العدد 884 صدر بتاريخ 5أغسطس2024
المسرحية التي قدمها الريحاني – بعد قسمتي – كانت بعنوان «مندوب فوق العادة»، وهي في الأصل مسرحية «عشرين يوم في السجن» التي مثلها «عبد الرحمن رشدي» عام 1920 من خلال فرقته، وهي أيضاً مسرحية «ثلاثين يوم في السجن» التي مثلها الريحاني عام 1944، والتي صورها التليفزيون المصري في الستينيات بطولة المرحوم «عادل خيري»، والتي أصبحت فيلماً سينمائياً بطولة «فريد شوقي»!! ولكن قبل الحديث عنها، يجب الوقوف على مشكلة ظهرت وحرمت الجمهور حينها وحتى الآن من الاستماع إلى عروض فرقة الريحاني، كما حرمت التاريخ – والتراث المسرحي – من كنز مسرحي مصري .. ضائع، ولا يمكن استعادته مرة أخرى!!
هذه المشكلة أشارت إليها مجلة «المصور» في أواخر ديسمبر 1936، قائلة تحت عنوان «في آخر لحظة»: أشرنا إلى إصرار الأستاذ الريحاني على إلغاء تعاقده مع محطة الإذاعة اللاسلكية، وإلى أنه أخطرها بعزمه على الامتناع عن إذاعة مسرحياته من الأسبوع الماضي. ويظهر أن المحطة كانت تؤمل إلى اللحظة الأخيرة إمكان التفاهم معه، وإقناعه بالعدول عن هذا الإلغاء، بدليل أنها أعلنت في برنامج يوم الخميس الماضي في الصحف الصادرة في صباح هذا اليوم عن إذاعة إحدى مسرحيات فرقته. إلا إنها اضطرت إزاء تشدده وإصراره على إلغاء العقد، إلى الاتفاق في آخر لحظة مع الفرقة القومية على إذاعة رواية «سافو» من مسرح دار الأوبرا الملكية. وأصدرت نشرة خاصة في مساء هذا اليوم لتنبه الجمهور إلى التغيير الذي حدث.
والسؤال المطروح حينها: لماذا رفض الريحاني إذاعة مسرحياته عبر الإذاعة؟ هذا السؤال أثارته مجلة «الصباح» وطرحته على الريحاني، فأجاب قائلاً: «لا أقول عن نفسي إنني أحسن من غيري .. ولكني أقول إن البضاعة التي أخرجها تبلغ حداً كبيراً من الإتقان والإجادة بحيث لا يكون لأي إنسان آخر حق الامتياز عني .. فإذا أنا لم أجد من إدارة محطة الإذاعة التقدير الكافي الذي يتساوى مع مجهودي في الإذاعات فليس هناك ما يضطرني إلى أن أذيع مع فرقتي إذاعة واحدة! فمحطة الإذاعة خصصت لي في الإذاعة الواحدة مبلغ «كذا» .. وأنا لا أخرج في الموسم إلا ثلاث روايات كل رواية منها تمثل شهراً ونصفاً أو شهرين أو أكثر .. فمن المؤكد أن المحطة لا تذيع إلا إذاعة واحدة من كل رواية فتبلغ كل إذاعاتي ثلاث إذاعات في الموسم ويبلغ ما تدفعه المحطة فيها «كذا» .. ومقابل هذا أحرم من جمهور كبير يتساوى ما يدفعه مع المبلغ الذي تدفعه الإذاعة وفي الغالب يكون أكثر .. فأنا الذي سأخسر وليست محطة الإذاعة .. لذلك رأيت أن أرفض الإذاعة. أما إذا كانت فرقتي كفرقة أخرى تذيع إذاعة في كل أسبوع بروايات قيمة أو جديدة فربما لم يكن هناك ما يمنعني من الإذاعة لأنني عندئذ سأربح مبلغاً كبيراً في كل شهر زيادة عن الإيراد». وقد سألنا الأستاذ الريحاني بعد ذلك ألم يحدث أنك رفضت الإذاعة على أثر ما بلغك أن فرقة «...» تأخذ مبلغاً في الإذاعة أكثر من المبلغ الذي تتقاضاه فرقتك؟ فقال: «إنني لا أغضب مطلقاً إذا أخذ مدير الفرقة المذكورة مبلغاً كبيراً فهو صديقي وزميلي وأتمنى له كل الخير .. ولكن ليس هذا أحد الأسباب التي منعتني عن الإذاعة فالحقيقة هي كما ذكرت .. ولكن نفس مندوب المحطة الذي كان عندي في المسرح أبلغني: إذا كان قد تسرب إليك أن فرقة أخرى تأخذ مبلغاً زيادة عنك فهو على استعداد لأن يطلعني على الكونتراتات .. فشكرته على حسن ظنه وكررت له الاعتذار عن الإذاعة». والذي نعلمه أن من الأسباب التي جعلت الأستاذ نجيب الريحاني يكره الإذاعة أن إدارة المحطة اعتادت أن تراجع كل رواية قبل إذاعتها فعندما أخذت رواية «قسمتي» لمراجعتها طلبت تغيير بعض ألفاظ ومعان لا قيمة لتغييرها مطلقاً وليس فيها ما يدعو إلى التغيير .. خصوصاً وأن الرواية روجعت في قلم المراقبة بوزارة الداخلية. ومن الجمل التي طلبت المحطة تغييرها في الرواية جملة «المدرس بعقله مش بوشه وبنطلونه» فطلبت المحطة أن تكون «المدرس بعقله مش بهدومه» .. كما طلبت أن تستبدل كلمة «صاحب العظمة» بــ»صاحب اللطافة»!!
وفي محاولة أخيرة للتأثير على الريحاني، نشرت مجلة «الصباح» رسالة من أهالي الإسكندرية جاء فيها الآتي: حضرة المحترم الممثل القدير الأستاذ نجيب الريحاني .. بعد تقديم واجب الاحترام نحوكم نعرف حضرتكم أننا - أي الشعب السكندري - بأجمعه متعطش لرؤية رواياتكم الجديدة التي هي من أظرف الروايات المصرية من النوع الكوميدي المضحك. وخصوصاً حينما سمعنا الرواية التي نريد أن نراها وهي رواية «قسمتي» فدهشنا لسماعها في الراديو، وهذا لا يكفينا بل ونريد أيضاً أن نراها. ونحن نأمل من الأستاذ الكبير ألا يبخل علينا بالظهور بأي مسرح من مسارح الإسكندرية لأنكم تعلمون أن الإسكندرية ليس بها أي فرقة فإذا أتيتم إلى الإسكندرية سيكون الإقبال زائداً بإذن الله. ملحوظة: الشعب السكندري يرجو من حضرتكم أن يكون الرد على هذا الخطاب عن طريق مجلة الصباح الغراء. الإمضاء: الشعب السكندري بأجمعه».
نشرت مجلة «الاثنين والدنيا» نهاية هذه الإشكالية بكلمة عنوانها «فسخ عقد الريحاني»، قالت فيها: «علمنا أن العقد الذي بين محطة الإذاعة والأستاذ نجيب الريحاني قد فسخ، ولن تذاع روايته الجديدة «مندوب فوق العادة» ولا أية رواية أخرى له. والسبب في ذلك أنه بعد أن تعاقدت المحطة مع الأستاذ الريحاني اتضح أنه لا يملك حق التعاقد، لأن متعهد حفلاته متعاقد مع شقيقه الأستاذ يوسف الريحاني، ويوسف متعاقد مع نجيب كأنه فرد من أفراد الفرقة. وقد رفض متعهد الحفلات إذاعة الروايات بحجة أن الإذاعة تؤثر في إيراد الحفلات ففسخ العقد».
بعد الانتهاء من إشكالية إذاعة مسرحيات الريحاني، بدأت الصحف تُعلن عن العرض الجديد، فقالت مجلة «المصور» في إعلانها: «تياترو ريتس بشارع عماد الدين، نجيب الريحانى وفرقته، يقدم روايته الثانية لموسمه التمثيلي 36-1937 ابتداء من الخميس 7 يناير سنة 1937 رواية «مندوب فوق العادة» كوميدي ذات ثلاثة فصول تأليف بديع خيري ونجيب الريحاني، يقوم بأهم الأدوار: ميمي شكيب، زوزو شكيب، زينات صدقي، بشارة واكيم، ماري منيب، عبد اللطيف جمجوم، حسن فايق، عبد الفتاح القصري، محمد مصطفي، سيد سليمان، كل يوم خميس وجمعة وأحد ماتنيه الساعة 6 تماماً».
