العدد 888 صدر بتاريخ 2سبتمبر2024
لكل أمر في الحياة ظاهر يعرض أمام الناس ويري بالعين وباطن خفي لا يعلم عنه الناس، كذلك النفس البشرية أو الذات الإنسانية فهي تحمل في ظاهرها ملامح معينه قد لا تمثل الباطن الحقيقي لها وهنا يكمن الخضوع لمفهوم الهيمنة السلطوية والتي تتمثل من خلال الأنا الظاهرية الزائفة التي تمتثل للقانون وقيم المجتمع بينما الآخر تمثله الذات نفسها وهي الرغبة الدفينة الباطنية غير القادرة علي مواجهة القانون والسلطة، صراع الأنا والآخر يكمن داخل نفس بشرية واحدة وإذا حدثت موازنة بينهما وانسجام نجد ما نسميه تسوية في هذه الحالة يكون ظاهر النفس البشرية مثل باطنها وتصبح شفافة مثل الماسة.
اعتمد النص المسرحي للكاتب السوري سعد الله ونوس “طقوس الإشارات والتحولات” علي هذه الفكرة، والتي تدور أحداثها عن خلاف نشأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ولاية الشام التابعة للدولة العثمانية (تم التنويه عن تلك الحقائق بمقدمة النص واستشهاداً بالمؤرخ فخر البارودي)، وذلك في عهد الوالي ناشد راشد باشا، بين مفتي الديار ونقيب الأشراف عبدالله الذي قبض عليه متلبساً مع أحدي الغانيات، بتحريض من المفتي نفسه بعد ما قام بالتبليغ عنه الانتقام منه -في المسرحية قام المفتي بمساعدة نقيب الأشراف من أجل الحفاظ علي هيبة المنصب بالرغم من خلافهما، وكان مقدم الدرك هو من دفع ضريبة تلك المكيدة- وكانت تلك المكيدة هي سبب تحول عبدالله من الفساد الي طريق الهداية مرة أخري، كما أن معظم الشخصيات تحولت إلي مصائرها بعد مرورها بمكائد وأصبح لكل منهم طريق مختلف منهم من قدر علي التسوية وأصبح ظاهرة مثل باطنه كالماسة والعفصة ومنهم من لم يقدر وسيطر باطنه فقط أو ظاهره فقط.
العرض المسرحي “طقوس الإشارات والتحولات» من ضمن العروض التي شاركت بالمهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السابعة عشر، هي من إنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة – الإدارة العامة لفرقة نادي مسرح السلام التابع لإقليم القاهرة وشمال الصعيد، ذلك النص المسرحي قدم علي خشبة المسرح العديد من المرات ب رؤي إخراجية مختلفة مما يجعل عمل المخرج صعب لكي يختلف عن من سبقوه وينافسهم في رؤياهم الإخراجية، المخرج أحمد ذكي قدم النص بنفس رؤية الكاتب الدرامية دون تغير ظاهر لكنه أعتمد علي عناصر العرض المسرحي ک ( الإضاءة، الحركة المعبرة، الموسيقي، الملابس، الديكور، الأداء التمثيلي،...)، ولكل من تلك العناصر دلالته ورمزه فمثلا عنصر الديكور قام بتصميمه عبدالله خالد، عبر عن الحالة التاريخية والفترة الزمنية للعرض كما أنه استخدم أطر خشبية مناسبة لميزانية قصور الثقافة وتعامل معها بذكاء فكانت الخيوط المتوازية طولياً بداخل الإطار الخشبي تمثل السجن الحقيقي الذي سجن فيه عبدالله والغانية، وفي موضع آخر يكون سجناً للذات التي لا تستطيع مواجهة القانون كما في حالة المفتي، ويتحول الإطار نفسه الي شباك في منزل الغانيات للمحادثات، كما استخدم الأرابيسك لعمل أبواب، والسلم ليمثل سلم السلطة والذي تناوب في اعتلائه المفتي الممثل للسلطة الدينية ومؤمنة عندما تحولت إلي الماسة فكانت هي المسيطرة علي المشهد بعدما وقع المفتي في حبها وعبدالله في نهاية المسرحية بعدما توحد مع الذات الربانية عبر الكلمات الصوفية «أنا هو وهو أنا، قال ماذا تريد؟ قولت اريد أن لا اريد”، كما استخدم قطعة من القماش بيضاء موضوعه علي الأطر ليستخدمها في إسقاط الظل عبر إسقاط الضوء عليها ليعيد بها أحداث من الماضي ک ذكريات ورده والإيحاء بأفعال لا يصح تمثيلها علي المسرح ک العلاقة المحرمة بين العفصة وعباس وبين وردة الطفلة والشيخ .
