العدد 889 صدر بتاريخ 9سبتمبر2024
إن مبدأ التعارض والاتجاهات المتعارضة في الحركة هو أيضا مبدأ عدم التنبؤ بالفعل : فلكي يتجه المؤدون إلى اليمين، يتجهون أولا إلى اليسار ويدهشون المتفرجين بتغيير الاتجاه المفاجئ . ولتحقيق ذلك، يتم ابتكار باعث مضاد . “ أركع وكأني أدفع الحوض إلى أعلى . وأقاوم المسار إلى أعلى ركبتي بالسعي للحفاظ على الحوض إلى أعلى . فيظهر التعارض من خلال التوترات المتباينة : أرفع ذراعي الى أعلى بينما أركع لالتقاط شيء ما من الأرض، وأنظر في الاتجاه المعاكس لحركة رأسي، وأبدأ التحرك بدفعة مضادة في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي أتبعه .
مبدأ استمرارية الحركة وتطوير الطاقة في الزمان والمكان مذكور في مسرح النوه الياباني كالتالي : حرك عقلك عشرة أعشار وحرك جسمك سبعة أعشار . والنتيجة هي توتر متزايد : “ لإجراء أي فعل، يستخدم ممثل النوه أكثر من ضعف الطاقة اللازمة للفعل في الفراغ . فمن ناحية يعكس الممثل كمية الطاقة في الفراغ، ومن الناحية الأخرى، يسترد أكثر من ضعفين داخل نفسه، ويبتكر مقاومة الفعل في الفراغ “ .
تعلم فن الأداء يعني اكتساب حضور بدني مكثف يحتاج إلى التطوير المستمر . فكيف يتعايش النظام الشكلي والتلقائية داخل نفس المقاربة الفنية ؟
ثالثا – الإدراك الحركي والحضور . البناء المشترك لعالم الأداء المسرحي
يقوم الحضور المشهدي الحي للممثلين على وعي تدريبي مكثف . وهذا الأخير نموذجي لنمط معين من الوعي في الجسم الحي، ويُفهم على أنه تابع للعادات ومركز للإرادة الفعلية . وتزامن الإحساس بالحركة ليس عضويا بشكل حصري . بل انه يتمتع بخاصية ذاتية متأصلة في هذا الوعي المتجسد الذي يقوم بكل هذه الحركات . فالجسم المتحرك، وليس الجسم المراقب، هو الذي يقول « أنا الوعي المتجسد في المشي « . وبالتالي تظل هذه الوظائف الجسدية لحظات من الوعي .
يتم الاحتفاظ بالأفعال التي يتم أدائها في الذاكرة من خلال عملية تسمى “الترسيب sedimentation “ . وبوضع التحليل في سياق نظرية الاعتياد habituality عند هوسرل، نلاحظ البعد المزدوج لكلمة “ الطريقة التي يفهم بها الإنسان العالم habitus “ : يتم ترسيبها في البداية وتسجيلها ثم استعادتها . ومن منظور فينومينولوجي، بينما تتصرف الذات، تنشأ طريقة فهم العالم بشكل سلبي . اذ تنهار ذاكرة كل تجربة وتختفي في منطقة غامضة في الماضي، وخاضعة للتحولات . وتخضع تحت تأثير أنماط التكرار الإدراكي والعملي للتصنيف وتدخل صفات مماثلة في المخططات العامة والمعتادة . وتنتمي الفعاليات التي تصبح مألوفة إلى مجال النفس السلبية passive self، وبالتالي تشكل حساسية ثانية second sensitivity “ . فاكتساب العادات يرتبط بشكل وثيق بما هو مستدام في عملية التعلم . فطريقة فهم العالم هي احتمال مؤثر في الفعل من خلال التجربة السابقة . ومن خلال التداعي association يتشكل الحاضر والمتذكر في نفس الوقت . بالطبع، يكمن في داخلي كل ترسيب حياتي الماضية التي عشتها بوعي وتحولت إلى طريقة لفهم العالم – والتي يمكن إيقاظها في الحاضر، على أساس الحدس الفعلي،، ولاسيما تلك التي تستمر في الحدوث منذ ذلك الحين . ونتيجة للترسيب، تساهم طريقة فهم العالم في وحدة الخبرة المكتسبة . ونتيجة للعملية، تكون طريقة فهم العالم هي تنظيم إمكانية الفعل الذي ينشأ بشكل سلبي . ومع الأخذ في الاعتبار فقدان العزم داخل البنية التوليدية لطريقة فهم العالم، فان هذا يسمح بمرونة هذه البنيات . فترسيب طريقة فهم العالم وتاريخ الذات يكونا حيين فقط إذا حققتهما الأنا وأعطتهما المعنى . ومن خلال ارتباط هذه الفعالية بالوعي المؤقت، يمكن لطريقة فهم العالم أن تيسر السلوك الحالي . ولكن يبقى دافع النفس حرا وتلقائيا . فالبنيات الاعتيادية يمكن تغييرها وتجديدها على أساس طوعي . إذ يختلف أداء عملية معقدة بسهولة، وبدون مجهود، وبقليل من الانتباه، عن القيام بها عن علم وعلى الرغم من الذات . إن التلقائية الحركية، سواء كانت فكرية أو أخلاقية، هي أكثر بؤسا من التلقائية . فهي نوع من تطور العفوية سلسة القياد . وتصبح فعالة مع الاتفاق الضمني والتحكم في الوعي الكامن . وبسبب مرونتها وليونتها، فان العادة دائما تتجاوز نموذج التلقائية . وهذه الأخيرة هي انحطاط لتلقائية العادة . ويتم تفسير الجمود والسقوط في التلقائية automation بالفسل في كل التجارب المعاشة . فتشكيل العادة هو عملية تطوير مفتوح يمكن جعلها عملية شفافة للانتباه وللوعي الحركي . وابتكار العقبات يسمح بمراقبة التلقائية والسيطرة عليها . وكما يشير الممارسون، فان بناء المقاومة يؤدي إلى ظهور أنماط جديدة من العمل والعادات الجديدة .
