الريحاني يمثل أمام الملك!!

الريحاني يمثل أمام الملك!!

العدد 890 صدر بتاريخ 16سبتمبر2024

لم يسبق لنا – أثناء تتبعنا لتاريخ الريحاني – معرفة أنه مثل أمام الملك فاروق، ولكن ما نعلمه أنه تشرف بالظهور أمام صاحب السمو الملكي الأمير «محمد علي» في سراي المنيل، وكذلك أمام الأمير «إسماعيل داود» في سراي الزعفران. ومن المحتمل أن الاسكتش الإذاعي – أو المسرحية الإذاعية - التي أذاعها الريحاني ونشرت مجلة «الاثنين والدنيا» نصها في يوليو 1937 تحت عنوان «احتفال كفر البلاص بعيد الجلوس» - ونقلنا أغلب نصها في مقالة سابقة - جعلت الملك فاروق يلتفت إلى الريحاني وعروضه، فاختاره ضمن فقرات الاحتفال بعيد ميلاد الملك في قصر عابدين!! وهذا الحدث نشرت تفاصيله مجلة «الاثنين» في منتصف فبراير 1938 تحت عنوان «الريحاني على مسرح السراي العامرة»، وجاء فيه:
احتفلت الأسرة المالكة بعيد ميلاد جلالة الملك في حفلة خاصة لم يحضرها سوى أفراد البيت المالك الكريم، وقد أُقيمت بهذه المناسبة السعيدة على مسرح عابدين حفلة متنوعة، بدأت برقصة «البوليرو» من بعض الراقصات الأفرنجيات. وتلا ذلك فرقة أفرنجية أخرى رقصت رقصة بديعة على أطراف أصابع القدم [أي الباليه] ثم جاء دور الحاوي الأفرنجي فقام أمام جلالة الملك ببعض ألعاب سيماوية مدهشة، ولكنه كان مأخوذاً من روعة الموقف فكان في البداية قابعاً في مؤخرة المسرح، فلما ملك أعصابه تقدم إلى أول المسرح وأخذ يعرض ألعابه بمهارة. ثم غنت إحدى المغنيات أغنية أفرنجية، وبعد ذلك رقصت فرقة أفرنجية أخرى، وبذلك انتهى القسم الأفرنجي من البرنامج إن صح هذا التعبير، وبدأ القسم العربي بعد ذلك بفرقة الأستاذ «عزيز عثمان» فمثلت قطعة «زفة العريس» فوفقت في تمثيلها، ونالت الاستحسان. ثم ظهرت فرقة الأستاذ نجيب الريحاني فمثلت الفصل الثاني من رواية «الدنيا على كف عفريت» وقطعة «الكراكون» من رواية «الدنيا جرى فيها إيه». وهذه هي المرة الأولى التي يتشرف فيها نجيب بالوقوف على مسرح عابدين والتمثيل بين يدي جلالة الملك، وطالما كان يتوق إلى هذا الشرف العظيم حتى تحققت أمنيته في هذه المناسبة السعيدة. وتدور وقائع الفصل الثاني من رواية الدنيا على كف عفريت في إحدى الحواري البلدية حيث تدور معركة كلامية (تشليق) بين النسوة وأحد الشوام، ثم يدخل كشكش بك في هذه الحارة يريد الاستدلال على عنوان فيلقي صنوف العنت من كل من يسأله عن العنوان، فبعضهم يظنه بائع يانصيب وبعضهم يظنه متسولاً. وأخيراً يقع بين أيدي شركة من شركات السينما تلتقط مناظر لهذه الحارة فيقف أمام الكاميرا ويفسد العمل .. ومنظر الحارة في ذاته منظر غير مألوف لهذا الجمهور الملكي السامي فلم يكد يبدأ حتى بدأت الابتسامات والضحكات، فلما دخل كشكش بك زاد الضحك وكلما أشتدت ربكة كشكش أشتد معها الضحك وأرتفع. ولما انتهى الفصل تعطف جلالة الملك فصفق للفرقة وصفق معه الأمراء والنبلاء. ورفع الستار عن منظر «الكراكون»، وهو يتلخص في أن كشكش بك وجد ساعة ذهبية في الشارع فذهب إلى القسم ليسلمها هناك، ولكنه لم يؤدِ الاحترام اللازم للعسكري النوبتجي فأراد هذا الانتقام لكرامته فقبض على كشكش واحتجزه في القسم حيث تقابل مع أحد المجانين وكانت بينهما مواقف تسيل الدموع من الضحك. وقد لاقت هذه القطعة من الاستحسان ما لاقته القطعة الأولى وتعطف جلالة الملك وصفق مراراً أثناء التمثيل. وقد أرسل سعادة أحمد حسنين باشا في طلب الأستاذ الريحاني عقب التمثيل ولكنه كان قد غادر السراي العامرة. وفي اليوم التالي تشرف كل من الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري بمقابلة سعادة أحمد حسنين باشا فأبلغهما سعادته رضاء جلالة الملك التام.
