الدنيا على كف عفريت!!

الدنيا على كف عفريت!!

العدد 886 صدر بتاريخ 19أغسطس2024

بدأت الصحف في أوائل أبريل 1937 تُعلن عن مسرحية الريحاني الجديدة «الدنيا على كف عفريت»، كونها استعراضية في خمسة فصول من تأليف بديع خيري ونجيب الريحاني، والألحان للشيخ زكريا أحمد. ووضع الريحاني آمالاً كبيرة في نجاح المسرحية، وصلت إلى حد التفكير في استئجار مسارح صيفية لعرضها مثل مسرح وسينما الليدو الصيفى بالجيزة، ومسرح مدينة رمسيس بإمبابة. 
عُرضت المسرحية بمسرح ريتس، وكتب عنها أحد النقاد مقالة ممهورة بتوقيع حرفه الأول «ع» في مجلة «الصباح»، قال فيها: ترفع الستار عن صورة ناطقة من حياة الريف الجميلة في قرية كفر البلاص أمام «دوار العمدة». وعمدة كفر البلاص هو كشكش بك طبعاً. في هذا الدوار تنعقد محكمة العمودية تحت رئاسة العمدة لتنظر فيما يقدم إليها من شکايات ومظالم، فنرى كشكش بك رجلاً کسولاً خاملاً كما يتحدث عنه «زعرب» سكرتيره الخاص، لكن له ضميراً فهو مخلص لواجبه ولا يقبل الرشوة من بائع أو ظالم. أو إغراء من سيدة جميلة تريد أن تستغل جمالها في الوصول إلى أغراضها ومآربها ولهذا كانت آراؤه تختلف دائماً عن آراء عضو اليمين وعضو اليسار حتى في نهاية الجلسة عند حضور رسول يقول بأن «مندور الصرماتي» انتقل إلى رحمة الله وترك ثروة يقال إنها أربعون ألفاً من الجنيهات، يترك عضو اليمين الجلسة لعله يجد قرابة بينه وبين «مندور الصرماتي». وعضو اليسار هو الآخر يسرع فيبحث وراء مثل هذا المطمع، حتى أرمانيوس الباشكاتب الذي كان يتظاهر بقليل من الطيبة نجده يسرع ليقول إن «الصرماتي» كان نسيباً له. وهكذا نجد الكل يسعى وراء المال. والمال هو قائد الجميع. أما كشكش بك فقد وجد نفسه في منصة الحكم وحيداً بعد أن انفض الجميع من حوله، فبحث عما إذا كان هناك ورثة حقيقيون لعم مندور حتى علم بأن له فتاة تدعى «تهاني» وأنهـا تقيم في مصر. فتطوع بأن يترك كفر البلاص ويقصد مصر ولا غرض له إلا البحث عن هذه الفتاة ليزف إليها البشرى ولتقف على الحقيقة قبل أن يسطو غيرها على مال أبيها دون أن يرجو من هذا كله جزاء ولا شكورا، ولقد عانى كشكش بك في الوصول إليها كل صعب .. وذهب إلى المنزل الذي تقيم فيه الفتاة، وهو من المنازل «إياها» التي زينت بأفخر الأثاث والرياش وبه فتيات كثيرات كل منهن لها قصة، وكل منهن لا تعلم ما هو الشرف!! في هذا المنزل يدخل كشكش بك، وينفق ما ينفقه زبون «سُقع»، حتى يقول لهم: “أنا عايز تهاني»، وتحضر إليه تهاني على أنه «زبون» وتستغفله ولا يكاد يسألها عن اسم أبيها وتقول مندور، ويفاجئها بأنه ترك لها أربعين ألفاً من الجنيهات حتى تضرب بيدها على صدرها قائلة: “طيب والمجوهرات والمصاغ يا حرامية يا غشاشين فين راحوا .. حقيقة هذه دنيا أصبحت على كف عفريت .. هذا هو موضوع الرواية. 
