«مسرحية روبيك».. قدر محتوم يتسبب في انهيار الأخلاق

«مسرحية روبيك»..  قدر محتوم يتسبب في انهيار الأخلاق

العدد 891 صدر بتاريخ 23سبتمبر2024

 ينتهي العرض المسرحي بقتل عصام لأخويه الاثنين، ويفقد عقله بعد ذلك حين يرى جثتيهما بجانبه. فمنذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها أنه مختلف عمن حوله، أصبح الشعور بالعجز الداخلي ملازمًا له، بالإضافة إلى شعور عدم تقبل الآخرين له أيضًا. فهو لن يتزوج لأن لا فتاة ستقبله. هذا الشعور القاتل جعله يتقوقع داخل جدران عقله، وخلق لديه الحافز لارتكاب أي شيء يجعله يشعر بذاته. وهذا ما نلاحظه في نهاية العرض المسرحي عندما يقول: “أنا أعرج وماليش لزوم في الدنيا.. أنا قتلتهم صحيح، يعني يوم ما أعمل حاجة أقتل إخواتي”، تأكيدًا على العجز الداخلي الذي يشعر به منذ سنوات طوال.
مسرحية “روبيك”، مأخوذة عن نص “زيارة السيدة العجوز” لفريدريش دورنمات، وعُرضت على خشبة مسرح جامعة بني سويف. تدور أحداث العرض المسرحي حول أسرة من الطبقة الأرستقراطية فقدت أموالها ببطء حتى أعلنت إفلاسها، ووصل بها الأمر إلى التهديد بالطرد من منزلها. تتكون الأسرة من زوج وزوجة وأربعة أولاد؛ الأول زين، الابن الأكبر، متزوج من فتاة ولديه طفل، وهو شخص مستغل ولديه الدافع لارتكاب أي شيء مقابل المال. الثاني عصام، الذي يشعر بعجز فكري كبير، بسبب معاناته من إعاقة حركية في إحدى قدميه، فأصبح يعلق جميع أخطائه على هذه الإعاقة. الثالث يوسف، شاب مكافح لم يستسلم قط، وقرر العمل على عربة كبدة، بعد رفضه في القنصلية، والأصغر فادي، الذي أنشأ حسابًا وهميًا لابتزاز الرجل وسحب الأموال منهم خوفًا من فضحهم، بعد فشله في ابتزاز النساء وسحب الأموال منهن.
يتصاعد مجرى العرض المسرحي بزيارة سندس، التي تحطم جميع الأقنعة التي تضعها الأسرة أمام بعضها البعض. تزور السيدة سندس الأسرة، وقد حملت من الأب منذ أعوام وأنجبت فتاة، توفيت هذه الفتاة نتيجة مرض نادر، ولم تكن سندس تمتلك حينها ثمن علاجها. وجدير بالذكر أن والد سندس كان يعمل بوابًا لدى أسرة فؤاد، وعندما علم فؤاد بخبر حملها، قرر أن يلفق لها تهمة شرف، لتواجه بعد ذلك حقيقة العالم القاسي، وتصبح في نظر الجميع فتاة ليل، مما تسبب في إغلاق جميع الأبواب أمامها. تحولت من فتاة بريئة إلى سيدة أرادت الانتقام من الجميع. تتصاعد أحداث العرض المسرحي بزيارة هذه السيدة بعد أعوام طويلة، بعد أن أصبحت تمتلك ثروة هائلة تستطيع بها حل مشكلات هذه الأسرة بشرط أن تحقق العدالة.
يناقش العرض المسرحي العديد من القضايا المختلفة التي تقتحم النفس البشرية، ويقدم المخرج يوسف المنصور رؤية جديدة للنص المسرحي “زيارة السيدة العجوز” للكاتب فريدريش دورنمات. ينطلق العرض من فكرة: هل يمكن للانتقام أن يحقق العدالة؟ وهل يمكن أن يحدث الانتقام على يد الأقربين؟ فنجد الأب الجاني منذ أعوام يعيش في رعب كبير، خشية أن يتفق أحد أبنائه مع السيدة سندس، التي أصبحت مشوهة من الداخل والخارج.
اختار المخرج اسم “روبيك”، وهو مستوحى من الألعاب القائمة على الشك، والتي تعتبر من الألغاز التي تحتاج إلى إعمال العقل، لذلك فهي من الألعاب المعقدة، تمامًا كطبيعة النفس البشرية التي تتطلب تفسيرًا والعديد من التأويلات المختلفة. يعكس اسم “روبيك” الطبيعة المعقدة للمسائل الأخلاقية التي تتناولها المسرحية، مثل العدالة، الفساد، والانتقام. يشير الاسم إلى أن العمل قد يكون بمثابة “لغز” يحتاج المشاهدون إلى فك شفرته.

