«حتى يطير الدخان».. الأحلام والإدمان

«حتى يطير الدخان».. الأحلام والإدمان

العدد 888 صدر بتاريخ 2سبتمبر2024

عُرِضَ (حتى يطير الدخان) في المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن عروض الدورة السابعة عشرة من المهرجان القومي للمسرح المصري، دورة الفنانة «سميحة أيوب» والعرض من تأليف «فيصل رزق»، وإخراج وتمثيل «كريم أدريانو» عن نص (الدخان) للكاتب «ميخائيل رومان»
وتحكي احداث نص العرض عن الشاب «كريم» الذي يحب التمثيل ويحاول تحقيق أحلامه، لكن يوجه صعوبات تدفعه للانحراف عن المسار الصحيح، وتدفعه للإدمان لكن مع مرور الوقت يحدث  حدث يغير من مجرى حياته، ...... ما هذا الذي قد يحدث لهذا الشاب ويدفعه للتغير؟
في عرض (حتى يطير الدخان) قام المخرج بإنشاء عالمين مسرحيين، أولهما العالم الواقعي الذي يحكي احداث حياة «كريم» وعائلته، والآخر العالم الخيالي الذي بداخل عقله وقد برع «كريم» في إظهار الاختلاف بين العالمين من خلال استخدام عامل اللغة، و (اللهجة) حيث في يستخدم حياته اليومية العامية المصرية، أما في عالم خياله وأحلامه يستخدم اللغة العربية الفصحى حين يتخيل نفسه يقوم بتمثيل بعض الأدوار من أعمال فنية وأدبية مشهورة (دكتور فاوستوس) و (ليلى والمجنون).
تبدأ أحداث المسرحية على خشبة مسرح مكون من مستويين ، الأول مستوى غرفة «كريم» الذي تظهر ولعه وحبه للتمثيل من خلال بعض الملصقات لأفلام وفنانين مثل «عادل إمام»، والمستوى الثاني الذي يضم غرفة المعيشة ، موضحا أن هذه العائلة متوسطة الحال، وبنهايتها غرفة أخرى مرتبطة بها من خلال ردهة ضيقة ، وبمنتصف غرفة المعيشة  طاولة تجتمع عليها العائلة، وتحدث معظم الأحداث في هذه الغرفة.
يظهر لنا شخوص العرض وهم يعطون ظهورهم لنا ويبدأ كريم في إلقاء مونولوج طويل باللغة العربية الفصحى  مكون من عدة حوارات متداخلة من أفلام مختلفة مثل: (حتى لا يطير الدخان وسلام يا صاحبي)، ثم تهدأ الأحداث تدريجيًا وتختفي هذه الشخصيات وهنا نكتشف ان هذا كله محض خيال ليس ألا في عقل «كريم» نتيجة إدمانه المخدرات وتعاطيه لها في غرفته وقد استخدم في الديكور مولدات للدخان لإضفاء حالة ضبابية في غرفة «كريم»، وفي هذه الاثناء تبدأ الشخصيات في الظهور واحدا تلو الاخر
فيظهر شقيق «كريم» وهو طالب في السنة النهائية بكلية الطب ، وتظهر عليه ملامح الطالب النموذجي المجتهد ، يليه ظهور الأم التي يبدو عليها ملامح السن والتعب رغم ذلك هي مرتاحة البال وراضية بما كتبه الله لها ؛ طالما أنها تجد أولادها في صحة وسلامة، ثم تظهر «نيللي» زوجة «كريم» الفتاة المحبة لزوجها ورغم عدم إظهار «كريم» لها المحبة المتبادلة إلا انها تحاول فعل المستحيل من أجله، وبسبب ذلك تدعمها عائلة «كريم» وتحبها، وتعاملها على أنها فرد من العائلة، وسط ذلك تدخل «أمنية» شقيقة  «كريم» وهي حزينة، يائسة عائدة من عملها موظفة لمساعدة زوجها في مصاريف الحياة اليومية، ونكتشف أن المال  الذي ادخرته بصعوبة لشراء أجهزة منزلها أختفى من بطاقتها البنكية، وتبدو على ملامح «كريم» القلق ويخبرها بنبرة مترددة أنه اخذ المال ليحافظ عليه ؛ فتفرح «أمنية» وتسأل عن المال ليرد عليها «كريم» بنبرة باردة أنه سيعطيه لها لاحقاً  ! 
