مندوب فوق العادة في عيون النقاد!!

مندوب فوق العادة في عيون النقاد!!

العدد 885 صدر بتاريخ 12أغسطس2024

استمرت الصحف الفنية تتناول مسرحية الريحاني «مندوب فوق العادة»، المعروفة باسم «30 يوم في السجن» كما بيّنا من قبل – فكتب الناقد الفني لمجلة «الصباح» - أواخر يناير 1937 – مقالة بعنوان «فرقة نجيب الريحاني تقدم مندوب فوق العادة»، بدأها بملخص لها – به تفاصيل جديدة - قائلاً: أمشير - لكنه ليس الشهر الذي أعرفه - إنه أمشير أفندي الذي احترف العلم والدخول في الامتحانات والنجاح فيها، لكنه كان لا ينال الشهادة لنفسه وإنما ينالها للآخرين، لأبناء أولئك الذين يؤجرونه ليؤدي الامتحان بدلاً من أبنائهم وينال الشهادات بأسمائهم، ومن ثم فقد تقدم لامتحان الشهادة الابتدائية عشر مرات ونجح فيها، وتقدم لشهادة البكالوريا عشراً مثلها، ونجح فيها ثم تقدم لليسانس ونجح فيها عشر مرات أيضاً، ومع ذلك فقد بقى هو لا يحمل إحدى هذه الشهادات لأنه كما قلنا أو كما يقول مؤلف الرواية قد تقدم بأسماء الآخرين وقبض الأجر وكفى.
إذن فقد عاش أمشير أفندي مشرداً لا يجد عملاً لأنه ليس لديه شهادة ولا ينال قوت يومه لأنه صاحب خلق عجيب! فالشتائم لا تفارق شفته والسباب عنوان أدبه وغايته من الحياة! وقد عاش يجري وراء الأغنياء ممن يعرف وممن لا يعرف، وأخيراً فقد التقى بصديقه «مدحت» وقد عرض عليه أن يبقى معه وأن يطعمه ويكسوه ويعطيه مصروف يومه في مقابل أن يتزوج ماري الطباخة السورية التي تعمل عنده؛ فإن لم يرض بالزواج بها فلا أقل من أن يعدها بالزواج! ويكون مدحت قد تورط في قضية أهان فيها أحد الناس وكان مدحت معه امرأة صديقه استطاع أن يخفيها عن أيدي البوليس. وقد وكل مدحت في قضيته محامياً هو رجب أفندي، وقد دافع عنه دفاعاً جعل القاضي إسماعيل بك يحكم عليه بالحبس البسيط شهراً، ويأتي رجب أفندي ليزف إلى مدحت بشرى هذا الحكم! وما تلبث الفكرة أن تهبط على مدحت بك فيعود إلى أمشير أفندي بأن يتقدم للسجن بدلاً منه، بينما يغيب هو في ربوع سوريا شهراً وبعض شهر، ويعود فيجد أمشير أفندي قد أساء استعمال شخصيته، وقد حشره في قضية جديدة أهان فيها امرأة وضرب أحد ضباط البوليس ثم قال في محضر التحقيق إنه مدحت بك وليس أمشير أفندي. وتشاء الصدف أن تقود إلى بيت مدحت بك «إسماعيل بك» القاضي الذي يرغب في الزواج من «حماة» مدحت! ويعرف القاضي الحقيقة وتتجلى أمامه الوقائع الغريبة التي لعبها أبطال الرواية، فيعدهم أن يفض المشاكل بحكمته في مقابل الزواج من «ترنجل» هانم حماة مدحت بك. 
