مين يعاند ست؟!

مين يعاند ست؟!

العدد 882 صدر بتاريخ 22يوليو2024

عاد الريحاني إلى المسرح – بعد فيلمه «بسلامته عاوز يتجوز» - وبدأت فرقته تعلن عن عرضها الجديد في أواخر يناير 1936، وهو مسرحية «مين يعاند ست» تأليف الريحاني وبديع خيري! ولكن المفاجأة كانت في وثائق الرقابة المرفقة بمخطوطة المسرحية، حيث يوجد بها تقرير يؤكد أن المسرحية غير مؤلفة، بل هي نفسها مسرحية «2 = 1» لفرقة يوسف وهبي والمصرح بها رقابياً عام 1933، والعبارة المذكورة في التقرير تقول: «هذه الرواية هي نفس رواية 2 = 1 المصرح بها لفرقة رمسيس مع تعديل طفيف يتناسب مع فرقة الريحاني». وهذه المعلومة انتشرت في وقتها، وبدأت بعض الصحف تتحدث عن مسرحية الريحاني مشيرة إلى أن أصلها لفرقة رمسيس، والبعض الآخر تجاهل هذا وتحدث عنها بوصفها إحدى مسرحيات الريحاني الناجحة!!
كتب الناقد «المتفرج» في أوائل فبراير 1936 المقالة النقدية الأولى للمسرحية في جريدة «أبو الهول»، قائلاً في بدايتها تحت عنوان فرعي «كلمة أولى»: لم يخفِ على جمهور النظارة أن هذه الرواية هي بعينها رواية «2 يساوي 1» التي سبق أن مثلتها فرقة رمسيس من عامين، فنحن إذن لا نذيع سراً ولا نفشي ما خفىى عن الناس وإنما نقول ما يقوله الناس ويتحدثون به، ومع ذلك فقد كان هناك فارق بين الروايتين جعل الجمهور يقبل على هذه كما أقبل على تلك، هذا الفارق هو أن الرواية في هذه المرة مصنوعة على طريقة «نجيب .. بديع .. ليمتد» بمعنى أن نجيب قد تعود في رواياته أن يتحايل على وضع جُمل صناعية تملأها الفكاهة وتبدو الغرابة والشذوذ في تركيبها. وهذه الجمل الظريفة تجعل من الرواية شيئاً آخر، فكل روايات نجيب ذات الطابع الخاص والروح الخاصة هي من أثر هذه العناية اللفظية لبعض الجمل بل لأكثرها، والرواية بعد هذا كله وقبل هذا كله قوية كل القوة، مكتوبة بغاية البراعة ومترجمة بغاية البراعة. وقد أخرجها نجيب الريحاني في أبهى حلة؛ ولعل من أهم مميزاتها أيضاً أن المناظر كانت جميلة جداً وأنيقة جداً، وهذا فضل يجب أن لا ينكر أو بعبارة أوضح عناية ليست غريبة كل الغرابة أن تصدر من نجيب الريحاني.
واستكمل الناقد مقالته، فكتب تحت عنوان «الموضوع»، قائلاً: والقصة هي قصة «قلاووظ أفندي» - نجيب الريحاني - ذلك الرجل الذي قد برع في «الهلس» حتى ما يمكن أن يباريه إنسان فيه! وبما أنه محامي، أي أحد رجال المجتمع البارزين فقد اضطر ليخفي شخصيته وهو يرتكب حماقاته أن يلبس رداء شخصية أخرى فهو حين يحمل علم غرامياته يسمي نفسه «حنس أفندي» ويحاول جهد الطاقة أن يغير لهجة كلامه إلى صعيدية قحة، وبذلك يستطيع أن يموه على زوجته البلهاء «مستكة هانم» - أمينه شكيب [ميمي شكيب] - وهي لغفلتها تصدقه وتؤمن به كل الإيمان، لكن «قرنفلة هانم» - فتحيه شريف - وهي ابنة خالة مستكة هانم وزوجة الدكتور شيحة - عبد اللطيف جمجوم - نقول إن قرنفلة هذه فتاة ماكرة لا يوجد في الدنيا أمكر منها، وبينما قلاووظ أفندي يستطيع أن يموه على زوجته ويضحك على عقلها فإن هـذه لا تسمح لزوجها الدكتور شيحة أن يلعب بها أبداً، وتضيق عليه الخناق تضييقاً يجعله صفراً على شمالها! ويشاء القدر أن تُصطدم الشخصيتان القويتان ببعضهما قلاووظ وقرنفلة، وإذا اصطدمت مثل هاتين الشخصيتين فقل على الدنيا السلام! وحاولت قرنفلة من جانبها أن تكشف ستر قلاووظ وتهتك أمره، وفي النهاية كان لها النصر .
