العدد 884 صدر بتاريخ 5أغسطس2024
بدأت الدعوة فى الجزائر إلى تحويل الحكواتى من مجرد فن شعبى جزائرى عريق يعود إلى ما قبل الاحتلال الفرنسى للجزائر إلى فن مسرحى عن طريق تقديم مسرحيات تعتمد على فن الحكواتى.
والحكواتى كما هو معروف هو فن الحكاية الشعبية فى الجزائر. ويعتمد كما يبدو من اسمه على شخص يروى قصة ما تتضمن موعظة ما بشكل غير مباشر غالبا. وهو فن ينتشر بين أطياف الشعب الجزائرى سواء العرب أو الأمازيج.
وهذا الفن يقترب بشكل كبير من المسرح بل يعتبره كثيرون بالفعل نوعا من المسرح الشعبى البسيط. وكان في طليعة الفنون التي حافظت على الذاكرة الجمعية، وقاومت سياسات المحو التي اعتمدها الاحتلال الفرنسي للبلاد (1830 - 1962)، ومرّرت رسائل وجوب تحرير الإنسان والمكان.
وكان الحكواتي الجزائري إذا خرج إلى السوق الأسبوعي أو الساحة العامّة التي تتوسط القرية أو المدينة، المعروفة شعبياً بـ «الطحطاحة» أو «الرحبة» أو «ساحة الجامع»،يتجمع حوله الناس ويبدأ فى رواية قصته بشكل يعتمد على الحركة أيضا وليس الكلام فقط حيث كان الحكواتى يتمتع أيضا باللياقة البدنية التى تمكنه من الحركة فى أوضاع مختلفة لنقل فكرته.
وكان حضوره ينعش ذاكرة الجزائريين، ويذكّرهم بالتمايز الحضاري بينهم وبين الفرنسيين، ويعمّق إيمانهم بالحرية والتحرّر، وكان يقوم بذلك من دون سلاح يعاقب عليه القانون.
بعد الاستقلال
وبعد الاستقلال عن فرنسا كان على الجزائر أن تخوض معركة بناء ذاتها، وتشجيع الجزائريين على خوض رهان البناء، حتى يكونوا جديرين باستقلالهم، وإلا ما معنى أن يثوروا على فرنسا ويدفعوا مئات آلاف الضحايا.
لم يغيّر الحكواتي الجزائري أمكنته المذكورة، التي بقيت مرتبطة به، بل غيّر من خطاب الحكاية، من موضوع التمرّد على الخضوع للمحتل إلى التمرّد على الكسل.
اقتضى هذا الانتقال تغيرا فى المضمون ، فتراجعت حكايات من قبيل حكاية «السيد علي مع الكفّار» إلى حكاية «جحا الفرنسي مع جحا العربي»، إذ كان الأول (الفرنسي) موصوفاً بالغباء والخمول، فيما كان الثاني موصوفاً بالذكاء والاجتهاد، في إشارة إلى أنه ينبغي الانتصار على الفرنسيين في العِلم والعمل، مثلما تمّ الانتصار عليهم في ثورة التحرير.
مشروع ثقافي
كان النظام الجزائري في العقدين اللذين أعقبا الاستقلال الوطني، حاملاً لمشروع سياسي واقتصادي وثقافي تحرّري، في إطار دور الجزائر، ضمن دول عدم الانحياز، وتكامل خطابه مع الخطابات الثقافية التي كانت سائدة، ومنها الحكاية الشعبية.
تُرجم هذا الهدف في شكل قرارات سياسية مثيرة لحماسة الشعب، مثل تأميم البترول الجزائري، وانتزاع تسييره من الإدارة الفرنسية عام 1971. وكان الحكواتى وسيلة اعتمدها النظام للدعاية لهذه السياسات الجديدة لكنه لم يسع إلى نقل هذا الفن إلى المسرح.
غياب مؤقت
اندلعت آلة العنف والإرهاب، مطلع تسعينيات القرن العشرين، فوجد الحكواتي نفسه مضطراً إلى مغادرة ساحاته، لأن ظهوره فيها أضحى طريقاً معبّداً إلى الموت، فقد أثبتت الجماعات المسلحة جدّيتها في قتل الفنّانين واختطافهم. يكفي أن تكون فناناً لتموت.