في التناول الفينومينولوجي، ما يميز الأجسام الحقيقية عن الصور المجردة (الظلال، والصور في المرآة، والصور غير الواقعية ) أن لها قوة مقاومة . وفي المقابل، تكتسب الأشياء غير الحقيقة اتساق الأشياء الحقيقية إذا أظهرت مقاومة . ويمكن للأجسام الخارجية أن تقاوم ( يستطيع كل منها ذلك ) فهذا جزء من حركتها الفعلية . والظلال ليس لها مقاومة، ولكني لا أستطيع أن أطعن ظلا أو أدفعه أو أجذبه بشكل مباشر، ولا يمكنني أن أحركه بالطريقة التي أحرك بها الأجسام، بل أحركه بشكل غير مباشر عن طريق انتشار الصدمة . فالمقاومة والمحركة يسيران جنبا إلى جنب . وتتميز الحركات الخارجية بانتشار الطاقة التي تهدف الى كبح المقاومة . ولجعل التوترات والعقبات التي تعترض الحركة ملحوظة للمتفرجين، فإنها تسمح بإعادة بناء الثقل النموذجي للأشياء حتى لو كانت هذه الأشياء غائبة . فالقوة التعبيرية وفن الممثل يمكن أن يظهرا الأشياء الخفية للمتفرج . وتتحدى تجربة المقاومة وجهد تجاوز العقبات الجسم الحي للممثل لكي يستجيب بشكل مؤثر وبمصداقية . ويترتب على ذلك أن تأثير تعلم فن الأداء يجب أن يؤدي إلى أسلوب حركي تأسيسي غير عادي، يتميز ببناء مقاومة الحركة . وبتكثيف الجهد لتجاوز هذه العقبات، يضخم المؤدون حضورهم المشهدي ويصبحون مثيرين للمشاهدة في مواقف الخمول الواضحة .
يتطلب رفع اليدين والقدمين توزيع الطاقة ( غواصين في اتجاهات مختلفة ) .ونميز بين الحركة العادية للأعضاء، والتي هي وظيفة الإدراك البسيط، وحركة التأثير التي تزيل المقاومة .. الخ : وهذا يتطلب توزيع إضافي للقوة، وزيادة في القوة وعالم الأداء المسرحي هو نتيجة بناء دينامي مشترك بين الممثلين والمتفرجين. ومنظور هوسرل حول الوعي الحركي والجسم المعاش باعتباره وسيطا للتعاطف المتبادل يسمح بفهم دقيق للكيفية التي يبني من خلالها الممثلون والمتفرجون معا عالم المسرحية المشابه .
يمكن أن يتوازى هذا الوصف الفينومينولوجي مع المبادئ التقنية التي حددها المسرح الأنثروبولوجي كما يستخدمه المؤدون لتضخيم التوتر، بهدف إعداد الجسم الحي للدراماتورجيا المسرحية . ومع الصعوبة العملية، وجهد التغلب عليها يستيقظ الوعي الحركي عند المؤدين ويُكثف لكي ينقل الانطباعات الحيوية إلى المتفرجين .فالحضور بالنسبة للمؤدين يعني ابتكار الصلة مع الجمهور والحفاظ عليها . ومن خلال الممارسة، يطور المؤدون تنمية القدرة على استشعار الجمهور وضبط تصرفاتهم وفقا لذلك . فالممثل يحضر عندما يجمع حوله ألف عين . كما يقول الأساتذة في مسرح النوه . فمن خلال الحضور يفتح الممثلون وعي المتفرجين، ويقودونهم الى حالة تلقي متصاعدة .
إن التدريب المهني للممثل هو اكتساب تدريجي لمهارات الاستجابة من خلال أفعال حقيقية في مواقف التمثيل المنظم . اذ يتم تعزيز دينامية الجسم في المشهد من خلال تقنيات خارج يومية مثل تغيير التوازن أو خلق مقاومة تؤدي الى تضخيم التوترات . وتكتسب السهولة من خلال التمرين والتدريب على أساس من خلال تلقائية يتم السيطرة عليها . ومن المثير للدهشة أن يصبح الجسم الخيالي المدرب طبيعة ثانية . ويتوافق هذا الجسم الذي ينشأ بشكل مصطنع، ولكنه ذو مصداقية لمطلب خيال المؤدي المحدد : التفكير من خلال الفعل هو التخيل بشكل حركي بكيان الممثل كله . وبالتالي، يعمل الجسم والعقل كأنهما شيء واحد في التدريبات وفي العروض . وفي منتصف الطريق بين بذل الجهد والأداء، تجمع تجربة المؤدي بين الإبداع والتكرار، مما يوضح الاعتماد المتبادل بين القيود التقنية والابتكار الذي لا حدود له .
.............................................
نشرت هذه المقالة في مجلة Society for Phenomenology and Media ( الصفحات 62- 69 )
رالوكا ومكان يعمل أستاذا جامعة Universite Paris-Est Creteil, بفرنسا.