وأشارت جريدة «البلاغ» إلى أن الريحاني لم يمثل فقراته من مسرحيتي «الدنيا على كف عفريت» و«الدنيا جرى فيها إيه» كما مثلها أمام الجمهور، بل أدخل عليها بعض التعديلات لتتناسب مع مكان عرضها وهو قصر عابدين، وتتناسب مع جمهور يتكون من صاحب الجلالة الملكية وأصحاب السمو الأمراء والنبلاء.
وإذا كان الريحاني مثّل أمام الملك في عيده ميلاده لأول مرة في فبراير 1938، فلم يمر شهر واحد إلا ومثّل الريحاني مرة أخرى أمام الملك في وجود الجمهور، وكان بين الريحاني والملك فاروق حوار، هذا بالإضافة إلى أنها المناسبة الثانية التي يمثل فيها الريحاني مع فرقته على مسرح دار الأوبرا الملكية!! وتفاصيل الموضوع نشرته مجلة «المصور» في أواخر مارس 1938، تحت عنوان «المليك يشرف حفلة النادي الأهلي»، قائلة فيه:
أقام النادي الأهلي حفلته السنوية في دار الأوبرا، وقد تعطف جلالة الملك المحبوب فشرف الحفلة بشخصه الكريم فكان في ذلك رمز سام إلى عطف جلالته على الرياضة وتشجيعه إياها. وقد قامت فرقة الريحاني بتمثيل رواية «لو كنت حليوة» فنالت عطف جلالته واستحسانه مما جعل فمه الكريم يشرق كثيراً بالضحك. وبعد ختام الفصل الثاني ذلك الختام المشهور الذي يوزع فيه نجيب «ألوفاً» بدون حساب وهو لا يعلم أنه ربح الدربي [اليانصيب]. بعد هذا الختام تشرف هو وبديع خيري بالمقابلة الملكية، فلقيا من عطف المليك المفدى ورعايته ما جعلهما يلهجان بالشكر. وقد تعطف جلالته وتبسط مع نجيب في الحديث فقال له: “أنت ضحكتنا الليلة قوي. اسمع يا سي نجيب ما تدينا كام ألف من اللي بتبعزق فيهم دول”. ثم سأله بعد ذلك: “الفصل الثالث ظريف زي الفصلين دول؟” ولما أجاب نجيب بأنه يعتقد قال جلالته: “بقى على كده نقعد ونضحك تاني». وبعد ذلك تراجع نجيب وبديع مغادرين المقصورة الملكية وإذا بجلالته يقول لنجيب: «إن شاء الله عايزين السنة الجاية حفلتين تلاتة أربعة زي دي”. وقد كان هذا العطف السامي موضع تهنئة نجيب من كل الحاضرين. وبعد انتهاء الحفلة عزفت الموسيقى بالسلام الملكة، فوقف الجميع وعلت الهتافات بحياة الملك المحبوب، فرفع جلالته يده الكريمة فسكت الحاضرون وإذا بجلالته يلتفت إليهم ويقول: “إن شاء الله كل واحد منكم يكون انتفع بالرواية دي”. ومن خلف الستار ترقرقت الدموع في عيني نجيب فرحاً بهذا العطف والتقدير الساميين وقال: “الآن كوفئت على جهادي الفني مكافأة لا يستطيع الدهر أن يمحوها ولا أبادل عليها بكنوز العالم أجمع. وأعتقد الآن يحق أن روكفلر [مليونير أمريكي ومؤسس شركات النفط] يقول لي حسنة لله. وسوف أتابع جهودي بقوة ولذة لكي أستطيع إرضاء مولاي.
وفي نهاية المقالة علقت المجلة بقولها عن المسرحية التي مثلت ونالت إعجاب الملك: “لعل القراء يذكرون أننا قلنا عن هذه الرواية عند عرضها الأول إنها من خير الروايات الاجتماعية ذات الفكرة السامية والتي ينصب فيها النقد على نظام الوقف الأهلي”.
