لو كنت حليوة!!

لو كنت حليوة!!

العدد 889 صدر بتاريخ 9سبتمبر2024

افتتح الريحاني موسمه الجديد في يناير 1938 بعرض مسرحية «لو كنت حليوة»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي باسم «أبو حلموس» من إنتاج «نحاس فيلم» وتمّ عرضه في سينما «الكورسال» عام 1947 من إخراج إبراهيم حلمي، وبطولة نجيب الريحاني، وتمثيل كل من: زوزو شكيب، ماري منيب، فردوس محمد، هاجر حمدي، عباس فارس، كمال المصري، حسن فايق، لولا صدقي.
وبالعودة إلى مسرحية «لو كنت حليوة» سنجد أغلب الدوريات الفنية كتبت عنها عند عرضها الأول، ومنها مجلة «النجم» التي نشرت في أوائل يناير 1938 مقالة بتوقيع «أنور حلمي»، قال فيها: افتتح «أبو الكشاكش» موسمه التمثيلي بالكوميديا الرائعة «لو كنت حليوة» من تأليفه بالاشتراك مع الأستاذ بديع خيري، وأن الكاتب ليتحير إذا هو أراد أن يحيط بالريحاني من جميع الوجوه فمن العبث الإحاطة بتلك الشخصية الفذة التي ارتفعت بالكوميدية الراقية إلى المستوى الذي يرتاح معه ضمير الناقد ويأخذ بلب كل مشاهد ويستهويه حتى كأنه في حلم لذيذ تنسى معه هموم الدنيا ومتاعبها مهما ثقل حملها وتزايد عبئها، فلا يستفيق من هذا الحلم الذي يرجوه المرء كل يوم بل كل لحظة ألا وهو يقهقه ملئ شدقيه، وقد ارتسمت على محياه آيات الرضا وعلامات الراحة والبشر، ويتمنى لو يعود هذا الحلم مرة أخرى بل مرات ومرات لا سيما والمرء كم يصادف كل لحظة من لحظات حياته من مآس تنغص عليه معدته ويود لو يرفع كابوسها الثقيل عن عينيه. أما الناقد فيتحير ليكتب عن الريحاني المؤلف وقد حوت الرواية عبراً قيمة وعظات قد امتزجت بالفكاهة ومختلف الدعابات حتى ليخيل لي أن أبا الكشاكش، قد أفرغ كل ما في جعبته في تأليف وتمثيل تلك الرواية التي تعد بحق خير فاتحة، وإن كان لا يغيب عن البال فضل الأستاذ بديع في ذلك أيضاً. أم يكتب عن الريحاني الممثل وإن شاء ذلك فكمن يحاول عبثاً!!
بعد هذه المقدمة، بدأ الناقد يسرد ملخص المسرحية، قائلاً: شحاته أفندي رجل قد تخطى الحلقة الرابعة من عمره يشتغل باشكاتب حسابات عند عبد الحفيظ بك فتح الباب ناظر وقف يعاونه في العمل أنيس أفندي المهندس في الدائرة، وهو شاب في مقتبل العمر وسيم الطلعة. ونظراً لأن عبد الحفيظ بك لاهم له إلا الاستحواذ على أموال الوقف، بأي وسيلة ممكنة وجد في شحاتة أفندي خير معين على ذلك حتى أنه من الظريف كان إذا حضر مستحقو الوقف لأخذ نصيبهم وجدوا أنفسهم مدينين للوقف على أساس حسابات شحاتة أفندي باشكاتب الدايرة. لذلك ترك عبد الحفيظ بك الحبل على الغارب لعائلته فلا رقيب عليهم ولا حسيب، فإذا بكريمته سوسن تقع في شراك حب أنيس أفندي المهندس وترغب في زواجه إلا أنه يخشى أن يفاتح والدها في ذلك خوفاً من طرده من العمل. وإذا بنجله الساذج فريد بك الراسب في كلية الطب ست سنوات بالسنة الأولى والثانية، يتعرف بامرأة من نساء الصالات فتأتي له بطفل وتخبره أنه نجله الجديد، فيتحير فريد ماذا يفعل ويطلع شقيقته على سر الموضوع فتعرض عليه أنها على استعداد بأن تتبنى الطفل وتوهم أباها أنها تزوجت من شحاتة سراً، والذي أظهر لها غرامه في مناسبات عدة لتجعل أبيها أمام أمر واقع فيفضل طلاقها من شحاتة أفندي وزواجها من أنيس أفندي، الذي يظهر كل الاستعداد للزواج منها في ذلك الحين. وتشاء الصدف أن يربح شحاتة 60 ألف جنيه من ورقة دربي [يانصيب] كان قد اشتراها من عبد الحفيظ بك. وهنا يصور لنا الريحاني دوراً مهماً تلعبه الثروة في حياة الإنسان ويثبت أن مكانة المرء في هذا الزمان أصبحت تتوقف على المال ولا شيء غير المال بغض النظر عن أصل منبته وأساس بيئته التي نشأ فيها فكل ذلك يمحى أمام ثروته ويصير الحسيب النسيب الشريف العظيم مهما كانت سيرته سيئة قبل ذلك. ومع أن عبد الحفيظ بك يعلم بعد ذلك أن مسألة زواج ابنته من شحاتة أفندي هذه هي خطة مدبرة من كريمته ولا ذنب لشحاتة أفندي فيها مطلقاً، إلا أنه يصبر بعد ذلك على زواج شحاتة أفندي من ابنته ويأخذ في التقرب إليه والتودد له بعد كسبه تلك الثروة الطائلة ويصير هو المثل الأعلى لجميع أفراد العائلة، التي تعبد المادة ولو فرطت في أعز شيء لديها وهو الشرف! 