هذه خلاصة وجيزة للرواية تعطي القارئ فكرة عنها، لكنها لا تصورها كما هي في الواقع لأن أمثال هذه الروايات لا يستطاع تلخيصها بسهولة، ثم إنها تعتمد على النكتة الطريفة والحوار الظريف وليس من سبيل إلى تلخيص النكتة أو الحوار. بقي أن نقول إن الرواية نفسها ظريفة وأن وقائعها مسلية، لكن الحوار فيها أجمل وأظرف بكثير، ومن عادة المؤلفين - نجيب الريحاني وبديع خيري - أن يعنيا بالحوار أعظم عناية، وأن يصنعا الجمل صناعة وكأنما ينحتهما نحتاً، والمتفرج حين يصغى لحوارهما لا يشك في أن الطبيعة ليس فيها مثل هذا الحوار الجميل، ويعجب بذلك الفن الرائع الذي يتطلع إليه من ثنايا هذه السطور السحرية. وإذن فكل بضاعة المؤلفين هذا الحوار الساحر وهي بضاعة يمتازان بها عن سواها من المؤلفين أو قُل المعربين الذين يمصرون الروايات، وهي بضاعة فنية لا يحاربهما في إرجائها الجماهير آخر من المؤلفين أو المعربين. وقبل أن ننتهي لا بد أن ننبه إلى أن هذه الرواية قد شذت عن روايات الأستاذ الريحاني بشيء هو أن أبطالها كانوا يتشاتمون ويتقاذفون بالسباب الذي لم نألفه من قبل وخصوصاً من فرقة الريحاني، ولا يخفى على الأستاذ الريحاني أن جمهوره الراقي لا يجد في هذا السباب المتعة التي أرادها له على أن ظرف الحوار ودقة التمثيل وبراعة الأداء كان يسدل ستاراً على هذا السباب. ولا بأس من أن يكون في خلق «أمشير أفندي» ذلك الشذوذ العجيب، لكنه يجب أن لا يتخذ هذا الشكل الصارخ.
وانتقل كاتب المقالة إلى التمثيل فقال: نجيب الريحاني أمشير أفندي .. بودنا أن نتحدث عنه دائماً، بل يجب أن نتحدث عنه دائماً لأنه رجل فنان حقاً. ولأنه ممثل لا يبارى في نوعه وهو قوة عظيمة يعتد بها ويعمل حسابها. وفي الواقع فإن من يرى الأستاذ الريحاني على المسرح لا شك في أنه يرى أن أعماله كلها لا تخرج عن حدود الطبيعة. بينما أنها في الواقع كلها خروج عن الطبيعة! فالحوار جميل جداً والوقائع فيها مغالاة كثيرة بشأن كل الروايات الكوميدية وإذن فإن فن نجيب الريحاني هو الذي يتغلب على مشاعر المتفرج ويقنعه بشيء ليس موجوداً فعلاً، وهذا هو غاية ما يصل إليه الفنان الذي يستلب لب القارئ ويأخذه معه ويسيطر عليه. وميمي شكيب مثلت دور السيدة المستهترة وكانت أنيقة غاية الأناقة بارعة غاية البراعة ولم يكن دورها كبيراً لكن سطوره القليلة ومشاهده البسيطة لم تمنع الممثلة التي رسخت قدمها على المسرح من أن تثبت وجودها. وزوزو شکيب مثلت دور الزوجة التي لا تعرف من أمر زوجها شيئاً فكانت مثال الزوجة المصرية الصميمة التي تعنى بأمر بيتها أكثر مما تعنى بأمور زوجها وأعماله في الخارج. وماري منيب مثلت دور الحماة التي لا تخجل رغم تقدمها في السن من أن تسعى في الزواج وتجري وراء الزوج وترحب، وماري منيب ممثلة قديرة تنجح دائماً في قربها للطبيعة السارية عن كل شذوذ، ومع ذلك فهي بارزة تماماً وناجحة تماماً. أما عبد اللطيف جمجوم فمثل دور المحامي رجب أفندي، وعبد اللطيف ممثل بارع في نوعه وهو يصلح دائماً في مثل هذه الأدوار القريبة من شخصية الأستاذ الريحاني، ويكون نجاحه أكثر حينما يكون الدور شاذاً تمام الشذوذ. وبشارة واكيم مثل دور مدحت بك، وهو رجل مفسود يتطلع لغير امرأته من النساء، ولقد أدى بشارة دوره بنجاح تام، ولا يحتاج إشارة لأن نعرفه للقراء فهو ممثل بارع وله أدوار خالدة في المسرح الأدبي، كذلك حسن فائق مثل دور القاضي إسماعيل بك فنجح في تصوير الشخصية وكان خفيفاً ظريفاً. ومرجريت صوفيري مثلت دور الخادمة السورية فنجحت فيه ونالت استحسان الجميع. وعبد الفتاح القصري مثل دور الرجل البلدي الذي لا يجاريه فيه أحد، ومن تحصيل الحاصل التحدث عن عبد الفتاح في أمثال هذه الأدوار. ويمكن أن يقال إن الرواية نجحت عند الجمهور لكنها لم ترتفع إلى مستوى سابقاتها، فليس في الموضوع تجديد ولكنه شبيه بغيره ثم هذه الشتائم الكثيرة لا يمكن أن تروق لأحد إلا أننا لا ننكر أننا ظللنا نضحك منذ بداية الرواية حتى نهايتها وهذا نجاح لا شك فيه.
