العدد 886 صدر بتاريخ 19أغسطس2024
شهد القرن الماضي تغيرا نوعيا في المعمار المسرحي من أجل خلق فضاء مسرحي جديد ومغاير يرتبط بالواقع الإنساني، ويعمل على تفعيل عنصر المشاركة مابين الممثل والجمهور. وقد عمل رواد التجديد المسرحي في القرن العشرين على تصميم أشكال مختلفة لخشبة المسرح تتناسب مع التغيرات التي تحدث من حولهم، ومن خلال تصميمات تناسب البيئة التي يقدم فيها العرض.
وقد كشفت عروض المسرحيين التجريبيين في كل أنحاء العالم، أن المسرح ليس هو فقط ما يقدم على الخشبة التقليدية، فيمكن تقديم العروض في جراج سيارات أو داخل المترو، أو فوق سطح، أو في حديقة عامة وغيرها.
وقد ظهرت في أوروبا و أمريكا في القرن العشرين كثير من الأشكال الجديدة للمسرح في أعقاب الاجتهادات التي لجأ إليها المخرجون لإيجاد حلول وسطى، كامتداد خشبة المسرح لتكون ملاصقة لجلوس المتفرجين لتحقيق الحميمية التي افتقدها المسرح زمنا منذ عصور ازدهاره.
وتوالت الأبنية الحديثة بحيث صار كل منها يتبع تقليدا أصيلا في المسرح .. ومن هذه المسارح أيضا ما بني على أساس تحقيق المرونة الكافية كي يتكيف ومسرحيات الزمن الماضي وأساليب عصرها.
«وثمة شكل مميز للمسرح شائع الاستخدام حاليا وهو «مسرح الدفع المحوري» ويسمى أيضا المسرح المفتوح أو مسرح المنصة ذات الأبعاد الثلاثة بمعنى أن خشبته لا يحدها إطار مسرح العلبة أما الجمهور فيجلس على ثلاثة أبعاد للخشبة .. وهذا المسرح الأخير قد يكون ذا بعد واحد هو فتحة المسرح الأمامية دون إطار.
وثمة شكل آخر من العمارة المسرحية الجديدة بدأ بسيطا في الثلاثينيات هو مسرح (الحلبة) وقد ازداد ثراء بتجهيزه بأحدث الطرز المعمارية والفنية»(1).
والمسرح المعاصر يشكل انفتاحا فنيا وجماهيريا تمثل في مخرجين عباقرة أمثال «جرتوفسكي» .. وما أحدثه جرتوفسكي في المسرح أثمر كثيرا بين الأوساط الفنية في العالم.. ولا ينبغي بحال أن نغفل ما قدمه هذا العبقري لفناني عصرنا .. ففي أعمال جرتوفسكي مواجهة حاسمة ضد المسرح البرجوازي أو ما سبق أن أسماه «ميرهولد» بالمسرح الاحتفالي – مسرح غايته المتعة فحسب.
ولا يرجع السبب في اللجوء إلى الفقر المادي في المسرح إلى اتجاهات جمالية معينة، ففي منتصف الستينيات ظهرت رغبة في البحث عن المتفرج الحقيقي أينما كان خاصة أن هذا المتفرج قد عزف عن دخول الأماكن المخصصة تقليديا للعروض المسرحية.
وقد عضد من تلك الرغبة ظهور فرق تناضل من أجل إثبات وجودها ولا تملك سوى روح الكفاح، وعائدة بالمسرح إلى العرض على المنصات في الشارع بما يستلزمه ذلك من وجود نسق رمزي.(2)
في الثلث الأول من القرن العشرين بدأت في ألمانيا ثورة شاملة ضد فكرة المسرح التقليدي، فتم تنفيذ عدد كبير من مشروعات المسرح غير التقليدي، وتم ذلك «من خلال البحث عن جوهر المسرح الفني، لا في الابتكارات التقنية، ولا في هذه الخدع أو تلك، ولا في هذه المعدات أو غيرها، وإنما في حل هذه المشكلة تحديدا، المتعلقة بالبنية الداخلية الخالصة التي يمكن أن تسمح للفنون الجميلة أن تضع أفضل الأطر للعمل المسرحي للفنان، أو توفير أفضل الظروف لإدراك المشاهد»(3)
وقد أطلق المخرج الألماني «فوكس» على المسرح التقليدي اسم ة»صندوق التصوير المسرحي»‘ معتبرا أنه قد استنفد إمكانياته الفنية‘ ومن ثم لم يعد مفيدا للمسرح الدرامي المعاصر».