تأثير المال على الأخلاق 
يظهر الفساد الأخلاقي من خلال تعاون أبناء فؤاد - ما عدا يوسف - وتحولهم إلى وحوش مستعدة للتضحية بوالدهم من أجل الحصول على الثروة الكبرى. لكل فرد منهم دوافعه الخاصة لتحقيق العدالة؛ فزين حصل على قرض كبير من البنك وعجز عن تسديده، مما سيؤدي إلى سجنه، وعصام يرغب في إجراء عملية للتخلص من إعاقته، وفادي يسعى للحصول على المال لتحقيق حلمه في أن يصبح ممثلًا ذا نفوذ.
تسلط المسرحية الضوء على التواطؤ والفساد الأخلاقي الذي يتفق عليه الجميع، حيث اتفق الإخوة معًا، مما جعل الشعور بالذنب الفردي يذوب بينهم. وأثناء العرض المسرحي، نرى سندس تتجسد في ثلاث شخصيات، حيث جعل المخرج هذه الشخصيات تمثل ماضيها، مستقبلها، وشخصيتها الحالية. نرى الشخصية الماضية ترتدي فستانًا باللون الأبيض كدليل على البراءة والتطهر، بينما الشخصية التي ترتدي اللون الأحمر تدل على التمرد وعدم الانصياع للمعايير الأخلاقية أو الاجتماعية.

مزج بين الواقعية والتعبيرية
يمزج عرض “روبيك” بين مدرستي الواقعية والتعبيرية، حيث أضاف بوضوح كافة التفاصيل التي تخدم هاتين المدرستين. في إطار المدرسة الواقعية، يسعى العرض المسرحي لتقديم صورة دقيقة للمجتمع والبيئة التي تدور فيها الأحداث. يتميز هذا النمط بالاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للمواقع، الأزياء، والحوار، حيث تُصمم المناظر الطبيعية والأثاث والإضاءة لتعكس الواقع الملموس والشخصيات كما قد توجد في الحياة اليومية. أما المدرسة التعبيرية، فتضيف طابعًا تجريديًا وعاطفيًا على عرض “روبيك».
يتم استخدام الألوان القوية (الأبيض، الأحمر، الأزرق) لتسليط الضوء على القضايا التي تُطرح، والحركات غير التقليدية للتعبير عن الحالة الداخلية للشخصيات والمشاعر العميقة التي تشعر بها كل شخصية، وذلك كان بارزًا في شخصيتي الأولى والثانية من حياة سندس، وكذلك الشخصية الأولى من حياة فؤاد. استُخدم الديكور والأزياء لتعكس الصراعات النفسية التي تعيشها الشخصيات بكل تفاصيلها من قلق وتوتر.
لعبت الإضاءة دورًا بالغ الأهمية، حيث عبّرت عن الحالات المختلفة، مما ساعد المشاهدين على التعامل العقلي والنفسي واستنباط أفكارهم بأنفسهم عن ماهية الفكر المطروح وراء تلك الاستخدامات الضوئية واللونية المصاحبة لحركة الشخصيات المسرحية. فقد كان اللون الأحمر في العرض المسرحي يرمز للجريمة التي ارتكبها فؤاد مع سندس، أو الجرائم والظلم الذي تعرضت له سندس في حياتها. بينما اللون الأبيض، الذي استخدم كبؤر ضوئية في النسخة الأولى من حياة سندس، كان دليلًا على الطهر والنقاء، حياة الأم جيهان في بداية حياتها، قبل اكتشافها الواقع الأليم الذي تعرضت له أسرتها، كما استخدم اللون الأبيض في استحضار الصور والذكريات.