كانت مجلة «المصور» أول جريدة تكتب عن المسرحية، قائلة: «مندوب فوق العادة» هي الرواية الثانية التي أخرجتها فرقة الريحاني في هذا الموسم. وهي من تأليف الأستاذين بديع خيري والريحاني. وأساس فكرة هذه المسرحية لا يختلف كثيراً عن أسس روايات الفرقة السابقة، إلا في نوع الشخصيات وفي توزيع الأدوار. ولعل الأستاذ الريحاني يوفق في إخراج فكرة جديدة في روايته «الريفيو» التالية «الدنيا على كف عفريت»، التي يستعد لها من العام الماضي. وقد قامت كل من السيدتين ميمي وزوزو شكيب بأداء دوريهما بإتقان كعادتهما. ولكن شخصية دوريهما لم تكن في حد ذاتها بارزة، ولولا عناية الشقيقتين بالإتقان ما لفت دورهما النظر. وأبدعت السيدة ماري منيب، وكذلك مرجريت في دور السورية، ولا يفوتنا تقدير جهود الآنسة زينات صدقي. وكان نجيب مدهشاً موفقاً إلى حد بعيد كما عودنا، ولم تحسن الفرقة استغلال مواهب الأستاذ بشارة واكيم في هذه الرواية، إذ أعطى دوراً عادياً لم يمكنه من إظهار شخصيته على المسرح. وكذلك الأستاذ حسن فايق فقد كان دوره عادياً. ولقد لمسنا البراعة في اختيار الأشخاص، وتوزيع الأدوار، واختيار المواقف والألفاظ المثيرة للضحك. إلا أن الفصل الثالث والأخير في الرواية بدا ضعيفاً خالياً من الحبكة الفنية. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنه وُضع - كما اتصل بنا - ظهر يوم التمثيل. هذه ملاحظاتنا على الرواية في اليوم الأول لتمثيلها، وقد علمنا بعد ذلك أنها تحسنت كثيراً من ناحية الإخراج والحبكة والموضوع.
أما جريدة «البلاغ» فنشرت مقالة عن العرض قالت فيها تحت عنوان «مندوب فوق العادة تمثيل فرقة الأستاذ نجيب الريحاني على مسرح رمسيس»: أخرجت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني في مساء الخميس الماضي الرواية الثانية لهذا الموسم وهي رواية «مندوب فوق العادة»، ومثل الريحاني دور «أمشير أفندي». وهذه الرواية مقتبسة عن رواية مثلتها فرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي سنة 1920. تحت اسم «عشرين يوماً في السجن». ولا أدري لماذا اختار الأستاذ نجيب الريحاني رواية مفككة كهذه الرواية لم تلق النجاح الكافي ثم يخرجها على مسرحه! وهناك عيب اعتاد ممصرو الروايات الأجنبية أن يقعوا فيه وقد لاحظته في هذه الرواية أيضاً، وهو أن هؤلاء الكتاب يمصرون الرواية دون أن يشعروا أن بعض عادات الغربيين لا تصلح في الشرق مهما كانت صلاحيتها في الغرب. قد يقال إن الرواية من نوع الفودفيل، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الموضوع معقولاً منسجماً مرتبط النواحي. ويتلخص موضوع الرواية من أن مدحت أفندي الشماشيري شاب من أبناء البيوتات يعيش مع زوجته سهير ووالدتها السيدة ترنجل عيشة هادئة، ولكن مدحت أفندي يميل بعض الميل إلى مغازلة النساء. وله صديق يدعى أمشير أفندي يشتغل في وظيفة من أغرب الوظائف وهي أنه يقدم نفسه للامتحانات بأسماء مختلفة مقابل أجر معلوم، ثم ينجح ويستولى الشخص المستغل اسمه على الشهادة المطلوبة. وبذلك حصل على 20 شهادة ثانوية وعالية! وحدث بعد ذلك أن يغازل مدحت أفندي الشماشيري الفتاة أزهار في السينما فتؤدي هذه المغازلة إلى شجار ثم إلى البوليس ثم تحكم عليه المحكمة بالحبس غيابياً لمدة شهر، فيقع عليه هذا