ننتقل لمشهد اخر في غرفة «كريم» عندما تسأل «أمنية» عن المال ، ليصدمها بقوله أنه لا يوجد وأنه استخدمه ليسدد مال «الديلر» وسوف يبحث عن فرصة عمل لتعويضها فتصعق من هول المفاجأة وتخبره أن هذا المال لشراء أجهزة بيتها وأنها دخلت عدة (جمعيات)، وعملت ليل نهار لتوفر هذا المال وفي هذه الاثناء يطرق باب المنزل زوج «أمنية» ومعه الكاسيت (الدي جي) مع موسيقى تصويرية باستخدام الأغاني الشبابية المبتذلة للإيحاء أن الأحداث تحدث في العصر الحالي والتي يريد أن يدلنا على أن تلك المواقف يمكن أن تحدث في أي منزل.
يخبر زوج «أمنية» الأم أنه مستعد ليذهب مع زوجته ليحضر (ثلاجة أحلامه)، بطريقة كوميدية لتسمع «أمنية» الأخبار وهي في منتهى القلق والخوف وتذهب لزوجها لتخبره أي عذر وفي هذه الاثناء يدخل «كريم» مرة أخرى في خيالاته، وتحاول الشقيقة  إيجاد أي عذر لإخفاء حقيقة عدم توفر المال ليشعر الزوج بالشك ويحاول معرفة ما يجري ليكتشف في الأخير أن «كريم» من اخذ المال ويبتسم ابتسامة ذات مغزى ثم تحاول «أمنية» معه لكن يستمر في الرفض إلى أن ينتهي الأمر بالطلاق، وفي هذا المشهد تم الاعتماد على عنصر الإضاءة لإضفاء حالة الصدمة بين «أمنية» وزوجها نتيجة الطلاق لأنه من دون الإضاءة في هذا المشهد لن يشعر المشاهد بجدية الموقف، أو يضع نفسه في حذاء هذه الشخصيات، تم الاعتماد على الإضاءة زرقاء اللون في غرفة «كريم» ليضفي طابع الحزن، اليأس، والاكتئاب أُثناء محاولته البحث عن دور صغير في أي عرض ليوفر المال الذي اخذه لشقيقته و تم اعتماد إظهار الإضاءة الزرقاء أيضا من خلال النافذة ليظهر أن الأحداث تتم في الليل.
 يتم إكمال المشهد في غرفة «كريم» بعد ذهاب زوج «أمنية» وهي ترى حالة أخيها السيئة وتخبره ساخرة أنها تريد أن تجرب ما يدخنه لتعرف ما يشعر لكن هو يستهزئ بها ويخبرها أن هذه (المخدرات) هي ما تدفعه ليواجه العالم حوله ويبدأ الحكاية عن أحداث من حياته وفي أثناء هذا تبدأ «أمنية» هي الأخرى في الغناء.
ويتم الاعتماد على المزج بين الإضاءتين الحمراء والزرقاء لتوضح حالة الجنون والحزن التي يشعر بها «كريم» ويقوم بتمثيل مقطع من نص (ليلى والمجنون) لصلاح عبد الصبور ويختتمه بمقولة «انفجروا وموتوا». 
في هذه الأثناء يظهر «الديلر» ويدعى أمام الأم أنه صديق «كريم» من أيام الطفولة، ليأخذه «كريم» على عجل إلى غرفته ويخبره «الديلر» أنه يريد ما تبقى من المال وإن لم يعطيه «كريم» المال سيحضر جماعته لهذا المنزل يحضروا المال بطريقتهم وبعد محاولات «كريم» المتعددة في تمديد المهلة، وفي النهاية يقبل ويحاول «كريم» الحصول أي مواد مخدرة منه ليعطيه الأخير كيس به مسحوق ابيض (الهيروين)، وتدخل الشقيقة  في هذه الأثناء لتصدم بما فعل «كريم» لتكون هنا سقطة البطل التي جعلته يدير ظهره لحلمه في التمثيل ويصبح مدمن للمواد المخدرة.
في المشهد التالي تأتي «نيللي» للاطمئنان على «كريم» لكنه كالمعتاد يعاملها بطريقة باردة نتيجة لإدمانه ويقوم بإهانتها وشدها من شعرها أمام عائلته لتصدم في الأخير في مشهد لا يخلو من اللحظات الحرجة وتخرج في صمت من المنزل ويحدث صراع بين «كريم» وأخيه نتيجة لما فعله «كريم» «لنيلي» وتحطيم احلامهم واحدا تلو الأخر، وتتدخل الأم ليصبح المشهد كأنه يحدث في كل بيت رغم وفاة الأب وتربية الأم المستقيمة والصحيحة لأولادها ليصبحوا متكاتفين معا ليس متضادين ومتحاربين، لتحدث السقطة الثانية للبطل درامياً وفعلياً نتيجة لمحاولة الشقيق الاعتذار لأخيه وتتصاعد الأحداث لدرجة دفع شقيق «لكريم» ليصاب (بانهيار عصبي) ويحاول الجميع تهدئة «كريم» من خلال ذكر كيف كان في الماضي وكيف بدأ التمثيل و بعد أن استعاد  صحته بدأ قلبه الذي اصبح اعمى من خلال دخان الإدمان يعود ليرى الأحلام مرة أخرى لكن يتم إطفاء وهج هذا الأمل مرة أخرى مع إطفاء أضواء المسرح للتحضير للمشهد التالي.