الرغبة في الانتقام والبحث عن العدالة
تمثل سندس بشخصياتها الثلاث نقيضًا متعددًا، فنجد الشخصية الأولى التي تتسم بكونها بريئة، ساذجة، محبة بصدق، لم تتلوث روحها بعد بتجارب الحياة القاسية. هذه الشخصية تبرز النقاء والصفاء الداخلي، وتعكس تلك المرحلة من حياتها التي كانت فيها مليئة بالأمل والتطلعات النقية، بعيدة عن تعقيدات الواقع ومرارة التجارب.
أما الشخصية الثانية، فهي تعكس الجانب المظلم والمتغير من سندس، حيث فقدت براءتها نتيجة تعرضها للخذلان والألم. تصبح شخصية تحمل في داخلها مشاعر مختلطة من الغضب والرغبة في الانتقام، شخصية تطغى عليها الشكوك والخوف من الآخرين. هذه الشخصية تحمل لونًا داكنًا، دلالة على الانتقال من النقاء إلى التجربة القاسية، من الحب الصادق إلى الريبة والانكسار.
في الشخصية الثالثة، نجد تجسيدًا لشخصية ناضجة، مثقلة بالتجارب التي مرت بها. هذه الشخصية تمثل الإنسان الذي لم يستطع التصالح مع ماضيه، فقد فقدت روحها البريئة. تجمع بين الوعي بواقع الحياة والتحديات التي لا مفر منها، وبين القدرة على المضي قدمًا بالرغم من كل شيء. قادرة على تحقيق أهدافها مهما كانت العواقب أو النتائج، وإن كانت هذه النتائج خسائر بشرية. فنجد سندس في القسم الثالث من شخصيتها، حينما توفي زوجها لم تدفنه بل استثمرت فيه وباعت أعضائه.
ظهور سندس بحالاتها الثلاث بين الماضي والمستقبل والحاضر هو أحد الثيمات الرئيسية التي ينهض عليها عرض “روبيك”، حيث الماضي أو المستقبل، هو شكل من أشكال المسرح، يُعاد ترتيب أحداثه بشكل انتقائي.

تخيل الدراما بأكثر من صورة
نهضت الدراما من خلال تحقق الميتافيكشن، حيث نجد أن سندس تدخل بالشخصية الأولى والثانية لتشرح ما حدث في الماضي. في المشهد الذي اتُهمت فيه بتهمة الدعارة التي غيّرت مصير حياتها، عندما قام فؤاد بتلفيق قضية دعارة لها، نجد أن النسخة الأولى من حياة سندس تقاوم وتظهر بأن تم الاعتداء عليها، بينما الشخصية الثانية تظهر ما رواه الناس عنها، وبذلك تم تجسيد الحقيقة وعكسها معًا على خشبة المسرح. وقد تم التوضيح بكل قوة عن ماهية الأحداث التي تعرضت لها سندس لتتحول من الشخصية البريئة إلى شخصية لا قانون لها. نجد في نهاية العرض، عندما يقوم عصام (الأعرج) بقتل إخوته، أن الشخصية الأولى من حياة سندس تُقتل أيضًا بدم بارد، وكأنها كانت السبب في أن تقف الحياة أمامها، لتحولها إلى مسخ لديه الدوافع، لتقضي على أي شيء بلا ذرة من الإنسانية.
رغم أن المسرحية تندرج تحت بند التراجيديا، إلا أن بعض لحظات الكوميديا قد أُدرجت بذكاء لتخفيف وطأة الأحداث الدرامية الثقيلة. قامت بهذا الدور شخصية تيتو، التي جسدتها شهد جمال ببراعة، حيث استطاعت اللعب على أكثر من وتيرة. بحسها الفكاهي المميز، نجحت تيتو في تقديم لحظات من الضحك الخفيف وسط المشاهد المؤلمة، مما منح الجمهور فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة التوازن العاطفي. هذا التباين بين التراجيديا والكوميديا لم يكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كان له دور أساسي في تعميق تفاعل المتلقي مع العرض المسرحي.