ويستكمل الناقد موضوعه قائلاً: ولا تنظر إلى الموضوع كقصة لتقول إن هذه هي الرواية، وهذه مفاجآتها وهذه هي حوادثها، فالروايات الاستعراضية يجب أن يكون الاتجاه إلى موضوعها اتجاهاً خاصاً. ولكن بالرواية نفسها مفاجآت مسرحية منقطعة النظير ومشاهد غريبة تظهر على المسرح للمرة الأولى. ولنذكر منها على سبيل المثال بعض المشاهد: رجل أجنبي يساوم كشكش بك في بيعة قطن فيعرض ثمناً. ويجد كشكش بك أن هذا المبلغ غير مقبول فيرفض، ولكن الأجنبي يريد أن يصل إلى شراء القطن بهذا الثمن البخس فماذا يفعل؟ .. كانت الوسيلة الوحيدة التي يسيطر بها على عقل كشكش بك الفلاح إحضار مدموازيل حسناء تشاغله بالعين والحاجب! ولكن كشكش بك لم يُبلف!! ومع ذلك فقليل من عينة کشکش بك ممن لا يخدع بهذه الوسيلة! وهكذا يستغل الأجانب سذاجة الفلاح في - الضحك على الذقون - وقد قام بتمثيل الأجنبي «فيليب كمال»، والمدموازيل الآنسة «إيزابيل». ويوجد مشهد – خناق وتشليق - طريف جداً لم يظهر مثله من قبل إذ يمثل لنا «حارة» يسير فيها «واحد شامي» فتدلق عليه «سيدة» من الشباك «مية فراخ» .. فيشتبكان فتطل من النافذة التي أمامها سيدة أخرى وتساعد زميلتها في التشليق ثم ثالثة ثم رابعة .. فكنا نشاهد أربع سيدات كل منهن في الشباك يعطين صورة مما يحدث في الأحياء البلدية تماماً. وبطلات هذا المشهد: ماري منيب وشفيقة جبران ومرجريت صوفير وسيدة ثابت، وقد اثبتن إنهن «شلق» من الدرجة الأولى ونلن نجاحاً كبيراً. ومن المشاهد أيضاً مشهد عن المشاكل التي يتعرض لها مخرج السينما دائماً، حيث كان مخرج سينمائي يلتقط مشهداً من رواية «القطط السوداء»، وكانت الممثلة «خديجة عمر» تقوم بدورها أمام ممثل عصبي، خلع ذقنه ورماها في وجه المخرج وأضرب عن تمثيل الدور فحدث ارتباك .. وبالمصادفة كان «كشكش بك» سائراً في الطريق وكان الشبه قريباً بينه وبين الممثل الزعلان فأمسك به المخرج ليمثل بدلاً منه، وكانت بطلة هذا المشهد زينات صدقي، ولا توجد أية نسبة بين زينات في هذه الرواية وبين أدوارها السابقة إذ أظهرت اتقاناً فائقاً وبراعة مدهشة جديرة بالتهنئة والإعجاب. أما المخرج فقد مثله «محمد حسن الديب» وكان يساعده «فيلاديمير»، وإن كان الديب قد نجح في دوره إلا أن فيلاديمير أخذ «سوكسيه» أكثر. وهناك أيضاً مشهد يمثل السوق الخيرية وما يحدث فيها من نصب واحتيال مملوء بالأوانس والسيدات وكل منهن تسعى للمال سواء بالسبل المشروعة أو غير المشروعة. اشترك فيه جميع أفراد الفرقة. وهناك مشاهد كثيرة جداً مثيرة للإعجاب تستعرض حياتنا العادية بين النقد والتهذيب متمشية مع النكتة السلسة والمفاجأة التي لا تخطر على البال.
انتقل الناقد إلى مرحلة النقد في مقالته، قائلاً: بعد أن عددنا المشاهد الجميلة في الرواية نجيز لأنفسنا أن ننقد الرواية في بعض نواحيها تأليفاً وإخراجاً. فمثلاً مرجريت صوفير رآها الجمهور تطل من الشباك ثم لم يشاهدها الجمهور تخرج من الباب الموجود تحت الشباك، بل رآها تخرج من الحارة، وهذا غير معقول! ثم شخصية بشارة ليس من الضروري أن تكون شخصية شامي، فقد رأيناه في شخصيات كثيرة ومضحكة فليس هناك ما يمنع من أن تكون شخصيته مصري لا سيما وأن شخصيته ليست متصلة بأية ناحية تتفق مع الدور الذي أسند إليه. ثم ختام الرواية كان يجب أن يكون عندما قال كشكش بك “حقيقة يا ناس الدنيا على كف عفريت”، فالزيادة التي جاءت بعد ذلك جعلت الختام مفككا! على أننا نريد أن نحقق هنا أن المؤلفين عنيا بالفصل الثاني أكثر من الفصل الأول والفصل الثالث.
