بين مسرح الفضـاءات البديلة والمسرح المصري القديم

بين مسرح الفضـاءات البديلة والمسرح المصري القديم

العدد 891 صدر بتاريخ 23سبتمبر2024

أتعجب عمن يرهق نفسه في البحث المسرحي بشأن العلاقة بين مسرحنا وتاريخ ارتباطه بالمسرح في صورته الحديثة، مؤكدًا نفي علاقتنا القديمة بالمسرح، ومستسلماً لتصنيف ما قدمه المصريون في هذا المجال تحت اسم «ظواهر مسرحية» والاكتفاء بأن معرفتنا بالمسرح لا تبعد أكثر من 150 سنة فقط ..!
أعيب هنا على الأكاديميين ممن استسلموا إلى ذلك، واعتبارهم بأن أي جهود تحاول اثبات غير ذلك ما هي إلا ميول عاطفية لا يجب أن نستجيب لها، وأتساءل (وهل من العيب أن يكون الانتماء دافعاً للباحث في تحقيق بحثه مع التزامه بمنهج البحث العلمي؟) لماذا لم ننحي التعريف الغربي للمسرح -الذي يعتمد على الشكل- جانباً، ونصنف المسرح وفق المضمون وتوافر مقومات الفرجة من «مكان للتشخيص» و«مكان للمتفرجين»، بما يؤكد عراقة علاقتنا بالمسرح منذ العصور القديمة، عروض الأماكن المفتوحة أو الفضاءات المكانية، والتي اصطلح الغرب والأكاديميون على تسميتها بظاهرات مسرحية أو ظواهر احتفالية (دينية، تنصيب، زواج، ميلاد، ..»، بينما قصروا المسرح على كل ما يرتبط بشكل ومقومات العلبة الإيطالية، وليذهب الباحثون لدينا لتأكيد ثنائية «الخشبة والصالة» مع الترويج لها كنموذج يحتذى به وعلينا أن نقارع الأوربيون فيه لإيجاد مكانة لنا بينهم ..، وفي رأيي أن ذلك أضر بمسرحنا، وما كان ينبغي عليهم التسليم به، ولنا في محاولات الغرب -التي بدأها في السنوات الأخيرة بالتمرد على مسرح العلبة والاتجاه للبحث عن فضاءات حديدة غير مألوفة بديلة كحلول تعمل على جذب الجمهور الذي بات من الصعب جذبه في ظل الوسائط الاتصالاتية الحديثة التي تشده إليها، وذلك بتقديم المسرحيات للمتفرجين في الأماكن المختلفة والعامة، وأرى أن في هذا اعترافا ضمنيا يلغي نفي صفة المسرحة عن مسرحنا المصري القديم، فها هم يروجون لبضاعتنا القديمة باعتبارها حلول جديدة، وماهي بجديدة وإنما هي بضاعتنا القديمة يستولي عليها الغرب الطامع - على مر العصور – فينا و في ثقافتنا، .. ومن هنا ألفت الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بالاستفادة من هذا التحول في المشهد العالمي بالعمل على تأكيد عراقتنا بهذا الفن الراقي.
إن علاقة مصر من خلال تلك الفضاءات القديمة بالمسرح هي الأصل، وأن تجاربنا التي اشتغلنا عليها في اتجاه مسرح العلبة أضرت بمسرحنا القديم، وأننا لو كنا عملنا على تطوير تلك الأشكال واشتغلنا عليها بنفس حماسنا لظاهرة مسرح العلبة الإيطالية -الجديدة- لبلغنا ما بلغناه من التقدم في فنونا تلك -التي يتماس جوهرها مع مقومات المسرح الحديث- بغض النظر عن التوصيف الذي حددوه لتعريف المسرح، فها هم يتماسون مع تجاربنا المسرحية الأصيلة في الفضاءات المختلفة التي ترجع لعهد الفراعنة، بما يبرز أن مسرح العلبة - في حقيته - كان فضاءً بديلًا لمسرحنا المصري القديم، (المسرح الطقسي، ومسرح التتويج، والمسرح الشعائري، ومسرح المناسبات، و..) وغيرها من المسارح التي تحقق عملية «الفرجة»، وتنشأ فيها علاقة بين كل من «المؤدي والمتفرج»، أو التي تتولد بين مكانين «مكان العرض ومكان الجمهور»، وعليه؛ يتضح أن المسرح الذي ذهبوا الى تصنيفه أو تسميته بالظاهرات المسرحية (أراجوز، وخيال ظل، وصندوق دنيا، وحاوي، وبيانولا، ومحبظاتية، و..) وغيرها من ظواهر مسرحية عربية يتحقق منها الفرجة المسرحية هي مسرح مكتمل المقومات بعيدا عن توصيف الذي ذهبوا إليه، هذا؛ ومن جانب أخر فإن عروض الفضاءات المفتوحة تتسم عن غيرها بأنها تكون متجددة بطبيعتها مع إعادتها في كل ليلة عرض جديدة، تكتسب من التغير السينوغرافي للأماكن المتغيرة سمات وملامح جديدة، بل ومن اختلاف طبيعة الجمهور في كل منها وتباين التفاعل معها، بما يجعل لكل ليلة عرض منها خصوصيته.
