العدد 885 صدر بتاريخ 12أغسطس2024
تنظير العلاقة بين النص والأداء
ولكن هل تغطي المقاربات النظرية التي أشار اليها ليمان كل أشكال المسرح بعد الدرامي ؟ وهل صياغاته المختلفة للعلاقة بين النص والمسرح بعد الدرامي على مدار الكتاب ساهمت في بعض من سوء الفهم الدولي فيما يتعلق بالثنائيات الضيقة ؟ ربما من الانصاف أن نقول ان مسألة النص هي أحدى القصايا الأقل تطورا في الكتاب ( ولاسيما في النسخة الانجليزية )، وبالتالي هي أحد أكثر المجالات المحيرة في المناقشات – ولاسيما بالنسبة لأولئك العلماء الممارسين الذين يريدون التعامل مع الكتاب من وجهة نظر الكتابة الابداعية الجديدة والكتابة للأداء المسرحي . وفي الفقرات التالية، أود أن أنظر الى أربع صياغات أو منظورات قدمها ليمان وتؤثر في مفهوم دور النص في علاقته بالمسرح بعد الدرامي .
في بداية الكتاب، يعرف ليمان المسرح بعد الدرامي عن طريق تجنب الغائية والجدلية، ومنطق الشمولية الدرامية the dramatic logic of totality، وقابلية المفهوم الدرامي الأرسطي للفحص . وذكر صامويل بيكيت وهاينر موللر في السياق كمثالين للمؤلفين الذين تجنبوا الشكل الدرامي بسبب غائية التاريخ الضمنية . وتلاحظ توملين أنه في هذه المناقشة الأولية لمثاليات الدراما الفلسفية أن :
لم يتم تسليط الضوء على الوسيط النصي الذي نقلت من خلاله الدراما بشكل تقليدي، مما يشير في هذه المرحلة الى أن وسيط النص المكتوب بالنسبة الى ليمان كان مجرد وسيلة تاريخية لفلسفة الدراما وليس جزءا منها .
وتقترح بالتالي أن التركيز على الاطار الفلسفي كمقوم مميز بين الدرامي وما بعد الدرامي، فضلا عن وسيط بعينه تنتقل الفلسفة من خلاله، يمكن على الأقل أن يبدأ في اثارة المشاكل للتعارض الحالي بين المسرح المبني على النص والمسرح غير المبني على النص . ومع ذلك، بينما أوافق على أن هذا الاطار الفلسفي هو تمييز مهم، فيمكنني أن أجادل بأن ظهور الدراما ودمجها كشكل قد سار تاريخيا جنبنا الى جنب مع ازدهار ثقافة الطباعة، حيث أن النص المطبوع كوسيلة نقل تاريخية لفلسفة الدراما لم يكن تصادفيا أو عشوائيا . وبالمثل، ليس من قبيل المصادفة من وجهة نظري أن يكون الاطار الفلسفي للدراما هو بداية فقدان رسوخها في وقت ما في القرن العشرين عندما تنافس وسيط الطباعة بشكل متزايد مع الوسائط الأخرى الأحدث مثل الاذاعة والسينما والتليفزيون والانترنت .
وفي المقاربة النظرية الثانية، يستمر ليمان – الذي يأخذ أشارته الآن من نقد أرتو للمسرح الغربي – في تعريف المسرح بعد الدرامي أيضا بالنسبة الى هيمنة وأولوية النص الموجود مسبقا في المسرح الدرامي . بينما في المسرح الدرامي، يعد النص من الأعمال اللغوية المكتملة في ذاتها وتحدد طريقة العرض، وفي المسرح بعد الدرامي يرى المسرح باعتباره مادة – وعنصر واحد ضمن عدة عناصر، وتجادل توملين بأن هذا التناول، الذي يقوم على ما تسميه « الدور التنبؤي للنص the predicatory role of the text ، لا يتوافق بشكل واضح مع تناول ليمان الأول عبر الاطار الفلسفي للدراما . اذ تجادل توملين من منظورها ككاتبة مسرحية معاصرة :
الموقع الأصلي للنص المكتوب في العملية الفنية لا يشكل، في حد ذاته، امتثالا للغائية ( على سبيل المثال) في المناسبات التي قد يبدو فيها عالم النص مكتملا في حد ذاته فقط، ولكن عند قراءته عن كثب، ينظر اليه على أنه أحد عناصر نص الأداء ان كان مهما .