الحكم وقع الصاعقة، ولكنه يتذكر صديقه أمشير أفندي الذي كان يلازمه في عهد التلمذة بمدرسة القربية، فيتفق الاثنان على أن يدفع مدحت أفندي مائة جنيه مقدماً مقابل دخول أمشير السجن بدلاً منه، ثم يدفع 50 جينه عند خروجه. ويدخل أمشير أفندي السجن ويقضي المدة اللازمة على أسوأ ما يكون ويتعرف في أثناء الحبس إلى مجرم وتتوطد بينهما أواصر الصداقة فيدعوه لزيارته في بيته – أي بيت مدحت - عقب خروجه من السجن مباشرة. وفي مدة السجن يسافر مدحت أفندي إلى لبنان بحجة تغيير الهواء والراحة لأن صحته ليست على ما يرام ثم يعود إلى مصر وبينما هو جالس في منزله يدخل زميل أمشير أفندي دون أي كلفة فتحدث مشادة بين صاحب المنزل وبين هذا المجرم ويدعي الأول أنه يعرفه ويقول الثاني إنه على ميعاد في هذا المنزل مع صاحبه. ويحضر أمشير أفندي على هذه المشادة فينهره مدحت أفندي ويعرفه أنه متضايق من وجوده فيدفع أمشير أفندي المبلغ الذي قبضه نظير حبسه لأنه في غنى عنه لأنه كسب من البكارا 800 جنيه. وهنا تحضر زوجته على هذه المشادة فتسأل عن الموجودين فيعرفها بأن «المجرم» هو أحد أقاربه رأى أن يزورهم فتطلب زوجته أن يظل بينهم. وكان القاضي إسماعيل بك جرجير يتودد إلى عائلة مدحت بك للزواج من حماته، ولكنها ومدحت بك رفضوا بحجة أنه عجوز يبلغ الخمسين عاماً. وتشاء الظروف أن يتشاجر أمشير أفندي مع أحد ضباط البوليس فيعمل له محضر تعدي باسم مدحت أفندي. وفي يوم المحاكمة يصدر القاضي - إسماعيل بك جرجير - حكماً غيابياً بحبسه. أمام هذه الورطة يتفق الجميع على أن يقوم المجرم الضيف بالحبس بدلاً من مدحت أفندي إذا وافق حضرة القاضي الذي سيتزوج من حماة مدحت أفندي على هذا الشرط. هذا هو ملخص الرواية ومنه ترى أن الموضوع لا يصلح أن يكون موضوع رواية مصرية والظاهر أن الأستاذ نجيب نقل الرواية الأفرنجية إلى العربية دون أن يراعي العادات المصرية، فليس من المعقول أن يتقدم شخص باسم آخرين للدخول إلى الامتحانات العامة وينجح في هذا عدة مرات متتالية، ثم يحصل على عشرين شهادة قانونية وعالية يسلمها لأصحابه مقابل أثمانها. ولم يحدث أن يتقدم شخص ويقضي مدة العقوبة بعلم القاضي! فمن المستحيل حصول هذا ولم يحصل في مصر بل في الشرق أن يساوم قاضي على تنفيذ حكم في غير المحكوم عليه! هذه ملاحظات سريعة أبديها للأستاذ نجيب الريحاني بصفته المؤلف والمخرج والممثل الأول للرواية ونرجو إصلاحها إذا أمكن أو عدم الوقوع فيها بعد ذلك. أما السيدة أمينة شکيب ممثلة دور أزهار عشيقة مدحت ومن الملاحظ أن هذه الممثلة تخطو خطوات في سبيل الاتقان فقد كانت موفقة كل التوفيق في تمثيلها فنهنئها، ولا ننسى أنها أخرجت هذا الدور وكانت في نفس الوقت تمثل الدور الأول في رواية «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» بأستديو مصر، فكانت رغم هذا المجهود موفقة في دورها إلى درجة كبيرة. وكذلك أختها زوزو شكيب فقد مثلت دور سهير زوجة مدحت بك، وكان تمثيلها على جانب كبير من الإتقان. ومثل الأستاذ بشارة واكيم دور مدحت أفندي فأجاد دوره وذكرنا بتمثيله في نفس هذه الرواية في فرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي سنة 1920. وقام الأساتذة عبد اللطيف جمجوم وحسن فائق وعبد الفتاح القصرى بأدوارهم على الوجه الأكمل.