وحديثاً أيضاً كانت هناك عروضًا للمسرح تقدم في الأماكن المفتوحة (بالشوارع وبالأجران وفي المقاهي والملاهي والصالات، والقاعات والغرف والساحات و..، وغيرها من المسميات) ممن لم تذهب إلى الاقتياد بالمسرح في صورته الغربية ..، ونتجاوز كل هذا لنصل إلى النصف الثاني من القرن الماضي، ومع ظهور اتجاه التأصيل للمسرح العربي أو المصري كنوع من الرغبة في تحقيق الذات والتمرد على العلبة الإيطالية التي عملت حاجزاً بينها وبين المتفرج، فكانت الدعوة إلى النزول إلى الجمهور للاقتراب منه ومن قضاياه لجذب اهتمامه، وهي في حقيقتها دعوة للعودة إلى تراثنا القديم، أو ردة للاستعانة بما كان يعبر عنا، نقدمه ونتقنه، فكان مسرح محمود دياب وألفريد فرج ومحاولات يوسف إدريس، كان مسرح الجرن ومسرح الفلاحين، وتجارب د. هناء عبد الفتاح وسرور نور وأحمد إسماعيل، ود. عبد الرحمن عرنوس، وكان مسرح الثقافة الجماهيرية - المنتشر ببقاع محافظات مصر المختلفة - يبحث عن فضاءات جديدة لعروض مختلفة تؤكد هويتنا، ذلك المسرح الذي تنبه لضرورة التأكيد على تلك النوعية من المسرح باعتباره مشروعاً قومياً، بدأ الإعلان عنه فعلياً “كمشروع” منذ أكثر من ربع قرن، بإطلاق مشروع تجارب الأماكن المفتوحة أو الأماكن الخاصة عام 1998م، والاصطلاح على تسميته مؤخراً بمسرح التجارب النوعية. ونتذكر من تجارب ذلك المشروع، مسرحية “ثمن القمر” التي تم تقديمها في قرية “بسيون” بالغربية والتي تم تقديمها على شاطئ مجرى مائي “ترعة”، وجرت بعض أحداثها بقارب في المجرى المائي، وهي من تأليف “طارق عمار” وإخراج “السيد فجل”، كذلك تجربة “زمن خلص” والتي أجريت بساحة سراي “خالد محي الدين” بمدينة “كفر شكر” بمحافظة القليوبية، وتناولت إحدى الموضوعات الأصيلة التي تمس المرأة المصرية، التجربة “دراماتورج” محمد الفيل، وإخراج “محمود الشوربجي”، ومسرحية “شمهورش الكداب” التي قدمت بإستاد مدينة “دكرنس” بمحافظة الدقهلية من تأليف “عبد المعطي شعراوي” وإخراج “د. رضا غالب”، .. وغيرها من التجارب التي استمرت في التقديم من خلال هذا المشروع، وأخرها كانت مسرحية بعنوان “كلوز آب” التي قدمت داخل شقة بإحدى العمارات العتيقة بحى الأزاريطة بمدينة الإسكندرية، تأليف “عادل أنور” وإخراج “د. محمد عبد المنعم”.
وإلى جانب مشروع مسرح الثقافة الجماهيرية، من المهم الإشارة إلى وجود أماكن تراثية خاصة يتم استغلالها بالاستفادة من طرازها المعماري القديم بتقديم عروض مسرحية فيها لتشع بظلالها على العروض، ومن تلك الأماكن (قبة الغوري، بيت الهواري، بيت السحيمي، زينب خاتون، قصر الأمير طاز، قصر ثقافة الغوري، الحديقة الثقافية بالحوض المرصود، ..) وكلها أماكن تحمل في طيها عبق الماضي ليلقي على الحاضر بظلال فتراتها التاريخية ولتذكرنا بالأحداث التي ارتبطت بها، بما يعمل على مد الجسور بين الماضي والحاضر، ومن ثم فتح مسار جديد للتبصير بأبعد هويتنا الثقافية.
هذا كله؛ غير كثير من التجارب المسرحية التي قدمت بأماكن ارتبطت باسمها، مثل (مسرح الغرفة، مسرح الحجرة، مسرح القهوة، مسرح الشارع، مسرح القاعة، ..) وغيرها من تجارب لها مقومات خاصة تختلف عن مقومات مسرح العلبة الإيطالية.
وعلى مستوى تجربتي الشخصية في الإخراج؛ قدمت عدد من التجارب التي تنتمي لتلك النوعية من المسرح دون ترتيب لذلك، ربما كان بعضها لظرف أن الفرق لم يكن لديها مسارح، فقدمت مسرحية “برجلاتك” بساحة مركز شباب تفتيش كفر سعد، وهي من تأليف “محمد الشربيني”، ومسرحية “الكلمات المتقاطعة” تأليف “نجيب سرور” وقدمتها بساحة مركز شباب مدينة فارسكور، ومسرحية “الخليفة” تأليف “عبد الغني داود” وتم عرضها بالشارع أمام قصر ثقافة كفر سعد حيث تجرى أحداثها بمولد تم تشكيله وانشاء مفرداته بالشارع، وأذكر من مسرحياتي “التوهة” والتي قدمت بفرقة نادي مسرح دمياط 1996، حيث تلبست ثوب صاحب جوقة تمثيل، جوبت بها الشوارع والأسطح والساحات والقاعات الكبيرة، فقدمتها في ساحة قصر ثقافة الاسماعلية في اطار فعاليات المهرجان السادس لنوادي المسرح، وساحة مركز شباب زفتى، وفوق سطح أحد مراكز الشباب بقرية كفر سعد البلد، وبقاعة نادي المسرح بقصر ثقافة دمياط في افتتاح مؤتمر دمياط الأدبي 1995، وأيضاً في هول القصر في اطار أحد الاحتفالات الرمضانية، وهذا بالإضافة إلى تجارب أخرى لم تعتمد على الأماكن المفتوحة من مسرح الغرفة أو مسرح القاعة مما تتحقق فيها حميمية التصاق الممثل بالمتفرج، أو أخرى تعتمد على الملحمية التي  تنفتح في توجهها إلى المتفرج مباشرة.


ناصر العزبي