تساؤلات حول مسرحية روبيك ومفهوم العدالة
يبدو أن المخرج يوسف المنصور أراد أن يُظهر للجميع مدى تعقيد النفس البشرية، وكيف يختلف مفهوم العدالة. هل يمكن للانتقام أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة؟ وهل يمكن للإنسان أن يفر من ماضيه مهما سعى للتخلص منه؟ من خلال تقسيم شخصية سندس إلى ثلاث حقب زمنية مختلفة، أو تخلص فؤاد من الذنب الذي ارتكبه وفر منه، هل استطاع التخلص من الشعور بالذنب؟ وذلك من خلال تقسيم شخصية فؤاد إلى مرحلتين زمنيتين مختلفتين.

الترتيب السينوغرافي لخشبة المسرح
كان يوحي بدلالة كبرى، حيث البرواز الأكبر الذي تجلس فيه سندس بشخصياتها الثلاث وهي تراقب كافة ما يحدث في حياة فؤاد، بل تتداخل في الوقت الذي تريده، وتقوم بتعديل الأحداث كيفما تشاء. تقسيم مناطق المسرح نجده في الجزء الأمامي من خشبة المسرح الذي يعبر عن الذكريات واستحضار الماضي، بالإضافة إلى استخدام باب الفيلا في أكثر من مرة كمركز للشرطة أو للانتقال بين المشاهد. وجدير بالذكر أن التنسيق الخاص بالديكور ساهم في دمج المتلقي مع العرض المسرحي.

هل أصبح التهرب من المسؤولية إرثًا؟
التهرب من المسؤولية كان جزءًا من شخصية الأب منذ البداية، وقد أورث بعض أبنائه هذه الصفة. نجد أن شخصية فؤاد تجسد بمرحلتين زمنيتين مختلفتين. فؤاد الكبير يجسده كريم خالد، وفؤاد الصغير يجسده أسعد محمد. كل شخصية تمثل مرحلة زمنية مختلفة تعكس هروب فؤاد من المسؤولية في كل مرحلة. عندما شعر بالمسؤولية تجاه طفل، قرر التخلص من سندس وطفلتها، وحينها فقد جزءًا من أمواله. وعندما كبر، تهرب من مسؤولية الصرف على أسرته، وتجنب الضرائب، ولم يتدخل في شؤون أبنائه.
نجد أيضًا أن فؤاد يعلم أن ابنه زين، الذي يجسد دوره الممثل والمخرج عبد الرحمن أشرف، قد تزوج من زوجته لاستغلال ثروة والدها. كما يعلم أن ابنه يوسف، الذي يجسد دوره مروان جاد، قد رُفض من القنصلية ولم يقدم له المساعدة ليشق طريقه. أما عصام، الذي يجسد دوره أحمد مصطفى، فقد تحول تدريجيًا مثل والده إلى شخص يتهرب من الواقع، ويعلق أخطائه على إعاقته. وأخيرًا، نجد الابن الأصغر الذي يستغل الطرق غير المشروعة ليحصل على المال.
عرض روبيك عن نص”زيارة السيدة العجوز” لفريدريش دورنمات، من تأليف وإخراج يوسف المنصور، شارك في العرض المسرحي:  ريهام عبد النبي، مارينا عبده، ندى وليد، كريم خالد، أسعد محمد، عبد الرحمن أشرف، أحمد مصطفى، مروان جاد، حسام حسن، ميرا أشرف، إبرام اسام، ملك البنا، عبد الرحمن سامي، أسامة طلعت، خالد ناجي، فادي عزت، سيف فؤاد، شهد جمال،عبد الرحمن رشاد،  ديكور أحمد شيربي، مخرج منفذ محمد الأسمراني، موسيقى شادي شوارب، تنفيذ موسيقى أحمد حداد،  إضاءة محمود السعدني، مكياج محمد شاكر، ملابس ميرا أشرف، مساعدي الإخراج: عبده رشاد _ نور أسامة، اسلام الشربيني_ مختار أبو السعد، إسراء خيري _ أحمد خالد_ سيف فؤاد.


جهاد طه