مع بداية المشهد وإنارة خشبة المسرح يظهر ديكور مختلف ونجد أنفسنا في المقابر ويجد «كريم» بدوره أن مقر عمليات «الديلر» في المقابر تم الاعتماد في هذا المشهد على «مولد الدخان» ليعطي جو ضبابي من كثرة تدخين المواد المخدرة.
 يقرر بطلنا التضحية بحياته في مقابل عدم قيام جماعة «الديلر» بالتعدي على عائلته ونجد أن البطل قرر إلقاء حلمه في سبيل حماية عائلته، ليتفاجأ «كريم»، أن «الديلر» قرر مسامحته، بل في المقابل وفر له فرصة عمل أثناء ذهابه لبروفات التمثيل يقوم بتوصيل المواد المخدرة لزبائن «الديلر». يرفض «كريم» في البداية لكن مع تهديد «الديلر» له يقرر الموافقة في النهاية، يعطى «الديلر» لكريم» نوع جديد من المواد المخدرة يجعله يتوهم، ويبدأ «الديلر» التحول الي شيطان «مفيستوفيليس» ويتلو نفس المونولوج الذي تلاه على «فاوست» ويجد كريم نفسه أنه تحول إلى «فاوست» ويقوم بعمل العقد بدمه، ولجعل هذا المشهد خيالي تم الاستعانة بإكسسوارات مثل العباءة والديكور تم إنزال سقالة تشبه عرش شيطاني وتم استخدام مولدات الدخان لجعل الجو ضبابي، ومن خلال الإضاءة حمراء اللون اضفت جو من الجنون والشيطانية مع استخدام اللغة العربية الفصحى، يعود المشهد طبيعي مرة أخرى ويكتشف «كريم» ما فعل فيتردد في قراره ويقرر الرفض لأنه اكتشف ما فعل ، مما يغضب «الديلر» ويقرر حبسه في مقبرة، تغلق الأضواء للتحضير للمشهد الختامي.
يبدأ المشهد الختامي في منزل عائلة «كريم» مع عودة «نيللي» بعد تعرضها للضرب من قبل والدها وهروبها من المنزل لتقرر العيش مع «كريم» وعائلته وتشعر العائلة بالشفقة والحزن على حالها ويقرر الشقيق البحث عن «كريم» ليجده أمام باب المنزل منهار مرة أخرى وفي هذا المشهد قد برع مصمم الإضاءة «محمود تيكر» في استخدام الإضاءة مما جعلها تشبه المونتاج السينمائي، من خلال اظهار إضاءة من اللون البرتقالي والأزرق لتوضح تعاقب الأيام على العائلة وتقسيم الإضاءة إلى ثلاثة أمكنة (غرفة كريم، غرفة المعيشة، وأخيرا الردهة التي في الجانب الاخر من غرفة المعيشة) ومع الوقت يتم شفاء «كريم» من الإدمان ويعود لصحته وتتحسن علاقته مع عائلته وزوجته، ويعود للتمرن على التمثيل مع زوجته وفي النهاية ينتهي من دينه وتنتهي المسرحية وجميع العائلة معا مترابطين في غرفة المعيشة، يصل اتصال «لكريم» أنه قُبِل في تجارب الأداء وتم استخدام الإضاءة في الإشارة الي صورة الفنان القدير «عادل إمام» مما جعل الأمر مؤكداً أنه قبل في فيلم من أفلامه.
في النهاية تناسق الديكور والموسيقى التصويرية مع أداء الممثلين جعل العرض ذو تأثير عميق على المشاهد ؛ وهو ما قد يحدث لأي إنسان لو كان في مكان «كريم» وقد أسهموا إسهاما كبيراً في مجريات العرض، وفي الأخير العرض يعبر عن حال الشباب حين يحاولون السعي في سبيل تحقيق  حلمهم لكن البعض قد يسقطون ويرفضون السعي مرة أخرى فيهربون من الواقع ويتجهون إلى الإدمان لذا نحتاج إلى دعم المقربين للعودة للطريق الصحيح حتى لو كانت العودة أصعب ما يكون . يتبادر إلى الذهن سؤال : هل الإدمان والابتعاد عن الواقع هو الحل الوحيد حين تسوء الأحوال بنا ؟ هل هناك مسارات أخرى يمكن أن نسلكها بعيدا عن الإدمان؟  وإن توافرت  هل تعد مسارات تقود في النهاية لحياة كريمة؟ ولك عزيزي القارئ  أن تحدد هذه الحلول.


زياد شكري