وعن «التمثيل»، قال الناقد عن شخصية قلاووظ: في كل مرة أكتب عن نجيب وأحاول تقديمه للقراء أجد نفسي في غير حاجة، فلم يعد نجيب من الشخصيات الغامضة أو المجهولة، ومنذ سنة 1917 بزغ نجم نجيب في رواية «حمار وحلاوة» وظل نجيب بعدها يعتلي مكانه اللائق به، ولولا أنه كسول وتلك ميزة يفتخر بها ويعلنها عن نفسه بسرور ويجد فيها بعض متع الحياة، نقول لولا أنه كسول حتى ليمضي الموسم كله فلا يخرج سوى رواية أو اثنتين؛ لولا ذلك لكان لنجيب الآن مسرح يملكه ودنيا عريضة يعيش فيها، لكنه كسول يا عالم ومن ثم يضطرنا لأن ننبهه من حين لآخر لأن ينفض عنه كسله فيكثر من إخراج الروايات الناجحة التي يقبل عليها جمهوره إقبالاً تاماً، فيربح المال ويربح الجمهور الذي اضطر لأن ينفض من حوله ليشاهد غيره ويقبل على غيره! وبعد فشخصية نجيب حلوة وعذبة، لا ترهق الجمهور ولا تضايقه مهما كثر ترداده عليها أو كثر تردادها عليه، فنجيب على المسرح لا يفرغ الناس منه أبداً ولم يكن في «قلاووظ» إلا نجيب الممثل البارع الموفق الخفيف الظل والروح. الدكتور «شيحة» - عبد اللطيف جمجوم - مثل دور الرجل «اللبخة»، فكان لبخة بحق وحقيق. وجمجوم صاحب الماضي الطويل مثَل هذه الشخصية بمنتهى السهولة والتوفيق. ولعل من أسباب نجاحه شكله الطبيعي الذي يساعده على تمثيل أدوار «اللبخة. أما شخصية «فسوخ بك» فمثلها شرفنطح أو محمد كمال المصري، وهي شخصية رجل من رجال الجيش الذين قد بلغوا الستين وتعدوها فأحيلوا إلى المعاش ومع ذلك فهو غير قانع بهذه السنين ليحيل نفسه على المعاش أيضاً في حياته الخاصة، فما زال يمرح ويسرح ويتخذ له خليلات وعشيقات، لذلك نجح نجاحاً تاماً. أما حمزة أفندي - الفريد حداد – شخصية بسيطة لا تعقيد فيها وإنما صاحبها له عقل شاعري قليلاً، وهو يحلم بالحب وبالخيانة الزوجية ولا يجد من يجرب فيه حظه سوى سيده الذي يشتغل عنده قلاووظ! وقد كان لممثل هذه الشخصية مظهر الشاب الأنيق، ولم يكن له مظهر كاتب المحامي على الاطلاق، وتلك مسألة يجب أن يراعيها و يصلح من شأنه فيها. أما «مستكة هانم» - أمينة شكيب - شخصية لطيفة، وهي سيدة في حياتها الخاصة بكل معنى الكلمة، فليس عليها أن تتكلف لتبدو في هيئة سيدة في بيت الأستاذ قلاووظ المحامي وإذا كان قلاووظ هذا رجل «ألعُبان» فقد حقت عليه اللعنة إذ كيف يهمل هذه السيدة الكاملة ليعبث مع من هي أقل منها بكثير - ولا غرابة في ذلك فهو رجل «هلس» - فقد كانت أمينة موفقة كل التوفيق في أداء دورها، وقد ساعدها مظهرها الكامل وملابسها المتعددة الأنيقة على ذلك. وقد كانت أيضاً في مواقفها التمثيلية بارعة كل البراعة وقد عبرت عن السيدة البلهاء أتم وأوضح تعبير، ولقد أفلحت فيها تعاليم قريبتها الماكرة «قرنفلة» فنجحت ونفضت عن نفسها رداء الغباء، فكانت في موقفها الأخير مع زوجها إذ كانت تعبث به وتحاول تضليله. أما «قرنفلة هانم» - فتحية شريف – فكانت الشخصية الماكرة الخبيثة التي حيرت قلاووظ الحيرة كلها وأفسدت عليه ألاعيبه وخبثه ومكره، ودورها يحتاج للكثير من البراعة الفنية، والذي يحتاج لقوة معبرة في الألفاظ والحركات والسكنات! فقرنفلة هانم ليست شخصية عادية وليست شخصية فوق العادية إنها شخصية نادرة فذة، فمهمة الممثلة أن تكون أيضاً نادرة وفذة، وقد بلغت «فتحية شريف» في دورها غاية الكمال، وكانت شخصيتها تنضح بما فيها كما ينضح كل إناء بما فيه، وكان الجمهور من الرجال يتبعها بنظره وكأنما يتبع فيها صورة أخرى من زوجته الخبيثة التي تضيق عليه الخناق وتجعل حياته سواداً و هباباً وكانت النساء جد معجبات بها يرين فيها المرأة