كما أن تصميم الملابس لنفس المصمم والتي عبرت عن الحالة التي يتطلبها العرض والتي وجهت إليه رؤية المخرج في الحفاظ علي الجو الصوفي، استخدم اللون الأخضر للدلالة علي التدين والأسود للدلالة علي فساد السلطة كما استخدم الأبيض لمؤمنة للدلالة على النقاء والعفة واللون الأحمر استخدمه لإبراز الغريزة الجنسية سواء عن طريق الماسة بعدما أصبحت رمز الشهوة والإغراء أو من خلال العفصة للدلالة علي الشهوة الشاذة، كما جاءت ملابس وردة معبرة عن اسمها وشخصيتها بارتدائها فستان أسود ملئ بالورد الاحمر وتربط علي وسطها قماشة حمراء للدلالة علي شخصيتها كغانية، كما اهتم بإظهار عبدالله بالملابس البيضاء مع فرقة المولية الصوفية للدلالة علي توبته ودخوله في جو الروحانيات .
بالنظر للإضاءة التي صممها عبدالعزيز بدري فلقد ساعدت مع عنصر الديكور علي الإبهار ونجاح توصيل الفكرة للمشاهد ف استخدام الإضاءة الحمراء أثناء مواقف الغدر والصفراء كبؤرة للتأكيد علي كل شخصية والازلام والاسقاط علي القماش الأبيض للمساعدة علي ظهور الخيال، والزرقاء أيضا وتجمع الثلاثة معاً أثناء تعقد الأزمة.
كل تلك العناصر بجانب الدراما الحركية التي تفاعل معها الجمهور لنجاحها وذلك بفضل مصمم الكيروجراف محمد سامح الذي صمم الرقصات والاستعراضات مستعيناً بفرقة المولية الصوفية التي أبهرت الجمهور، ذلك العنصر نجح بفضل الأشعار والموسيقي والغناء التي قام بها كل من إبراهيم محمد وفؤاد هارون والتي عبرت عن حالة المشهد، علي الرغم من أن لدي تحفظاً علي وجود الفرقة الموسيقية حية ولكن بصالة الجمهور وليس علي خشبة المسرح مما شتت بعض المشاهدين أثناء العزف بالرغم من الجو الروحاني للرقصات الصوفية.
أما عن اللغة فكانت بالعربية الفصحي التي اهتم بها مصح اللغة محمد أسامة، ولقد نجح كل ممثلين العرض في استخدام اللغة ولكن لدي تحفظاً بسيطا علي شخصية وردة التي قامت بدورها دينا حجاب فلقد أخفقت بعض الشي في استخدام بعض كلمات اللغة نحوياً، ولكن الأداء التمثيلي لها كان متميزاً وكذلك باقي فريق التمثيل مثل : شخصية سمسم التي برع فيها كيرلس سامي بتمثيله دور المثلي وكان منفرداً بتلك الشخصية، كما امتعنا عبدالله خالد بتمثيل دور نقيب الاشراف وأظهر لنا توبته بتعبيرات جسدية وتعبيرات وجه معبرة كما نجح كل من : محمد رضا في دور صفوان وأحمد سمير بدور العفصة وعمر حسين بدور المفتي ونعمة طلعت بدور مؤمنة/الماسة، وغيرهم من أعضاء الفرقة .
لقد وصلت إلينا رؤية المخرج التي اقترنت برؤية الكاتب الكبير سعد الله من خلال عناصر العرض المتكاملة والتي نجح المخرج في جعلها متضافرة لإنجاح العرض وخروجه بتلك الصورة وتوجيهه للجانب الروحاني الصوفي والتأكيد عليه .
بالنهاية نجد أن الرغبة عندما تقف في مواجهة القانون يكون الخاسر الذات إذا امتثلت النفس البشرية للواجب والسلطة فيختفي الباطن ويأكل من جسد الشخصية ويبقي الظاهر هو المسيطر وذلك من أجل الحفاظ علي السلطة والواجب والقيم حتي وإن لم تكن تلك هي الرغبة الحقيقية التي يريدها الفرد، ولكن عندما تتمرد الذات علي القانون فينتج عن ذلك خروج الباطن وانتحار الظاهر وتنتصر الذات في هذه الحالة ولكن سرعان ما ينهار الفرد في ظل سيطرة السلطة والتقاليد الاجتماعية كما حدث في حالة العفصة والماسة الذي أصبح الظاهر لديهم مثل الباطن والنتيجة كانت موت العفصة مستخدماً المشنقة لعدم قدرته علي مواجهة المجتمع، وقتل الماسة علي يد أخيها صفوان لأنها أصبحت رمز الفساد وهنا كان انتصار الذات ظاهرياً فقط في مواجهة القانون الذي انتصر فعلياً بقتلهم بسبب القيم المجتمعية والقانون، ولكن في حالة عبدالله التسوية تمت للخير ورجع عن طريق الفساد واتجه الي التوبة والروحانيات وذلك من خلال الجو الصوفي الذي اعتمد عليه النص والعرض، وكما ذكرنا لم يخلو العرض من إظهار الجانب المثلي الشاذ والذي أراد به الكاتب أن يظهر جانب آخر يواجه السلطة ويعارض القوانين والقيم الاجتماعية، ليؤكد علي صراع الذات و القانون.