أبحاث علمية مثل الدراسات الأسلوبية لوارد إليوت وروبرت ج. فالينزا التي خلصت إلى التأكيد على تجانس هذه الأعمال وبالتالي فإنّ شكسبير لم يكن اسما مستعارا لمجموعة، كما خلصت إلى تفردها أي أنها لم تُكتب بقلم شخص آخر. ومع ذلك، لم توقف هذه التوضيحات الجدل نظراً لقوة الرغبة في تصديقها كقصة مثيرة للغاية إذ دخلت الثقافة الشعبية سريعا كنوع من الألغاز التاريخية. في القرن التاسع عشر نظمت الجريدة الأمريكية «ذا أرينا» محاكمة وهمية مثيرة لتقييم النظريات المختلفة، وبعد مئة وعشر سنوات أخرج رولاند إمريش فيلم «مجهول»، وهو فيلم هوليوودي مستوحى من النظرية الأوكسفوردية وقدّم الممثل روبن فيلد في عام 2013 وان مان شو مستندًا إلى كتاب «هل شكسبير ميت؟» لمارك توين. وفي عام 2016، جعل كاتب السيناريو إيف سينتي القضيةَ خلفيةً للمغامرات الجديدة لبلِيك ومورتيمر بعنوان «وصية ويليام س»
إذاً، هل أنت ستراتفوردي أم أوكسفوردي؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ أثار الإيطالي لامبرتو تاسينايري الجدل مؤخراً عندما سوّق لفكرة أنّ شكسبير في الحقيقة هو جون فلوريو مترجم مونتين إلى الإنجليزية، ويبدو أن الجدل لن ينتهي مطلقا وقد يكون من الحكمة أن نعتمد على ألفونس أليه الذي سرعان ما وجد الجواب الشافي لكل القضية: «شكسبير لم يكن موجودًا، وكل مسرحياته كتبها شخص مجهول يحمل نفس الاسم» !!
..............................................................................
عن مجلة Lire، عدد خارج السلسلة رقم 16، مارس-مايو 2024