وضع فوكس مفهوم «الشكل البارز»‘ «الخشبة البارزة»‘ أساسا لفكرته المعمارية عن المسرح‘ وهو المفهوم الذي تحدث عنه المعماري شينكيل في مطلع القرن. يرى فوكس أن الممثلين في أثناء أدائهم للعمل المسرحي يحرصون دائما على أن يكونوا قريبين من الأضواء الأمامية لخشبة المسرح، كما أنهم يصطفون دائما بمحاذاتها، مكونين شكلا بارزا. وهنا يطرح سؤال حول ما إذا كان من الضروري الوقوف ضد رغبة الممثل في الاقتراب من الجمهور، تاركا وراءه الديكورات التي صممها الفنان، لعل الأمر هو عكس ذلك، فيكون من الضروري عندئذ موائمة هذه الرغبة لصالح خشبة المسرح ذاتها، وكذلك لصالح مقدمتها ولصالح الإضاءة فيها، بعد أن يتم تجهيز الخشبة المعدة لميزانسين بارز يكون بالإضافة إلى ذلك مؤثرا على نحو كبير:» فكلما زاد عدد الممثلين الذين يقدمون أدوارهم وقد اصطفوا على سطح واحد، كان أداؤهم أكثر قوة بوصفهم شيئا ما مترابطا».(4)
بعد ذلك جاء المعماريان الفرنسيان الأخوان جوستاف وأوجست بيرية عام 1925، فقاما ببناء خشبة مسرح خالية من الديكور، ويعد «أوجست بيريه» واحدا من مؤسسي العمارة الحديثة، لكونه نجح في تحرير العمارة من النزعة إلى الضخامة الثقيلة بفضل الشجاعة واستخدام أشكال إنشائية غير متوقعة تماما.
«رأى بيريه المسرح المعروف بالمسرح ذي الأقواس الثلاثة، والمعروف حتى الآن باسم الخشبة ذات البوابة الثلاثية حلا لمشكلة اختصار الوقت اللازم لعملية تبديل الديكور بين المشاهد المسرحية.
في هذا المسرح تتصل الخشبة بقاعة العرض لا بقوس واحد، وإنما بثلاثة أقواس، كل قوس مجهز بستارة منفصلة، وهكذا تتكون لدينا ثلاث خشبات مسرحية مستقلة يمكن أن تدور فوقها أحداث العمل المسرحي».(5)
وفي نهاية العشرينيات جاء «جربيوس» بمشروع مسرحي أسماه «الخشبة الشاملة» التي تعود فكرته إلى المخرج «إيرفين بيسكاتور» ، وفكرته كانت تقوم على أن «هدف المسرح ليس تقييم العالم جماليا، وإنما الرغبة في تغييره، وسوف يتم تحقيق هذا الهدف، إذا نجح مائة من كل ألف من المشاهدين من المشاهدين، الذين يأتون إ»لى مسرحنا كل يوم، أن يصلوا إلى التفكير الواعي في النظام الذي يعيشون فيه».(6)
وكان بيسكاتور أول مخرج مسرحي يدخل في العمل المسرحي عروضا لمشاهد سينمائية، وقد اعتبر أن التقنية السينمائية هي وسيلة لتنظيم الحدث المسرحي المتواصل، وقد أشرك عدد من عمال المسرح في بعض العروض.، وقد سعى «بيسكاتور» من خلال توظيف المشاهد السينمائية إلى تفجير الفضاء المحدود لمسرح العلبة، وخلق البعد الرابع ذي الكواليس الحية، وكانت السينما – في تصوره – هي الكواليس الحية. فقد ساعدت الأحداث المعروضة على شاشات السينما على توسيع مغزى الصراع الدرامي.
أما من ناحية المعمار المسرحي ل «المسرح الشامل» وفق تصور المعماري «جريبوس»» أصبحت صالة الجمهور وكأنها المكان الرئيسي للأداء التمثيلي، ومن ثم فقد جهزت بقرص دوار يوجد عليه جزء من الصالة المدرجة إلى جانب خشبة مستديرة صاعدة – هابطة – ومن ناحية البهو، يضم هذا القرص جزءا تابتا من الصالة المدرجة، أما صفوف المقاعد التي في الجزء الثابت فهي موجهة باتجاه خشبة المسرح.(7)
إن أشكال الفضاء المعماري لمسرح جروبيوس تستدعي على نحو لإرادي- فكرة النظام الكوني، ففضاء القاعة، الذي يتخذ شكلا كرويا بيضاويا، وحركة الأرضيات في مدار الردهة الدائرية، يعطيان صورة للكون.
ومن هنا يمكننا أن نقول: إن كثيرا من التصميمات المعمارية لأشكال المسارح التجريبية توفر كثيرا من الجانب المادي في الديكور والسينوعرافيا والإضاءة، لاعتمادها على فكرة «المسرح الفقير».
الهوامش:
1- د. أحمد زكي: اتجاهات المسرح المعاصر – الهيئة المصرية العامة للكتاب –القاهرة 1996 – ص15.
2- جون دوفينيو وجون لاجوت: المسرح المعاصر ثقافة وثقافة مضادة –ترجمة نورا أمين – مركز اللغات والترجمة – أكاديمية الفنون القاهرة،ص 193.
3- فاديم بازنوف: عمارة المسرح في القرن العشرين – ترجمة د.أنور إبراهيم – مطبوعات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي؛ ص71.
4-فاديم بازنوف: مرجع سابق ص72.
5-مرجع سابق ص80.
6- إيروين بيسكاتور: مسرح المعاصرة والمستقبل – مجلة المسرح المعاصر- العدد 5، ص100.
7- فاديم بازانوف: مرجع سابق ص127.