ربما لا يصدق القارئ أن هذا الحوار بين الريحاني والملك حدث بالفعل!! لأنه لو حدث لكان دوّنه الريحاني في مذكراته، وتحدثت به أغلب الدراسات والمقالات التي كُتبت عن الريحاني! والحقيقة أن هذا الشك انتابني، ووضعت تبريراً مقبولاً لعدم انتشار هذه الواقعة، ولعدم شيوع هذا الحوار، وهو أن المذكرات التي ظهرت بعد وفاة الريحاني كانت بعد ثورة 1952، ومن غير المقبول نشر أي مديح للملك المخلوع، أو لإظهار تصرفات إيجابية له بعد الثورة عليه مباشرة، مما يعني أن من نشر مذكرات الريحاني – بعد وفاته – تدخل فيها بالحذف أو الإضافة أو التغيير – كما أثبتنا ذلك عندما نشرنا مذكرات الريحاني الحقيقية والمجهولة، والتي جاءت خالية من هذه الواقعة، لأن المذكرات نشرت وتوقفت قبل هذا الحوار الذي تم بين الريحاني والملك. وبالبحث وجدت دليلاً ثانياً يؤكد حدوث الواقعة والحوار، وهو وصف الحفلة المنشور في مجلة «الاثنين والدنيا» بعد أيام من وصف مجلة «المصور»!! مما يعني أن لدينا مصدرين للواقعة نفسها! مع ملاحظة أن وصف مجلة «الاثنين والدنيا» كانت به تفاصيل جديدة وإضافية لم تّذكر في وصف مجلة «المصور»، لذلك سأنقل ما كتبته مجلة «الاثنين والدنيا» تحت عنوان «الرياضة والتمثيل يتشرفان بأنوار المليك»، قائلة:
في مساء الخميس الأسبق الموافق 22 مارس أحيا النادي الأهلي للرياضة البدنية حفلته السنوية في دار الأوبرا الملكية، وقد تنازل جلالة المليك المفدى بتشريف الحفلة بحضوره. وبدأ القسم الأول من البرنامج بتحية شعرية ألقاها معالي جعفر والي باشا رئيس النادي الأهلي، قال فيها:
ملك البلاد رفعت شأن النادي
وملكت بالإحسان كل فؤاد
أهلاً بمقدمك السعيد ومرحباً
بالقائد المغوار حامي الوادي
مولاي كم لك من يد مأثورة
في مسجد أو معهد أو ناد
الدين منك وللمعارف موئل
لرياضة الأرواح والإجاد
فاسلم فإنك للأنام ذخيرة
أبداً وللأركان خير عماد
وبعد ذلك ألقى الأستاذ سليمان نجيب زجلاً رقيقاً، ثم ألقى الأستاذ عبد الحميد زكي منولوجين أحدهما باللهجة العامية والآخر بالسورية نالا الاستحسان وقام الأستاذ حسين الفار مع بعض زملائه من أعضاء النادي باستعراض هزلي في الملاكمة. ثم ألقى الأستاذان عبد الوارث عسر وتوفيق المردنلي ديالوجاً من وضع الأول في الفوائد الصحية التي تعود على الأجسام من وراء الرياضة وبذلك انتهى القسم الأول من البرنامج. وفي القسم الثاني عرضت فرقة نابغة الكوميدي الأستاذ نجيب الريحاني الرواية الناجحة «لو كنت حليوة» تأليف الأستاذين نجيب وبديع خيري. وقد تفضل صاحب الجلالة بمتابعتها من البداية إلى النهاية. وفي الفترة بين الفصلين الثاني والثالث تشرف الأستاذان نجيب وبديع بالمثول بين يدي المليك فحباهما بعطفه السامي وسأل الأول عن الفصل الثالث وهل هو في درجة سابقيه فأجاب: “إنه طريف جداً يا مولاي” فابتسم جلالته، وقال: “إذن لنحضره كذلك”. ثم تفضل فأطرى الرواية ووجه الحديث إلى الأستاذ الريحاني قائلاً: “نريد أن نشاهد في العام المقبل أمثالها مرة وثانية وثالثة إن شاء الله”. وحين أسدل الستار الختامي عقب الفصل الثالث علا تصفيق الجمهور وهتافه للمليك فأشار جلالته بيده الكريمة علامة الإصغاء .. فأنصت الكل وكان على رؤوسهم الطير واتكأ المليك بيديه على حافة المقصورة ثم وجه نطقه السامي إلى الحاضرين من أفراد شعبه المحبوب قائلاً: “إن شاء الله يكون كل واحد منكم انتفع بالرواية دي”. وفي هذه الكلمة السامية معانٍ ليست خافية فإنه حفظه الله أراد أن يتمسك الشعب بأهداب الأخلاق الكريمة التي امتلأ بها موضوع الرواية تمشياً من السُنّة الشريفة التي وردت في حديث النبي صلي الله عليه وسلم “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. كذلك في كلمة المليك تقدير سام لمؤلفي الرواية الأستاذين نجيب وبديع نرى من حقنا أن نهنئهما به وأن نطلب لهما اطراد النجاح استمراراً لرضاء رب التاج.