أما الناقد «إبراهيم أبو العنين» - الناقد الفني لمجلة «الجامعة» - فكان الوحيد الذي خالف الجميع في نقده، وتوقف كثيراً عند ظاهرة «السباب» الموجودة في العرض، فكتب مقالة – في نهاية يناير 1937 - قال فيها: أُشيع بعض الزملاء مدحاً في مسرحية «مندوب فوق العادة» التي مثلتها فرقة نجيب الريحاني وبقي واجبي أنا في نقد المسرحية نقداً يتسق وطريقة «الجامعة» الخاصة في النقد المسرحي. أساء نجيب فهم المسرحيات الكوميدية وأعتقد أن الحوار المليء بالألفاظ البذيئة التي تحرر منها سكان الأحياء البلدية في العصر الحاضر هو التمثيل الكوميدي! لنجيب أن يفخر بأنه يضحك جمهوره ولكن ليس بهذا الشكل المعيب، ففي استطاعة أي «سيرك» أن يجعل الناس يستغرقون في الضحك إذا «زغزغهم» بالطريقة الرخيصة التي يعمد إليها نجيب في مسرحياته الأخيرة! لقد قرأنا الكثير من المسرحيات المضحكة لكبار الكُتّاب الأوروبيين وكانت كل مسرحية مليئة بالمفاجآت الطريفة والحوار البديع .. الذي يخرج منها المتفرج في النهاية بفكرة أو موضوع لأن هذا هو الغرض الأول من المسرحية أيا كان نوعها ولكن الاستمرار على تقديم النوع الذي يقدمه نجيب يحمل معنى العجز عن مسايرة الأدب المسرحي الجديد، ولذلك أجدني مضطراً لأن أذكر الحقيقة وهي أن نجيب الريحاني لم يصور الأخلاق المصرية تصويراً دقيقاً في مسرحيته الأخيرة بل كانت مسرحية لا معنى لها مطلقاً وكان الأجدر به ألا يقدمها لجمهوره الذي أوحت إليه طيبته أن يذهب لمشاهدة مسرحية مصرية فجوبه بهذا العرض الكريه لطائفة من أحط الشخصيات، لا تجري ألسنتهم إلا بكل ما هو بذيء كأن المصريين اعتادت ألسنتهم ألا تجري إلا بهذا وفي يقيني أن نجيب في الأعوام الأخيرة أصبح يعاني من حالة من حالات الشعور بالعجز Inferiority Camplex [عقدة النقص]، فهو «يردن» عليه جنسه إلى منبته السوري الذي يوحي إليه بالإكثار من الشتائم بمناسبة ومن غير مناسبة. أما الإخراج ..  وهنا لا بد أن أرسل دمعة إشفاق على نجيب وعلى ماضيه العريق إذ كان الإخراج معيباً وناقصاً بل أنه دل دلالة واضحة على إهمال شديد من نجيب الذي يهتم بالحوار دون الإخراج! فالإضاءة فشلت فرقة نجيب فيها فشلاً كبيراً، والديكور .. منظر واحد لا بأس به. والميزانسين لم يستطع نجيب أن يضبط الحركة المسرحية على خشبة المسرح. والمكياج تغالى فيه بعض الممثلين فكانت أشكالهم وهم على خشبة المسرح تدعو إلى السخرية لا إلى الضحك المرح. أما الإدارة المسرحية فقد وفق المنظم «فلادمير» في أدائها. أما التمثيل فقد خرج الممثلون عن طبيعتهم نظراً لشذوذ الشخصيات التي يلعبونها فلم تستطع المجموعة أن تلعب أدوارها بإتقان كما كنا نأمل. فنجيب الريحاني لعب دور أمشير فاستطاع أن يضحك جمهوره الذي ذهب وفي عقله الباطن فكرة قديمة ثابتة توحي إليه أن يضحك كلما ظهر نجيب على خشبة المسرح. ولكننا إذا حكمنا عليه حكماً فنياً وجدنا أنه خرج عن حدود الدائرة الفنية المعقولة في هذا الدور. وبشارة واكيم قام بدور «مدحت» وكان كعهدنا به أدى دوره على أتم وجه. وعبد اللطيف جمجوم مثل دور «محامي» ولم يكن موفقاً فيه. أما حسن فايق في القاضي إسماعيل، فقد أدى دوره على أتم وجه ونجح فيه نجاحاً كبيراً. والقصري قام بدور «بلدي» ومثل هذه الأدوار تصلح للقصرى تماماً. ولم تستطع ميمي