وتستشهد بمسرحية مارتن كريمب « المدينة The City” (2008) ومسرحيتها “زهور ومورفين Roses and Morpine “ (2005) كأمثلة بها كل علامات النص الدرامي التقليدي، ولكنها ليست معدة في الواقع للامتثال للتضمينات الغائية للدرامي، ولكن لكي تسقطها، لكي تقوم بتفكيك ذاتي لسلطتها . وتقول، ان هذا النوع من النصوص تعتمد في نجاحها على استراتيجيات الأداء التي تستخدمها فرق مسرحية مثل فورسيد انترتائنميت في العروض التي تشير الى أن النص لا ينتمي للمتكلم، وتلقي بظلال شك على قابلية التعويل على اللغة . فعندما تُقرأ النص من أجل وظيفتها التنبؤية أو علاماتها الدرامية، يمكننا أن نفقد امكانية أدائها بعد الدرامي . ان توملين تتحدث من خبرتها الشخصية مع المخرجين والمديرين المدربين في التقاليد الدرامية الذين الذين يسيئون قراءة مسرحياتها : “ ان دمج ليمان للعلامات الوظيفية للدرامي مع التداعيات المنطقية للدراما ليس مفيدا في هذا الصدد.
ومع ذلك، يمكنني أن أجادل بأن الحكم على النصوص بما هي كذلك ليس جزءا من قصد ليمان . والصيغة الثالثة – وهي الصيغة التي لا تعالجها توملين – تجعل هذا واضحا، وهي، كما أعتقد مثمرة أكثر كأساس للمناقشة هنا . اذ يوضح ليمان هنا أن :
المسرح بعد الدرامي ليس نوعا جديدا من نص الأداءtext of staging ، وليس أقل من أن يكون نوعا من النص المسرحي theater text، بل هو نوع من استخدام العلامة في المسرح الذي يقلب كل مستويات المسرح هذه رأسا على عقب من خلال خاصية نص الأداء المتغيرة بنيويا : انه يصبح أكثر حضورا من التمثيل، وأكثر مشاركة من تجربة التواصل، وأكثر معالجة من المنتج، وأكثر ظهورا من الدلالة، وأكثر حيوية كباعث من المعلومات .
هذه الصيغة، التي تكررت على مدار الكتاب، تبتعد بصرامة عما يسميه باتريس بافيس « مواقف الفقه اللغوي التي تستشهد بسلطة النص من أجل تفسيره « .
وبالتالي، فان هدف الدراسة، بالنسبة الى ليمان، هو في النهاية نص الأداء performance text، الوضع الملموس بالكامل للمسرح، وليس النص في ذاته. وهذا لم يمنع المتخصصون من دراسة « ما لم يعد نصوصا درامية « بالنسبة الى ما بعد الدرامي – والسؤال في الواقع هو هل ما يزال هناك دورا دراماتورجي في التحليل الدقيق للنصوص مع رؤية لإمكانية أدائها بعد الدرامي . وفي مقال بعنوان « متى لا تكون المسرحية دراما ؟ When is a play not drama ? “ يجادل بارنيت بأن « يقترح النص بعد الدرامي (المحتمل) ذاته باعتباره عنصرا نسبيا للأداء عموما ويشير الى غموضه ومكانته كمادة غير مفسرة . وفي موضع آخر، جادل بأن النص يمكن دراسته من أجل أدائيته الجديدة، التي يقاوم فيها منظور الممارسة التفسيرية في الأداء . ورغم ذلك، مثلما اكتشفت توملين أن الامكانية بعد الدرامية في النص يمكن تجاوزها من خلال المخرجين، يجد بارنيت بعض الحالات التي تحول فيها نص بعد درامي محتمل، مثل مسرحية ألبرت أوستيرماير “ صناعة فيلم من الدرجة الثانية “، الى قراءة درامية للنص من قبل المخرج فولكر هيسة . فبينما اعتمد نص أوستيرماير غلى تحققه بعد الدرامي في عرض يمكن أن يخلق توترا بين الفعل الحي على خشبة المسرح والصور التي تم توسيطها في الفيلم، فقد نجح هيسة في التوفيق بين العالمين ولم يسمح بالغموض الوسائطي . من الواضح اذن أنه لا يوجد ضمان بأن ما لم يعد نصا دراميا سوف ينشأ في الأداء بعد الدرامي : « لا يمكن تناول النص المسرحي بعد الدرامي باعتباره مقروءا .