وفى ذلك يقول واحد من اشهر من جسدوا شخصية الحكواتي وهو رابح بن سعيد «وجدت نفسي خائناً للحكاية إن انسحبت، فمقاومة خطاب الموت والإرهاب، لم تكن مهمّة الجيش النظامي وحده، كما لم تكن مواجهة الاحتلال الفرنسي مهمّة جيش التحرير فقط».
يضيف: «استجمعت شجاعتي والتحقت بحركة مقاومة الإرهاب، وحافظت على الحكواتي في داخلي، كنت أقيم حلقات حكي للمجنّدين، وكان الجوّ العام يشكّك بقدرة الحكومة على هزيمة الإرهابيين، فكان على حكاياتي وقتها، أن تنتصر لخطاب الحياة».
ويؤكّد سعيد أن الجزائر لم تنتصر على الإرهاب بالسلاح فقط، بل أيضاً بجرعات الأمل التي كان فنّانوها، في مختلف الأشكال الفنية وليس الحكواتى وحده ، يغذّون بها المواطنين».
الحكاية الشعبية
ويلتقط خيط الحديث حكواتى أخر هو ماحي الصدّيق حيث يؤكد على أهمية الحكاية الشعبية «التي تتجاوز دور الفرجة والتسلية، إلى الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية». ويقول: «إن الحكاية نسيج من الأفعال وردود الأفعال والأذواق والأفكار والعواطف والتجارب والمواقف، إنها رؤية للوجود. وسيّدة تراث الشعوب، وخصوصاً الشعوب الشرقية التي تعتمد على الأذن في التلقّي».
ويمضى قائلا أن إدخال فن الحكواتى إلى المسرح أمر مهم حيث يجب أن تعرف الأجيال الجديدة في الداخل، والشعوب الأخرى في الخارج، من نحن وكيف نفكّر وكيف ننظر إلى الوجود؟ وليس هناك مثل الحكاية الشعبية طريقاً لتحقيق ذلك. وسوف يكون تاثيرها اكثر من خلال خشبة المسرح عندما يتفاعل الجمهور مع الحكواتى والممثلين مثلما يتفاعل معهم فى الشوارع والأسواق.
ويتفق معه فى الرأى الحكواتي الامازيجى الشاب محمد حاج إبراهيم على عاتقه، الذى يرى أن الحكواتى يلعب دورا كبيرا فى الحفاظ على التراث الشفوي الأمازيجي، من خلال الحكاية الشعبية.
وهو لا يكتفي بالحكي فقط، بل يُنظّم أيضاً دورات تكوينية للأطفال، يعلمهم تقنيات فن الحكواتى وأساليب مواجهة الجمهور في الفضاءات المفتوحة، ويلقّنهم حكايات عديدة .
ويؤكد أن فن الحكواتى يساعد على دعم الوحدة والتفاهم بين العرب والامازيج. وفى ذلك يقول «يشترك الخيال العربي والخيال الأمازيي في قيم كثيرة، ومنها الارتباط الوثيق بالأرض والمرأة والشجر.
الحكواتي أنثى
ولا تنفي الحكواتية يسمينة بن صلوة أنها تجد صعوباتٍ بصفتها امرأة، في الخروج بحكاياتها الشعبية إلى الفضاءات المفتوحة، لكنها تتغلّب على تلك ذلك، من خلال البعد التربوي والأخلاقي للحكاية، ومن خلال لباسها الشعبي المحتشم.
وتعتبر الحكواتية أنه بمجرّد أن تواجه تجمّعاً من الرجال وهي تمارس دور الحكواتي، حتى تحيلهم على جدّاتهم، «فأوجد لديهم حالة حنين عوضاً عن حالة الاستنكار».
وفى النهاية لا يجد الحكواتي الشاب صالح روّان حرجاً في القول، إنه من الأسباب الموضوعية التي خلقت هوّة بين الجيل الجديد والحكايات الشعبية، «تردّد الحكواتيبن في اعتماد الوسائط الجديدة ومنها المسرح منصّة للوصول إلى المتلقّي».
ويسأل: «هل يهمّنا أن نصل إلى الناس، حتى يتشرّبوا قيم حكاياتنا، بغضّ النظر عن طبيعة منصّة الوصول، أم تهمّنا الساحات العمومية ذاتها؟». ويقول «إن ارتباط الحكواتي بالتراث لا يعني أن يكون صنماً جامداً، بل عليه أن يكون متجدّداً مع تجدّد المتلقّين لهذا النوع من الفنون الاجتماعية» .