يستكمل الناقد موضوعه قائلاً: تلك إلمامة بسيطة عن رواية «لو كنت حليوة»، وأنها من الفكاهات الظريفة والمواقف الكوميدية المثيرة ممتزجة بكثير من العبر والدروس الاجتماعية لهؤلاء الأثرياء الذين قد أعماهم الجهل فنسوا كل شيء إلا المادة. ومن الظريف أن شحاتة أفندي عندما سمع نبأ ربحه تلك الثروة الطائلة قد أغمى عليه فما كان من عبد الحفيظ بك الثري الجاهل إلا أن يصيح في طلب الدكتور طه حسين لمعالجة العزيز شحاتة أفندي، أو إحضار الدكتور حافظ باشا عفيفي من لندن على متن إحدى الطائرات إمعانا في الاحتفاء بصهره الذي أصبحت له المكانة السامية في قلوب الجميع.
وعن التمثيل قال الناقد: قام بتمثيل دور شحاتة أفندي الأستاذ نجيب الريحاني، ويكفي الريحاني اسمه دليلاً قاطعاً على ما قام به من مجهود عظيم. ودور عبد الحفيظ بك قام به ولأول مرة عبد الفتاح القصري حيث شاهدناه على غير عادته، وقد عودنا أن نشاهده دائماً مستأثراً بأدوار أولاد البلد، ومع ذلك فقد وفق كل التوفيق في دور عبد الحفيظ بك. أما فريد بك فقام بتمثيل دوره عبد اللطيف جمجوم، والخواجه جورجي بائع اليانصيب الشامي مثله بشارة واكيم. وزوزو شكيب كانت رائعة حقاً في دور سوسن كريمة عبد الحفيظ بك فقد مثلت دورها بكل اتقان. وميمي شكيب كانت فائقة في تمثيلها دور الهانم ابنة عم سوسن مع صغر الدور الذي قامت به. وكذلك قام باقي أفراد الفرقة بأدوارهم خير قيام فاستحقوا كل ثناء وإعجاب.
ونشرت مجلة «الاثنين والدنيا» مقالة حول العرض، كتبها ناقدها الفني، قائلاً فيها: لن أكون مغالياً إذا قلت إنها أبدع روايات الفرقة وأجدرها بالنجاح الكبير الذي قوبلت به. فهي ذات موضوع شائق بحث فيه المؤلفان بديع ونجيب مساوئ الوقف وأبرزا بصورة واضحة ما يقاسيه المستحقون وما يعانونه من الشقاء من ظلم فئة معينة هي فئة النظار والوكلاء والقامة ومن في حكمهم. ونجيب وبديع إذا تعرضا لموضوع كهذا فلا تسأل عن الاتقان الذي يبلغانه .. ولم يقصر المؤلفان موضوع الرواية على «الوقف» بل تعدياه إلى نقطة أخرى أخلاقية في أسلوب فکاهي طريف من خلال نظرة بعض الناس إلى المال يزنون به قيمة الرجال، فقد كان شحاتة أفندي - الريحاني - وهو الباشكاتب البسيط موضع احتقار الجميع وكانت تصرفاته محل استنكار الجميع فما هو إلا أن بسم الحظ له وفاز بالبريمو في اليانصيب حتى أصبح موضع التقدير والتبجيل والاحترام من كل أولئك، ورأى الفتيات يعرضن أنفسهن للزواج منه، وهو يصيح دون أن يدري: “هل يارب أصبحت حليوة .. إلى  هذه الدرجه!». وأخيراً يتعرض المؤلفان إلى نقطة في منتهى الدقة وهي البحث عن الإخلاص في الحب، فخلقا شخصية فتاة تقربت إلى الغلبان المسكين شحاتة أفندي حين أنفض الكل من حوله بعد أن أتضح أنه لا يحمل نمرة اليانصيب الفائزة! والنتيجة أن التوفيق لازم الكاتبين الباحثين بديع ونجيب في روايتهما ملازمة لم نشعر بها في أية رواية من رواياتهما السابقة ولو أن كل واحدة من الروايات نجحت بنسبة تختلف عن الأخرى تلك. 