ان ما سبق يحدد الفروق الأنطولوجية بين النص والأداء وينقلنا الى الصيغة النظرية الرابعة التي قدمها ليمان . وهنا، في فصل فرعي عن «النص « في المسرح بعد الدرامي يتأمل ليمان الصراع بين النص والمشهد، وبينما يكرره في مقال أحدث بعنوان « النص وخشبة المسرح «، فهناك دائما توتر كامن وصراع بين النص والممارسة المسرحية :
تعجب بسيط : النص هو ظاهرة أدبية ويظل كذلك، حتى لو كان دراما، فالنص الحقيقي يختفي حرفيا على خشبة المسرح . باستثناء الصيغ المخصصة للكلمات المكتوبة على خشبة المسرح (...) فالدراما كحقيقة أدبية لغوية تختفي كلها وتفسح الطريق لشيء مختلف تماما : من أجل البعد اللغوي الموازي والأصوات والنطق والايقاع وسرعة الايقاع والبطء والمعلومات السمعية ذات الطابع الجنساني، والايماءات وتعبيرية لغة الجسد عموما .
ويمضي ليمان في اقتراح أن المسرح بعد الدرامي يمكن أن يستخدم في اظهار هذا التوتر الكامن فضلا عن اخفائه، ويحوله الى مبدأ التقديم على خشبة المسرح نفسه . وقد وجدت أن هذه الرؤية مثمرة بشكل مذهل، عندما نفكر مثلا في العروض الألمانية الحالية لنصوص ألفريدا يلينيك . وقد وجد مخرجين مثل نيكولاس ستيمان المفتاح الى مفاهيم الاخراج لنصوص يلينيك، بينما يلينيك نفسها جعلت نصوصها مفتوحة بشكل مثير لهذا التعاون الممر الذي يشوبه التوتر . اذ تقول ارشادات خشبة المسرح بشكل مستفز « افعل بها ما تريد « . ومثلما تكتب نفسها غالبا كشخصية مؤلفة في نصوصها، فقد ظهر النص المكتوب بشكل متزايد في عروض يلينيك على خشبة المسرح، فمثلا في في عرض ستيمان “ أوليريك ماريا ستيوارت أو عقود التاجر «، حيث يمكن رؤية الممثلين، والنص في أيديهم، لكي يناضلوا ماديا في النطق . والنص هنا بالتحديد لا يختفي كما في العروض التقليدية، بل يعاود ظهوره كشيء مقاوم .
وكما ناقشت في موضع آخر، فان موجة الانتقام من الكتابة الجديدة، كما أسمتها الينور فوش في منتصف الثمانينيات، هو أيضا أمر ملحوظ في كثير من المسرح التجريبي في بريطانيا – سواء كان ذلك في أعمال فرقة فورسيد انترتينميمت أو أبوكريفال ثياتر “ بالاضافة الى أنك تفقد نفسك Besides you lose your soul «، حيث تجلس المؤلفة جوليا برادلي نفسها مع حاسوبها تغير نصها على الشاشة ( الذي يعرض على شاشة أكبر ) بينما يرتجل المؤدون مع النص المحفوظ معها . ان التوتر الذي تم استكشافه بشكل مفتوح بين النص وخشبة المسرح ليس عملية أحادية الاتجاه : فبينما يميل ليمان الى التأكيد على تشتيت الأداء ما بعد الدرامي للعقل عبر الأجسام والمكان، فان النص باعتباره كلام مكتوب يمكن أن يظهر مرة أخرى بماديته الخاصة .
....................................................................................
كارين يوريس مونبي تعمل أستاذا في جامعة لانكستر للفنون المعاصرة، وهي التي ترجمت كتاب « المسرح بعد الدرامي « الى الانجليزية عام 2006 .