وصل الناقد في مقالته إلى التمثيل، فقال: بالنسبة للأدوار الرئيسية، ماذا نقول عن الأستاذ نجيب الريحاني رجل يظهر على المسرح ويمثل فيضحك الثكلى. وهو مع هذا يلقي دروس النقد للمجتمع من فوق المنبر الهزلي في قوة وإبداع. ولقد كان كشكش بك في رواية «الدنيا على كف عفريت» معبود المتفرجين، وإذا أضفنا مجهود نجيب في شخصيته إلى جانب مجهوده في تعليم الممثلين والممثلات لأدوارهم عرفنا أن شخصيته لا نظير لها في المسرح وكفى. و«ميمي وزوزو شكيب» هما في هذه الرواية ممثلتان مجيدتان ومنولجست نابغتان نجحت كل منهما نجاحاً مدهشاً. ألقتا المنولوجات كأنهما منولجست من سنوات وهذا يرجع إلى أنهما من قبل هذه الرواية كانتا حريصتين كل الحرص على التمرين والدرس على يد ملحن خاص بهما فجاءت هذه النتيجة .. ولكن حذار من استغلال هذه المواهب في غير المسرح فهذا النوع الأرستقراطي لا ينفع في صالات التهريج! أما «عبد اللطيف جمجوم وبشارة واكيم» فكانا صديقين في الرواية لا أكثر ولا أقل، لذلك لم تكن لدينا فرصة لنشاهد مواهبهما التي اعتدنا أن نراها، اللهم إلا بشارة فقد كان دوره أكثر بروزاً وأكثر نجاح. و«محمد كمال المصري» كان عضو اليسار «حلواس» في المحكمة و«العسكري» وكان ظريفاً للنهاية. و«عبد الفتاح القصري» كان يمثل عضو اليمين في المحكمة ويمثل «طحال» في رواية السينما فنجح نجاحاً كبيراً، ولا ندري لماذا حرمنا منه في دور «بلدي» من أدواره المدهشة! و«محمد مصطفى» أحسن دور عهد إليه به في فرقة الريحاني هو دور «أرمانيوس» باشكاتب المحكمة الذي كان يلقي محاضر الجلسة وجداولها بلغة الكتاتيب، وجعل الجمهور يتبعه ويعجب به فنهنئه. أما «سيد سليمان» فكان ظريفاً في دور «المجنون المغني» في البيت إياه .. ولكننا لا نوافق إطلاقاً على أن يلقي منولوجاً قديماً جداً في رواية جديدة كهذه .. وأغرب من هذا ما علمناه من أن الأستاذ بديع خيري وضع له منولوجاً جديداً خاصاً للرواية فرفض إلقاءة. و«عبد اللطيف المصري» قام بدور «زعرب»، فأتيحت له فرصة في هذا الدور لم تتح له في أدواره الصغيرة التي كان يظهر فيها من قبل ولم يكن فيها مجال ليظهر هذا النبوغ وهذا الاتقان وهو ممثل قديم وله تاريخ في المسرح حدثنا عنه الأستاذ بديع خيري طويلاً.
وبعد حديث الناقد عن الأدوار الأساسية في التمثيل، تحدث عن الأدوار الثانوية، قائلاً: وقام بباقي الأدوار الثانوية: حسن كامل، ومحمد العراقي، وأحمد جمال، وسلمي جمجوم، وسارة برنار، وقد نجحوا جميعاً. أما الألحان فكانت كلها ناجحة ومثيرة للإعجاب لا سيما وأنها شرقية صميمة .. فليهنأ الأستاذ زكريا أحمد بهذا النجاح. وخير ما كنا نشاهده أثناء الرقصات الأفرنكية إذا كانت تكسب المشهد روعة وجمالاً. وأخيراً لا يسعنا إلا أن نثني على الأستاذين الريحاني وبديع كمؤلفين لهذه الرواية، وعلى الأستاذ الريحاني بمفرده كمخرج وكممثل.
ونشرت مجلة «المصور» مقالة قصيرة عن العرض، قالت فيها: وأخيراً أخرجت فرقة الريحاني هذه المسرحية الاستعراضية الكبرى، والتي كانت تختمر فكرتها منذ عامين في رأس الأستاذين الريحاني وبديع خيري. ولقد أقبل الجمهور على مشاهدتها إقبالاً منقطع النظير. ولم تمنع شدة حرارة الجو في الأسبوع الماضي من تدفق الجمهور على مسرح ريتز الشتوي الذي تعمل عليه هذه الفرقة. وينم اسم الرواية على موضوعها، فهي خليط من المناظر والمشاهد الاستعراضية ومجموعة من المفارقات الشاذة المثيرة للضحك والدهشة معاً. بمعنى أن مؤلفيها قصدا من وضع هذا الموضوع أن يثبتا للجمهور بأن الدنيا - والدنيا هنا هي القاهرة - قد أصبحت على كف عفريت. فموضوع الرواية يتلخص في أن أحد عمد الأقاليم - كشكش بك عمدة كفر البلاص - ورئيس محكمة الخط بهذه القرية - وقد انقرض عهد هذه المحاكم منذ سنوات - قرر الانتقال من قريته إلى القاهرة لتحقيق العدالة في قضية عرضت عليه في أثناء رئاسته لإحدى جلسات هذه المحكمة. فيذهب إلى القاهرة للبحث عن فتاة فقيرة من فتيات القرية هبطت عليها الثروة فجأة بوفاة والدها. إلا أنه يحدث في أثناء سعي «كشكش بك» للاهتداء إلى الفتاة في القاهرة أن تقابله عجائب المدنية الحديثة، وشواذ المخلوقات بين خفايا القاهرة في عام 1937 فيكون موقفه مثيراً للضحك. وأخيراً بعد أن يصل بعد عناء إلى مكان الفتاة ويبشرها بالثروة، تكافئه على هذا الصنيع الجميل بتوجيه تهمة السرقة والنصب إليه. فموضوع الرواية ينحصر في المثل “خيراً تفعل شراً تلقى”! إلا أن المناظر الاستعراضية العديدة الطويلة، وكذا الألحان الكثيرة التي تخللت هذه المناظر، ساعدت على إطالة وقت تمثيل الرواية. وإن كان يراها البعض إطالة مسلية ممتعة إلا إنّا كنا نرى الاقتصاد فيها بعض الشيء تفادياً من حشر بعض المناظر حشراً مقصوداً بمناسبة ومن دون مناسبة. أما الإخراج، فقد وفق الأستاذ الريحاني مخرج هذه الرواية في عملية الإخراج الفني توفيقاً ظاهراً، كما تفنن في إعطاء فكرة المناظر العديدة الرائعة اللازمة لمشاهد الرواية تفنناً ناجحاً. فقد لمسنا البذخ والاتقان في إعدادها. وكذلك كان الحال في تنظيم الإضاءة والأثاث وفي اختيار الملابس. ولا تفوتنا الإشارة إلى الدقة والنظام في الإدارة الفنية للمسرح. فقد أثبت «فلاديمير» مدير مسرح الفرقة جدارته وحزمه في الإدارة وفي إعداد المناظر وفي تنظيم الإضاءة والحركة المستمرة التي استلزمتها هذه المسرحية الاستعراضية. وبالنسبة للتمثيل، فقد عاد إلينا الأستاذ الريحاني في شخصية «كشكش بك» بعد أن طلقها أعواماً طويلة. ولسنا اليوم في حاجة للإشارة إلى تمكنه ونجاحه في إتقان إخراج هذه الشخصية الطريفة التي مهدت له سبيل المجد منذ بدء حياته المسرحية. وها هو يعيد إلينا هذه الذكريات ويوفق توفيقاً بعيداً. ولا يسعنا إلا الإعجاب بالشقيقتين ميمي وزوزو شكيب، فقد بذلتا مجهوداً ظاهراً في هذه الرواية، يفوق كثيراً مجهودهما في الروايات السابقة، إذ وفقتا في إخراج شخصيتي دورهما، وأجادتا بنوع خاص في إلقاء المقطوعات الغنائية وتأدية الألحان التي وضعت لهما. كما نسجل لهما سلامة ذوقهما وحسن اختيارهما للفساتين الثمينة العديدة التي أعدتاها لهذه الرواية. ويمكن القول إجمالاً إنهما تقدمتا تقدماً ملموساً بعد هذا التوفيق. ولقد اشترك في إخراج بقية أدوار الرواية وفي نجاحها جميع أفراد فرقة الريحاني مع من انضم إليهم من العناصر الفنية الجديدة. ولكنا نخص بالتقدير والثناء الأساتذة بشارة واكيم وجمجوم وشرفنطح وزعرب والقصري وسيد سليمان وفخر الدين. والفنانات زينات صدقي وماري منيب ومرجريت وشفيقة جبران. وقد وضع الموسيقى والألحان الأستاذ زكريا أحمد فأجاد في تصوير مواقف الرواية تصويراً موسيقياً بديعاً. كما وفق في وضع الألحان فأحسن التعبير عن معنى المقطوعات والديالوجات التي تخللت مناظر الرواية. أما فرقة الرقص الأجنبية فلم تأت إلينا بجديد. ونعتقد أن وجودها أو بعدها عن الرواية - إذا استمرت على تقديم هذه الرقصات - لا يترك فراغاً محسوساً لدى الجمهور. كلمة أخيرة: لقد أخذنا مراراً قبل الآن على الأستاذ الريحاني إطالته مدة التمثيل مما يسبب تعباً ومشقة بالغة لجمهور مسرحه الذي يقاسي الأمرين - في ساعة متأخرة من الليل - بعد انقطاع جميع وسائل الانتقال. وها نحن نعود اليوم إلى إبداء الملاحظة نفسها فإنه يتسبب الآن في إبقاء الجمهور بمسرحه حتى منتصف الساعة الثانية صباحاً. ولعله يعمل كما أشرنا على الاقتصاد في بعض المناظر الاستعراضية التي لا تؤثر كثيراً في روايته والتي تخفف وتروّح فضلاً عن أنها ممكن الاستغناء عنها.


سيد علي إسماعيل