التي تمثلهن وترفع من شأنهن، أو بعبارة أوضح يرين فيها مندوبتهن لدى مؤتمر الرجال «الهلاسين» الذين يمثلهم «قلاووظ»! وأخيراً أظهرت فتحية شريف نفسها في هذه الرواية ومثلت دورها بمقدرة تجعلها جديرة بالأدوار الهامة في أكبر الروايات. أما «سوسن هانم» - زينب شكيب - فهي الممثلة التي استغلوا منها تلك «اللثغة» المحببة الظريفة فيها، فأعطوها ذلك الدور الذي يناسب لثغتها الطبيعية، فظهرت على المسرح لتكشف قدر الطاقة عن هذه الهبة من الله التي خصها بها، فماذا نقول عنها؟ الحق إن إعطاءها هذا الدور قد آلم نفسها بعض الألم، وكأنها تعرف أن الجمهور يعرف أنها «لثغاء»، وكأنها تحس أن الجمهور في قرارة نفسه يضحك منها، إذ يعرف أنها تظهر بشخصيتها الحقيقة على المسرح، ولكنها كانت مخطئة في ظنها كل الخطأ وحسبها أن تعلم أن الجمهور لا يفكر في هذه الأمور الداخلية أبداً، وإنما ينظر نحو غرضه الأول والأخيرة: أهي ممثلة أم غير ممثلة؟ والجواب البليغ أنها ممثلة ولقد نجحت في دورها تمام النجاح وسواء كانت قد استغلت ميزة فيها أو لم تستغلها فقد كانت ناجحة والسلام. أما شخصية «سكر هانم» - مرجريت صوفير - فهي «الحماة» التي ضج منها العالم منذ الأزل، وإن كانت سطوة الحموات قد خفت عما قبل وهبطت كثيراً عن الماضي، فإن قصة الحموات لم تزل طريقة لها طعمها ولها رائحتها التي تزكم بعض الأنوف وتحني بعض الرؤوس! ومرجريت صوفير صاحبة هذا الدور ضخمة كل الضخامة غليظة الصوت كل الغلظة هي حماة إذن ولا شيء غير حماة! فإن كان لا بد من تهنئتها فلن تفهم من ذلك أبداً أني أريدها لي حماة، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم! وأخيراً «الخادمة» فقد قامت بهذا الدور الممثلة البارعة «شفيقة جبران» فأدته بخفة الروح التي عُرفت عنها.
وفي أواخر فبراير 1937 كتب المحرر الفني لجريدة «الجهاد» مقالة عن المسرحية، ناقش في بدايتها موضوع الاقتباس قائلاً: للأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري مقدرة على الاقتباس قلما يوجد بين الناقدين أو المعربين. وليس من العدل وصف عملهما هذا بأنه اقتباس وحسب لأن الأقرب إلى الصواب أنه استلهام للرواية من قراءة سواها من المواضيع والمؤلفات. وإلا فماذا تسمى هذه الشخصيات الكاملة لخلق الشائعة في أحداث الروايات التي يخرجانها من فتى بلدي إلى شيخ قروي إلى عسكري مصري الي عمدة غني فتكون صوراً مثالية لأوساط وأخلاق وطباع معروفة توضحها و تجسمها وتجلوها للعين والنفس - إلا أن تكون ذلك كله «إنتاجاً» يكون تسميته استلهاماً أقرب جداً إلى الصواب. وعلى هذا فلو صح لناقل أو مقبس أو مستلهم أن يوصف عمله بالتأليف لكان هذان الأستاذان في مقدمة هؤلاء. والموضوع اليوم منسوج على نفس المنوال مرسوم بنفس اللون والريشة للمواضيع السابقة ... ويسرد الناقد موضوع المسرحية كما أوضحناه من قبل .. ثم تحدث عن التمثيل ودور كل ممثل وممثلة بصورة لا جديد فيها عما قرأناه سابقاً. أما الجديد فكان عن «الإخراج»، وفيه قال: تمثل حوادث الرواية في منظرين اثنين كلاهما يمثل صالوناً في مكتب وبضع كراس، فهما لا يتطلبان أكثر من يلون الجدران بلون عصري للحوائط. وقد اختير لهما من الألوان ما يتفق مع الصبغة النفسية السائدة في المشاهد التي تدور فيهما فكان ذلك بشيراً بأن المخرجين قد عنوا بهذه الناحية الهامة من نواحي الإخراج الصحيح. أما الإضاءة فكانت تمثل نهاراً ساطعاً أو ليلاً تضاء فيه المصابيح الكهربائية فلم يكن في البيان عنها عناء ما، وقد جاءت على وجه مرض غاية الرضى لوحظ فيه جلاء الإنارة ومتمشيها مع الواقع الطبيعي.