تطرق الكاتب بعد ذلك إلى التمثيل، قائلاً: أما نجيب كممثل فإنني أجد من العبث أن أتحدث عنه بعد أن انعقد الإجماع في مصر وفي الشرق على أنه فتى الكوميديا المجلى وبطله الذي لا يضارعه أحد، وإنما أريد أن أهنئه على تلك الشخصية التي تقمصها في روايته .. شخصية شحاتة أفندي .. فإن المتفرج يحس ويشعر أنها شخصية يراها في كل يوم ويتصل بها في كل حين، إذ لا دخل للخيال فيها ولا للابتداع. أما الشيء الذي لا مرية فيه فهو أن الشقيقتين أمينة وزينب شكيب نالتا في فرقة الريحاني نصيباً من النجاح غير قليل وخطت كل منهما إلى الأمام خطوات محسوسة غير منكورة .. فقد كانت أمينة في مواقفها معبرة كل التعبير سواء في الأداء أو في التحكم في نبرات الصوت وتوجيهه إلى الناحية التي تؤثر بها في جمهورها كما تشاء. كذلك يمكن القول عن زينب مع قليل من التحفظ. ومع أن دور زينات صدقي كان بسيطاً إلا أنها جعلت منه شخصية ذات قيمة. وفردوس محمد وماري منيب أسند إليهما دوران يکادان يتشابهان في أخلاقهما وقد كانتا في الإجادة فرسي رهان ومن ثم فإنهما اقتسمنا نجاحاً متساوياً. أما الممثلون: جمجوم والقصري وكمال المصري شرفنطح ومحمد مصطفى والفريد حداد والديب .. فقد أثبتوا أنهم خير من يعاونون الريحاني على بلوغ ذروة النجاح في رواياته، ولن يجد المشاهد ملاحظة على أحدهم، ولذلك نكتفي بتسجيل أسمائهم وختاماً نهنئ الأستاذ الريحاني على نجاحه ونؤكد له أنه .. صحيح أصبح «حليوة».
ونشرت مجلة «المصور» كلمة قصيرة عن عرض «لو كنت حليوة»، بدأتها بمقدمة جاء فيها: «بعد أن انتظرنا وجودها حتى كدنا نيأس من وجودها وقد تحققنا طويلاً بعد مشاهدتها أن أبو الكشاكش كان معذوراً حين استنفد في تأليفها وإخراجها هذا الوقت الطويل فهي رواية بديعة ظريفة في كل شيء، في فكرتها وفي مفاجآتها وفي فكاهاتها وفي تمثيلها، والحق أن الشخص الواحد الذي يُطلق عليه اسمان هما نجيب الريحاني وبديع خيري، هذا الشخص قد نجح في تأليف الروايات المصرية الفكاهية المرضية للجمهور نجاحاً لا نظير له في مصر، نجاحاً لا يُتاح إلا لرجل موهوب، وليست روايات نجيب روايات فكاهية فحسب، بل هي روايات أخلاقية تصور نواحي الحياة المصرية، وتظهر قضاياها وتعرفها على الجمهور» .. ثم تحدث الكاتب عن موضوع المسرحية وتمثيلها بصورة عامة، لا جديد فيها عما قرأناه سابقاً.
أما الناقد «أنور عبد الملك» فكتب مقالة كبيرة في جريدة «البلاغ» بدأها بمقدمة مادحة، ثم سرد قصة العرض بكثير من التفاصيل، ووقف عند الإخراج، قائلاً عنه: وكان إخراج الرواية جيداً فكان منظر الفصل الأول جميلاً وهو يمثل غرفة مكتب عبد الحفيظ بك وكان منظر الفصلين الثاني والثالث جميلاً لولا أنه مبالغ فيه إذ أنه يصح أن يكون منظراً لإحدى الروايات الشرقية التي تعود الأستاذ الريحاني أن يمثلها. وكانت الإضاءة موفقة في فصول الرواية الثلاثة فأعطت للمناظر رونقاً جميلاً وكان ترتيب الأثاث على المسرح حسناً فتمكن الممثلون من أداء حركاتهم بتوفيق تام.