شکيب أن تؤدي دورها وسقطت سقطة نرجو أن توفق إلى من يقبلها منها في المسرحيات القادمة. وزينات صدقي قامت بدور «سعاد» ولقد سبق أن ذكرت أن هذه الممثلة تقدمت تقدماً محسوساً وقد ظهر أثر ذلك في هذه المسرحية. وزوزو شكيب لها صوت أجش غريب لم أستطع أميز معه معنى ما كانت تقوله أثناء التمثيل. وماري منيب «الحماة» لم تؤد دورها كما يجب. ومرجريت صوفير كانت بطبيعتها «امرأة سورية». وإذا أردت أن أقدم إلى نجيب نصيحة خالصة بعد مشاهدة مندوب فوق العادة، فيجب أن تكون هذه النصيحة من شطرين: أولاً وجوب إقلاعه عن التأثر بمجتمعه السوري وتوهمه بأن الحياة المصرية الشعبية عبارة عن جحيم من الشتائم والسباب. ثانياً وجوب اقتناعه بعدم الاعتماد اعتماداً كلياً على أن جمهوره اعتاد أن يذهب لمشاهدته وهو فريسة حالة من حالات سبق الإصرار والترصد للضحك. وأنه مهما «باخ» على المسرح فإنه سيجد من يضحك لهذا «البواخ»! وأخيراً .. لعل «العناد» لا يحدو بنجيب إلى «الإصرار» على استمرار عرض مسرحيته الجديدة رغم الحنيّة التي منيت بها في ليالي عرضها الأولى.
في هذه الفترة أثارت مجلة «الصباح» موضوع تمثيل مصر فنياً في معرض باريس، ولفتت نظر وزارة المعارف إلى وجوب اشتراك الفرق التمثيلية المصرية والأفلام السينمائية المحترمة التي أخرجها أستوديو مصر في القسم المصري بمعرض باريس ليأخذ مندوبو العالم فكرة سامية عن الفن المصري في التمثيل والسينما. وقد استطلعت المجلة آراء مديري الفرق في هذا الموضوع. وقد أدلى الريحاني برأيه قائلاً: شكراً لجريدة الصباح المحبوبة ودفاعها المجيد عن المسرح المصري وهذا الشعور النبيل الذي تظهره نحو الفرق التمثيلية المصرية. وإني ووالله دهشت حقاً حينما علمت أن في معرض باريس قسم مصري وهذا القسم لم تفكر الحكومة في أن تشرك فيه الفرق التمثيلية المصرية أو الأفلام السينمائية مع أن الفن التمثيلي والسينمائي في مصر أصبحت له قيمته المعنوية من ناحية التقدم والارتقاء. فإذا تغاضت الحكومة عن ذلك هضمت حقاً كبيراً من حقوقنا في الوقت الذي تكون قد فقدت فيه مثلاً عالياً يجب أن تقدمه إلى أمم العالم في هذا المعرض كدليل على قوميتنا وحضارتنا. والفرق التمثيلية المصرية الموجودة الآن في استطاعتها أن ترفع رأس مصر عالياً أمام جميع الشعوب ونحن لا نطلب من الحكومة إذا هي وافقت على إشراكنا إلا أن تتكفل بالمعاونة الأدبية والمادية التي لا تفضحنا أمام الجمهور هناك ولا نظن أن في هذا الطلب أكثر من المعقول خصوصاً وأن الحكومة تدفع مصاريف ونفقات كل من تقرر إشراكهم في المعارض والمؤتمرات فليس من الصعب عليها أن تتكفل بمصاريفنا ونفقاتنا ونحن على استعداد لأن نقوم بهذا الواجب عن طيب خاطر حتى على الأقل لنظهر أمام الجميع بأن مصر ليست هي كما يعلمون عنها بلاد المتوحشين!!
عاد الريحاني إلى أسلوبه المتبع بعد كل عرض جديد، وهو أن يعرضه مع مجموعة من مسرحياته السابقة في مسرحه تارة، وفي الأقاليم تارة أخرى! ومن هذه المسرحيات: الدنيا لما تضحك، الشايب لما يدلع، قسمتي، مندوب فوق العادة، وقد عرضها الريحاني في شهري فبراير ومارس 1937 في «الهمبرا» بالإسكندرية، وتياترو «ريكس» بالمنصورة، وسينما «أوبليسك» بالسويس، و«الألدورادو» ببور سعيد، وسينما «التعاون» بالإسماعيلية.


سيد علي إسماعيل