وكانت مسرحية «مين يعاند ست» نهاية هذا الموسم، وحاول الريحاني استغلالها إذاعياً، وقد نشرت مجلة «المصور» عام 1936 خبراً بهذا الشأن تحت عنوان «الإذاعات اللاسلكية المسرحية»، قالت فيه: أذاعت محطة الإذاعة اللاسلكية باتفاقها مع الأستاذ نجيب الريحانى رواية «مين يعاند ست» وذلك قبل سفر الريحاني في رحلته الأخيرة إلى بعض عواصم مديريات الوجه البحري والإسكندرية، وهنا قامت مشكلة. فقد احتج بعض متعهدي حفلاته بهذه المدن وأكدوا له أن إذاعتها قد تكون سبباً فى إعراض الجمهور عن مشاهدتها بعد أن اكتفى بالاستماع إلى حوارها وعرف موضوعها ومفاجآتها. ولاحظ أبو الكشاكش أن إقبال جمهور القاهرة قد ازداد على مشاهدة الرواية عقب إذاعتها. فكانت هذه الملاحظة كافية لإقناعه بأن جماهير الأقاليم ستقبل على حفلاته كما لم تقبل في الماضي، ولذلك صرح لمتعهدي حفلاته بأنه يتحمل بصدر رحب نتيجة هذا العمل، وأنه يقبل إحياء هذه الحفلات على حسابه الخاص. وبذلك ألغى الاتفاق بينه وبين من رغبوا في التخلي عن تعهداتهم السابقة معه، ولما بدأت الرحلة الإقليمية كان نجاح الريحاني باهراً. فأقبل المتعهدون من جديد يرجون منه إعادة الاتفاق فأعاده، وفي نفس الوقت كان يوقع اتفاقاً آخر مع محطة الإذاعة اللاسلكية لإذاعة ست روايات من الروايات التي أخرجتها فرقته في هذا الموسم والمواسم السابقة، وستذاع كلها في خلال هذا الموسم.
وبعد عام – تقريباً - أعاد الريحاني عرض المسرحية، فكتب ناقد مجلة «المصور» في نهاية مارس 1937 قائلاً تحت عنوان «من يعاند ست»: أعادت فرقة الأستاذ الريحاني تمثيل هذه المسرحية، ونرى لزاماً علينا أن نعود للكتابة عنها في هذا الموسم مرة أخرى بعد أن أسند الدوران الأولان فيها إلى شخصيتين جديدتين. فقد قام الأستاذ بشارة واكيم بدور الدكتور شيحة بدلاً من الأستاذ جمجوم، الذي أقعده المرض عن العمل بفرقة الريحاني طول هذا الموسم تقريباً. وقامت السيدة زوزو شكيب بدور زوجته السيدة «قرنفلة» بدلاً من الآنسة فتحية شريف التي تركت الفرقة في آخر الموسم الماضي. أما الأستاذ بشارة فقد حافظ على ثقتنا به وأثبت لنا من جديد تمكنه من لبس كل شخصية كوميدية يكلف بإخراجها. ولكنا لا ننكر فضل الأستاذ جمجوم مخرجها الأول فقد وضع لزميله وخلفه الأستاذ بشارة أساساً متيناً يكفيه مؤونة التعب والجهد في تكييف الدور وإبراز مواقفه. ولا يسعني إلا مشاركة الأستاذ الريحاني في تهنئته للسيدة زوزو شكيب، فقد اعترف لها معنا بتفوقها في إخراج شخصية «قرنفلة» كما كانت موضع إعجاب الجمهور واهتمامه. فالمعروف عن السيدة زوزو أنها ميالة بطبيعتها في حياتها الخاصة للمعاندة. مشغوفة بفك الرموز وحل طلاسم العلاقات بين الأصدقاء، فضلاً عن أنها تبني قصوراً من الحقائق لمجرد أبسط الاستنتاجات. فهي على حد المثل المعروف «تعمل من الحبة قبة». والغريب أن جميع هذه الصفات تجمعت في شخصية «قرنفلة» التي قامت زوزو بإخراجها. فكان توفيقها بعيداً كما ذكرنا. وقامت الآنسة «زينات صدقي» بإخراج الدور الذي كانت تقوم به السيدة زوزو في الموسم الماضي، ورغم أنه دور ثانوي إلا أنها أجادت إخراجه وأبرزته على خير ما كان ينتظر من هذه الفنانة المجتهدة.


سيد علي إسماعيل