وآخر مقالة وجدناها – وفقاً لما بين يدينا من مقالات – كانت منشورة في جريدة «الجهاد» تحت عنوان «لو كنت حليوة .. عرض وتعليق»، لم يأت فيها كاتبها بأي جديد، بل كانت مدحاً خالصاً، مع ذكر ملخص المسرحية وأسماء الممثلين كما تحدثت المقالات السابقة دون أية إضافة.
لم يقدم الريحاني بعد ذلك أية مسرحية جديدة، إلا أن إعلانات ظهرت في الصحف أحدثت بلبلة عند الجمهور، ومنها جريدة «البلاغ» التي نشرت إعلاناً قالت فيه: «مسرح ريتس بشارع عماد الدين .. فرقة الأستاذ نجيب الريحاني تقدم من يوم الأربعاء 23 فبراير 1938 رواية «كذبة فبراير» «اتبحبح» كل يوم خميس وجمعة وأحد حفلة نهارية بأسعار مخفضة الساعة السادسة، وكل يوم حفلة سواريه الساعة التاسعة”.
هذا الإعلان جعل الجمهور يسأل: هل المسرحية عنوانها «كذبة فبراير» بوصفها مسرحية جديدة، أم اسمها «اتبحبح» القديمة التي عرضها الريحاني منذ عشر سنوات سابقة؟! هذا السؤال بهذه الحيرة تصدت إليه مجلة «المصور» فكتبت مقالة عن العرض، قالت فيه: تلك هي الرواية القديمة الجديدة التي تمثلها فرقة الريحاني الآن. ولهذه الرواية قصة معروفة فهي إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ المسرحي، أو بعبارة أدق في تاريخ الريحاني المسرحي. فقبلها لم يكن نجيب يظهر للجمهور إلا في شكل «كشكش» بعمامته وجبته وقفطانه، ولم تكن رواياته في ذلك الحين لتخرج عن دائرة الاستعراض والاسكتشات دون أن يكون هناك ما يربط حلقات الرواية بعضها إلى بعض. فأراد أن يتحرر من هذه القيود ويتقدم إلى الجمهور برواية محبوكة مسلسلة الحوادث مرتبطة المواقف وفي الوقت نفسه يرى الجمهور كشكشه المحبوب وقد تغير قليلاً، فإن نجحت التجربة فقد فتح الباب لعهد جديد، وإلا فإن خط الرجعة محفوظ بعودته إلى «كشكش» القديم ذي الجبة والقفطان. كان ذلك في سنة 1928 إذ جلس نجيب الريحاني وبديع خيري يكتبان رواية «اتبحبح» بعد أن اختارا لها موضوعاً قوياً غنياً بمواقفه وارتباكاته، ونكاته وقفشاته ثم عرضها على الجمهور في مسرح الريحاني إذ ذاك. ولم يكد الستار يسدل في الليلة الأولى حتى تعانق الصديقان لأن التجربة كانت ناجحة ولأن الجمهور تقبل الرواية بالإعجاب إذ أثبت «كشكش» أن نجاحه في «البدلة الأفرنجية» لا يقل عن نجاحه بالجبة والقفطان. ومن ثم كانت هذه الرواية موقعة فاصلة بين عهدين لولاها ما رأينا نجيباً في: «حكم قراقوش، وقسمتي، ولو كنت حليوة»، وغيرها من الروايات. والرواية من نوع الفودفيل وتناول المؤلفان أغلب مواقفها بالإصلاح والتهذيب حتى تقبلها جمهور سنة 1938 وكأنها رواية جديدة، فغصت الصالة بالمتفرجين الذين لم يكفوا عن الضحك لحظة واحدة! أما الممثلون فقد كان أغلبهم في أدوارهم القديمة ما عدا «الشكيبتين» وفكتوريا حبيقة اللواتي لم يسبق لهن الاشتراك في تمثيل هذه الرواية. فأما ميمي شكيب فقد أصبحت راسخة القدم يمكن الاعتماد عليها في كل دور، وأما زوزو فقد نهضت بدورها نهوضاً طيباً رغم قصر الوقت، وأما فكتوريا حبيقة فقد كان يقوم بدورها فيما مضى الفريد حداد ولكن الفرقة رأت أنه لا يجوز أن يمثل رجل دور المرأة في هذا العهد الزاهر فعهدت به إلى فكتوريا التي أثبتت أن المرأة أحق بدور المرأة. أما باقي الممثلين فكانوا جميعاً جديرين بالثناء والإعجاب.


سيد علي إسماعيل