بعد تألق الريحاني أمام الملك، عاد إلى موسمه المسرحي وبدأ بروفات مسرحيته الجديدة «الستات ما يعرفوش يكدبوا»، التي عُرضت في منتصف أبريل 1938 بمسرح ريتس بعماد الدين تأليف بديع خيري والريحاني، وتقع في ثلاثة فصول، بطولة الريحاني، وتمثيل: ميمي شكيب، زوزو شكيب، ماري منيب، زينات صدقي، فيكتوريا حبيقة، شفيقة جبران، حسن فايق، محمد كمال المصري شرفنطح، الفريد حداد.
ويتلخص موضوعها – كما نشرته جريدة «البلاغ» - في أن «بسيمة هانم» تعودت أن تجعل نفسها محطة من الأكاذيب، فهي لا تعرف الصدق، ولا تقوله أبداً لأنها مصابة بداء الكذب والنفاق. وفي ذات يوم كانت سائرة في الشارع، فقابلت «نوح أفندي» أحد أقاربها وزوج صديقتها «بثينة» فصحبته معها إلى السينما وعندما عادت إلى منزلها أخبرت زوجها بأنها ذهبت لمشاهدة «المحمل» الذي مضت عليه ستة شهور، ولهذا أثار الأمر شك زوجها «نظمي بك» خصوصاً عندما علم من «بنايوتي» - أحد مستخدمي السينما - أنها كانت في صحبة رجل آخر، وأخبرت بسيمة نوح أفندي بما ذكرته لزوجها، فنصحها بوجوب ذكر الحقيقة لأن زوجها لن يغضب إذا علم أنه هو الذي كان معها في السنيما، ولكنها أخبرته بأنه غيور جداً يخشى عليها من أقرب أقربائه وأعز أصدقائه. ويحاول نوح أفندي أن يفهم نظمي بك بأنه ليس هناك محل لسوء الظن بزوجته، ولكن ذلك يزيده هياجاً على هياج وينصح أن من أسباب غضبه منها كونها لم تخلف له ولداً يفرح به. ويبحث نظمي في طلب بنايوتي مستخدم السينما الذي تطوع للإرشاد عن مرافق الزوجة وعندما يصل إلى المنزل يتقابل مع نوح أفندي الذي يكثر من الترحاب به ويقدم إليه جميع ما يملكه من مال ليشتري سكوته. ولما يأس نطمي من معرفة شخصية الرجل الذي صاحب زوجته، اعتزم السفر إلى الهند ليتخلص من أكاذيبها ولكي تمنعه هي من السفر تبلغ مستشفى المجاذيب عن الجنون المفاجئ الذي أصيب به. وبعد قليل يصل رجال البوليس لأخده ولكنهم يجدون نوح أفندي فيأخذونه معهم وتعلم بثينة الخلاف الواقع فتبتكر لها حيلة طريفة لاسترجاعه، وهي أن تدعي أنها حملت منه وإنها ستضع له ولداً. ولا تمضي إلا شهور ثمانية حتى ترسل إليه برقية بأنها على وشك الوضع فيهرول عائداً إلى مصر. وتضطر الزوجتان إلى البحث عن طفل في أحد الملاجئ، ولكن قبل أن تتم إجراءات استحضار الطفل يصل نظمي إلى المنزل مبتهجاً فلا يجد الطفل وتضطر إلى اختراع أكاذيب جديدة لإقناعه بوجوده وتنتج عن ذلك مفاجآت كثيرة يعرف بعدها الزوج أن مسألة الطفل لم تكن إلا أكذوبة جديدة فيقرر العودة إلى الهند وعندئذ يري نوح أفندي نفسه مضطراً لذكر حقيقة الأمر فيما يختص بالرجل الذي كان مع زوجته في السينما وبذلك يصفح نظمي عن زوجته ويقبل أن يبقى معها.


سيد علي إسماعيل