العدد 884 صدر بتاريخ 5أغسطس2024
«مصطفى البكري اللي عنده السل ماركعش... لأن القضية قضية الإنسان وكل استعباد، استعباد اللذة أو الأفيون أو القوة للإنسان، أنا والله العظيم ما ضعفت ولا ساومت ولا كنت بدور على اللذة، أنا كنت بدور على الإيمان على الهدف، وهلاقي هدف، لازم ألاقي هدف».
هذه الكلمات كانت علي لسان حمدي الشخصية الرئيسية في مسرحية الدخان للكاتب ميخائيل رومان وان كانت الكلمات تحمل في ظاهرها تعبيرا عن شخص ضعيف سيطرة عليه اللذة إلا أن هذه الشخصية المعبرة عن حال الكثير من المثقفين من تحولوا إلى مسخة داخل مجتمع لا يعترف بهم او يحاول أن يهرب من حقيقة أن الجهل تفشى والقيم انهارت توازيا مع انهيار المعايير الأخلاقية ليتحول المثقف المتعلم إلى يغرق يدور في دوامة الحياة دون نفع فهو يجني قوت يومه بصعوبة بالغة ولا يجد حتي التقدير المعنوي لما يملك من علم وثقافة ليتحول المجتمع إلى حاله من الفوضى العارمة منقلب بداخله الأوضاع فيصبح الغني هو من يملك المال وهو المتحكم في مصائر من حوله ممن يملكون من العلم أضعافا مضاعفة.
فنجد في المسرحية حمدي والذي يعتبر الشخصية المحورية في النص يتجه إلى شرب المخدرات حيث يجد فيها ما ينسيه ما وصل اليه من الم نفسي وصفة قائلا:
«انا رخيص أرخص كاتب علي الالة الكاتبة سعري 70 جنيه»
في حديثة عن الرجل الأجنبي الذي تواجد في شركته وعرف بسعر ساعة العمل التي يتقاضها رغم كفاءته في العمل، كفائتة في عمل لا يتناسب مع مؤهلاته العلمية والثقافية فهو خريج كلية الآداب قسم الفلسفة.
الفلسفة التي تقوم على التأمل فيتحول هذا المتأمل إلى شخصية مكتئبة لا تقوى على الاعتراض حتى علي ابسط الأمور فالجميع يتدخلون في حياته الشخصية ويحاولون أن يقيموا سلوكياته ويحاسبه.
وهكذا نجد حمدي وسط صراعات متعددة بينه وبين نفسه فهو يصارع إحساس الدونية الذي سيطر على عقله لما مر به في حياته المهنية وهذا الشعور سبب انكسارا في شخصيته دفعه إلى الهروب من حبه لمحاسن حب الطفولة الذي استمر عشرت سنوات حتى تم زواجهما مع إيقاف التنفيذ نظرا للظروف المعيشية التي يمر بها فهو لا يقدر على شراء مسكن لهما ويرفض فكرة الزواج في مسكن والدته علي الرغم من الحاح محاسن المستمر علي ذلك. ولم تتوقف الصرعات عند هذا الحد فنجد صراع بين العلم والمنطق مع أخيه فتحي الطبيب الذي يقيم الأمور وفقا للنظريات العلمية فقط لا غير.
فالشخصية الحالمة الطموحة المثقفة تحولت إلى مختلس سارق لأخته جمالات ليسدد ما اختلسه من وظيفته، تحول العقل المفكر إلى مدمنا للمخدرات سابحا في عالم من الخيالات والأوهام.
إضافة لذلك خلق الكاتب صراعا من نوع أخر بين الشخصيات المحيطة بحمدي فنجد الأخ فتحي مستندا للنظريات العلمية يجزم بان أخيه حمدي قد انتهى وانه سوف يلقى حتفه مشردا، ليقابل هذا الراء رأي محاسن زوجت حمدي التي تؤمن بأن الحب سوف يكسر هذا الانكسار وسوف يعيد حمدي إلى رشدة، هذا كله وقد كانت جمالات شريكة حمدي في الثقافة والعلم تقف موقف المتفرج فهي تعلم ما يمر به لأنه يشبه ما تمر به هي الأخرى من نظرات المجتمع لها كأنثى فالمجتمع يعاملها معاملة السلعة المباعة حين يتقدم لها شخص للزواج بها وجاء رصد نظرة المجتمع صريحا علي لسان فؤاد خطيبها الذي تحدث في صراحه أن قيم مشروع زواجه بها من كل الجهات الشكل والمادة والمنزل الذي سوف تكمل هي فرشة، وعلي الرغم من رفضها الصارخ لهذه الطريقة من التفكير إلا أنها مجبرة علي التأقلم هي الأخرى فهي لا تقوى علي المقاومة وحدها، وهذا يأخذنا إلى رد حمدي علي أخيه فتحي والذي تحدث عن سلبية حمدي وخوفه من المواجهة الطبيعية للعالم الذي يواجه جميع البشر يومياً لكن حمدي صدمه قائلا بان المجتمع الذي تتحدث عنه هو فقط يعيش في العالم ويتأقلم وهذه لست بمواجهة، ليخرج من جيبه قطعت من الحشيش الصغير والتي تساوي عددا كبيرا من الملابس والأدوية التي أحضرتها جمالات له ليكون المونولوج الذي افتتحنا به المقال هو ردا علي وابل من الاتهامات التي وصف بها المحيطين حمدي بالجبن، بأنه فقط أراد أن يعترض ويقول لا علي حياته التي لا تناسبه وفي هذا المونولوج والذي قد يراه البعض تبريرا لما اقترفه من أفعال إلا انه بداية لحياته الجديدة التي يريد فيها الخروج من حيز الإدمان الذي سجن نفسه بداخله.
إن حمدي ليس مجرد نموذج لشخص مدمن أو مستهتر ينتمي لأسرة ثرية تدلل الابن فيفسد ، وهو أيضًا ليس بشخص فشل في حياته التعليمية أو من أسرة شديدة الفقر فقرر أن يهرب إلى طريق الإدمان، وحمدي هنا لا يشبه شخصية حمدي بطل مسرحية أخرى لرومان حملت اسم «المزاد» فهناك هو شخص ضعيف يلعب دور المحكوم، يفقد حمدي خلال نص المسرحية إيمانه بكل شيء بداية من ذاته وصولًا لإيمانه بكل الشخوص من حوله حتى أخته جمالات التي شاركته أحلامه وفلسفته وأفكاره وأمه التي ترفض أن تمنع عنه الأموال رغم الديون والاحتياج الشديد له، وأيضًا رغم علمها بأنه سيشتري بها المخدرات.
النص يعتمد على «المونولوجات الطويلة» التي يغلب عليها الطابع التراجيدي، بجانب مشاهد كوميدية قليلة تنتج عن المفارقة التي تظهر عندما يلتقي حمدي المثقف بالمعلم رمضان تاجر المخدرات الحقود ورجاله ورغبة المعلم في أن يدمر حمدي تمامًا ويقضي عليه ويجعله أحد صبيانه.
والجملة التي قالها حمدي دليا علي انه فقط كان بحاجة لصدمة حتي يعود لرشده مره أخرى
«كان لازم يحصل كل ده عشان أعرف أنا مين ورايح فين، واتعلم أبقى راجل، عشان أتف على العالم ماتفش على نفسي».